د. محمد عبدالله القواسمة - الصعلكة الشعرية المعاصرة... غنى الشعر وفقر الشعراء

الصعلكة ظاهرة شعرية اجتماعية عرفها العرب قبل الإسلام. وهي تشير في الأصل إلى جماعة الشعراء الذين تمرّدوا على قوانين القبيلة، أو نبذتهم قبائلهم، وانفردوا بشخصياتهم الاجتماعية والشعرية. وكان أغلبهم من الضعفاء والفقراء؛ فعملوا على قطع الطرق والسلب والنهب كي يبقوا على قيد الحياة بما يسلبونه من الناس.

لقد استمرت الظاهرة في الوجود حتى العصر الحالي، ولكن طرأ تغير واضح على المفهوم بفضل تغير الظروف الحياتية للناس، وتعقد الواقع. إذ حلت الدولة محل القبيلة، وظهرت المدينة بدل الصحراء، ولم يعد الصعلوك يعني ذلك الرجل الشجاع الذي يُغير على الأغنياء ويأخذ أموالهم ليوزعها على رفاقه الصعاليك وفقراء قبيلته وغيرهم من القبائل الأخرى. فظهر في هذا العصر شعراء ممن عانوا الفقر والحرمان وضاعوا على أرصفة المدن العربية وشوارعها. فلم يقدروا على التعايش مع الواقع، كما أنهم لم يحاولوا، كما فعل أجدادهم الصعاليك، اللجوء إلى الغزو وقطع الطرق فانزوى بعضهم وفقره عن المجتمع، وذهب بعضهم إلى الانتقام من ذاته بإدمان المخدرات ومقارعة الكأس.

لقد تحدث كتابان مهمان عن ظاهرة الصعلكة في العصر الحديث: الأول بعنوان" الصعلكة في الشعر العربي الحديث: تحولات النص والمفهوم" 2016م، لمحمد عليم أستاذ الأدب العربي في الجامعة العربية المفتوحة، والثاني بعنوان " الصعلكة في الشعر المصري الحديث" 2004م للدكتور عاطف بهجات. ويتوسع الكتابان في فهم الصعلكة فيعدان الشعراء: أحمد عبد المعطى حجازي، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، ونجيب سرور من الصعاليك. حتى إن عاطف بهجات يجعل من مجيئهم إلى المدينة من القرية يحاكي خروج الشعراء الصعاليك من بين قبائلهم إلى الصحراء. ولعل وصف هؤلاء بالصعاليك لهذا السبب أو لما يتصف به شعرهم من الرفض للواقع، والتمرد على الحكم، والمطالبة بالعدل والحرية غير موفق، فهو لا يراعي التغير في دلالة المفهوم، كما أن لفظة صعلوك في هذا الوقت تثير النفور؛ لأنها تحمل أنفاسًا من معناها الاصطلاحي القديم (قطع الطرق)

والحقيقة أن صعاليك العصر الحديث هم الشعراء المعدمون الفقراء الذين لا حظ لهم في الحياة. أو الذين ارتضوا حياة الكسل والتسكع في الشوارع والمقاهي، من أمثال الشاعر المصري عبد الحميد الديب(1898- 1943) الذي لقب بوريث الصعاليك، ومضى فقيرًا مديونًا، ثم غرق في السكر والعربدة، وسقط في الإدمان على المخدرات، فزج في السجن عدة مرات وانتهى به الأمر إلى مستشفى الأمراض العقلية. يقول من قصيدة بعنوان "أنا ورمضان" يصف ما آل إليه من فقر وأسى:

صابر طول الحيا زاده تقوى الإله

صابر ما قال آه أيها الناس ارحموه

ها هو المغربُ وافى.. أين زادي؟ وعيالـي في ارتقـابٍ لمعـادي

ليسَ غيرُ الدمعِ زادي وعتـادي موقفٌ أقتَـلُ من وقعِ الزنـادِ!.

ومن الصعاليك الشاعر العراقي عبد الأمير عبّود مهدي الحُصَيْري (1935 – 1978). كان يلقب بملك الصعاليك، لم يشأ أن يكمل دراسته، وصار يتسكع في شوارع بغداد متنقلًا من حانة الى أخرى، وينام في أي مكان: شارع أو مقهى أو حانة حتى إنه نام ليالي كثيرة في المقبرة الإنكليزية وسط بغداد. وقيل إنه كان يبيع قصائده إلى شعراء ليعتاش بثمنها، ويعطي منه لأصدقائه، كما كان يفعل عروة بن الورد لرفاقه من الصعاليك. لقد آثر الحصيري الصعلكة وحياة التشرد على الحياة المستقرة في وظيفة أو عمل؛ لأنها لا تتوافق مع أفكاره ومبادئه. وكانت نهايته في فندق الكوثر وهو فندق متواضع بطرف الكرخ ولم يُعلم بها إلا في اليوم الثاني بوساطة شرطة الكرخ. ولم يحضر عملية دفنه في مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف غير أقاربه ونخبة من أصدقائه الشعراء، من بينهم الشاعر المعروف سعدي يوسف الذي قرأ قصيدة على قبره.

ومن شعره في ديوانه" أنا الشريد" يقول واصفًا حالته البائسة من فقر وجوع:

أجائعٌ؟ أي شيء ثمّ يا قلقُ؟ أَمنْ حطامي هذا يمطر العبقُ؟

إنْ كنتَ تحلم في قلبي، فإن دمي من جوعه بات فيه الجوع يحترقُ!

ألم يشرّدكَ تشريدٌ يمزّقني عيناي أظفاره العمياء تأتلقُ

ما زلت طفلا غريرا، كيف تقربني أنا التشرد والحرمان والأرقُ؟!

أنا الشريد!! لماذا الناس تذعر من وجهي؟ وتهرب من قدامي الطرق؟!

وكنت أفزع للحانات، تشربني واليوم!! لو لمحت عيني، تختنق!

قد بِت أمضغ أعراقي وأوردتي وأرتوي من جراحاتي…. وأنسحق

ومن الشعراء الصعاليك الشاعر لعراقي جان دمو (1942 – 2003) الذي عاش حياة بوهيمية، وسكن في غرفة رثة في بناية من بنايات أزقة الـ"حيدر خانة" وسط بغداد. وكان يمضي وقته في المقاهي والحانات. وفي هذه الأجواء جاءت مجموعته الشعرية "أسمال" (1993) التي رأت النور بمساعدة من أصدقائه. ونراه يتحدث عن نهايته شعرًا:

تقضم كمثرى النوم
وتستريحُ على ركام من الحيل والخاطر والاندحارات
وتستريح فوق قطار الأمس
وتظلُّ أسباحُكَ نابضةً، قوية، حيّة:
إنهم رفاقك الخالدون.
فارغة الموائد
كقلب الليل
كمعادلات آينشتاين: وها أنت
تركض باتجاه سراب اللحظات
إنك ثمل . إنك ظمآن...
ثمل وظمآن أكثر مما ينبغي: وهذه الحياة
هذه هي اللانهاية!

ومثل هؤلاء الشعراء نتعرف إلى الشاعر والروائي والفنان السوداني محمد حسين بهنس( 1972- 2013 ) الذي تدهورت أحواله المالية أثناء إقامته في حي العتبة بالقاهرة حتى إنه فقد المأوى والطعام ولم يكن له ملجأ غير الرصيف، وقضى على أحد أرصفة ميدان إبراهيم باشا بالعتبة، ولم يكتشفوا جثته إلا بعد يومين من الوفاة، وفي البدء لم يتعرف عليه أحد وهو في مشرحة الدقي، فكتبت السلطات اسمه في قائمة المجهولين. وجاء تقرير الطب الشرعي أن سبب وفاته البرد والجوع.

يقول بهنس في قصيدة راسمًا ما عاناه في حياته من فقر وإهمال:

بهديك الفوضى
شجار طفلين في ساحة روضة
بهديك الغربة، هتاف الموتى وصمت التربة
بهديك حزنك.. وبعد إذنك بهديك إحباطي
حديث عابر في مركبة عامة بصوت واطي
بهديك طلة لبيوت الخيش، وخيم تفتيش
وأسواق أرخص ما فيها حليفة الله!
بهديك متمرد، والنيل في الجركانات باعوهو برد
بهديك.. ولا شي!
واقطع وديان السهو مشي.

والخلاصة، إن الصعلكة المعاصرة لم تكن خاضعة لمعايير الصعلكة ومقاييسها التي عرفت في العصور الماضية، وبخاصة في العصرين الجاهلي والإسلامي. إنها صعلكة كان للشعراء أنفسهم الضلع الأقوى في الوقوع فيها بل وصنعها أحيانًا. لكن في اعتقادي لو أنهم لاقوا الاحترام والتقدير من مجتمعهم ومن السلطات الثقافية في بلادهم لما وجد أمثالهم، أو ربما لم يكونوا على تلك الحالة من الضياع والفقر. وفي كل الأحوال يظل لأولئك الشعراء قيمتهم وأهميتهم بوصفهم مصدر ثراء للشعر العربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى