وليمةٌ لأعشابِ البحر، روايةٌ يصعبُ تأطيرُها في سياقٍ محددٍ، إنّها وليمةٌ سرديّةٌ دسمة.
روايةٌ سياسيةٌ، فلسفيةٌ، عبثيةٌ، اجتماعيةٌ، إنسانيةٌ، واقعيةٌ، كلُّ ذلك أو غيرَ ذلك.... هيكلَت أحداثَها وقائعُ ومجرياتٌ سياسيةٌ دارت في ذلك الوقتِ في دولٍ عربيةٍ منها العِراق والجزائر..ومازالت إلى اليوم بشكلٍ أو بآخر، ويبدو أنَّ الأحداثَ المتعلّقةَ بالإتحادِ السوفيتي والحزب الشيوعي في تلك الفترةِ لعبت دورًا بالإضافةِ لإيدولوجيّة الكاتبِ في رسمِ طريقِ العملِ الروائي.
وليمةٌ لأعشابِ البحرِ أثّثها المؤلفُ بتفاصيلٍ من مخيّلةٍ واقعيةٍ إبداعيةٍ خِصبةٍ تجيدُ التدويرَ والإسقاطَ، ونفْخَ روحِ الدهشةِ في جسدِ الصورِ والتراكيبَ اللغويّةِ، إلى جانبِ كل هذا ، تمكّن حيدر حيدر من تقديمِ ملخصاتٍ عن الحالةِ الاجتماعيةِ العامةِ في نطاقاتِ العملِ الروائي المكانيةِ في ذلك الوقت، الأمرُ الذي جعلَ هذه الروايةَ من الرواياتِ التي استطاعت التأريخ لمرحلةٍ مهمّةٍ، مع العلمِ بأنّ هناك من شكّكَ بما قدّمه حيدر حيدر من معلوماتٍ تتعلق بالثورةِ الجزائريةِ تحديدا على اعتبار أنها مغلوطةٌ.
وليمةٌ لأعشابِ البحرِ خاطبت العقلَ بفلسفةٍ وعبثيّةٍ، فيها من الإمتاعِ ما يرهقُ، ومن القدرةِ على إتقانِ السردِ ما يشتتُ، شعرت أن هذه الروايةَ قد تكون روايةً رسائليةً لكن بمفهومٍ جديدٍ ومختلفٍ،كما أنها قد تكون بمثابةِ صرخةَ الثوراتِ المجهضةِ، وصرخةَ الثورةِ الجنين، والثورةَ الفِكرة، وصرخةً في وجهِ الأصوليّةِ والظلاميةِ، كما أنّها شكّلت بواباتٍ كثيرة، منها بوابةٌ لعبورِ ايدولوجيّة الكاتبِ من خلالِ شخصيتي مهدي جواد ومهيار الباهلي.
وبوابةٌ للانفتاحِ على النفسِ البشريةِ وإسبارِ خفاياها وطرائقَ تفكيرِها من خلالِ شخصياتٍ متعددةٍ في العملِ كفلّة وللا- فضيلة وأسيا.
إنّها من الأعمالِ الروائيةِ التي تركت أثرًا لا يستهان بهِ، كونها تحملُ رسالةً سياسيةً ومفاهيمَ لربّما أسهمت في تشكيلِ وعيِ الكثيرين، فالروايةُ الحقيقيةُ هي تلك التي ندينُ لها بالوعي، من خلالِ إعمالِ أزاميلَ الفكرِ في جدارِ التابوهات،
فالروايةُ دخلت في تابوهات كان الدخولُ اليها في ذلك الوقت أشبهَ بمقامرةٍ بالحياةِ، خاصةً في وقتٍ تنمو فيه بكثرةٍ حشائشُ ما يسمى ((بالصحوةِ))، وعندَ إعادةِ نشرِها وتولّي الكاتبِ إبراهيم أصلان هذه العملية في مصرَ، كما نعلم جميعا حدثت الضّجةُ في الأزهر التي تزامنت معها ضجّةٌ مجتمعيةٌ واحتجاجاتٌ طلّابيةٌ لن أخوضُ أكثر في منعِ تداولِ العملِ فأسبابُه معروفةٌ للجميع، ولكنّني توقفت عليه بشكلٍ سريعٍ ليكونَ بمثابةِ نقطةٍ لبثِ تساؤلاتٍ أختمُ فيها ورقتي هذه.
التساؤل الأوّل: هل كان منْعُ تداولِ الروايةِ سبباً لمنحها شهرةٍ غيرِ مستحقّةٍ؟
يصفُ هاروكي ماروكامي الكتابةَ بأنّها بالنسبةِ إليه على حدِّ تعبيرهِ:بالعمليةِ المؤلمةِ، تبادرَ إلى ذهني هذا الوصفُ عندما بدأتُ بالتعمّقِ في قراءتي لتفاصيلَ تتعلّقُ بخلقِ هذه الروايةِ وبما دارَ حولها وما خلّفته من أثرٍ بعدها، روايةٍ أخذت من كاتبِها تسعَ سنواتٍ لكتابتها في ظلِّ ظروفٍ سياسيةٍ صعبةٍ،
فهل كانت الكتابةُ عمليةً مؤلمةً له؟ خاصّة وأنّ قراءتها متعبة ومؤلمة ومُرهِقة.
قرأت الروايةَ منذُ سنواتٍ، بعد منْعِ تداولِها أو لأكونَ أكثرُ دقّةً بعد أن سمعت بأسبابِ منْعِ تداولِها، فهل كانت لتظلّ محصورةً بعددٍ قليلٍ من القرّاءِ لو لم تمنع؟ أو ربما تركن بعدها على الرفِّ كروايةٍ لغتُها ثقيلةٌ ومجرياتُها كالبحرِ، الإبحارِ فيها لن يجلب غيرَ الصداعِ لصعوبةِ الإمساكِ بخيوطِها، مع أني من الذين وجدوا صداعَها من النوعِ الفاخرِ حينها.ك برغم صعوبتها.
التساؤل الثاني: انتصارُ المثقفين المصريين للروايةِ ولحيدر حيدر ولإبراهيم أصلان وحمدي أبو جليل ولحريةِ الكتابةِ الإبداعيةِ، فهل كان هذا الانتصارُ الذي سبقته عاصفةٌ من الشهاداتِ الوازنةِ والقويةِ من الكتابِ المصريين لصالح العمل الروائي هو السببُ الرئيسُ لشهرةِ العملِ ولحمايةِ حياتهِ، وإنقاذ أصلان وجليل المتهمان في نشر هذا العمل؟
التساؤل الثالث: هل جاءت شهرة هذه الرواية لأنّها عملٌ روائيٌ متكاملٌ لامسَ نبضَ الشارعِ العربي بالرغمِ من لغتهِ النخبويةِ وبالتالي كلُّ ما سبقَ مصادفةٌ غيرُ مُقرِّرةٍ؟
في الختامِ: في بحرِ هذه الروايةِ موائدٌ كثيرةٌ، أجملُ الأنفاسِ وأعمقُها كانت تلك التي تنفستها وأنا أتخيّلُ حيدر حيدر وهو ممسكٌ ببكرةِ جمالياتِ اللغةِ ويسحبُ خيطَها من أوّلِ العملِ إلى نهايتِهِ .. لقد أولمَ بذكاءٍ لقارئهِ.
نور الرواشدة / الأحد 11/6/2023
(مشاركة في ندوة حول رواية وليمة لأعشاب البحر
مجموعة: [أكثر من قراءة] )
روايةٌ سياسيةٌ، فلسفيةٌ، عبثيةٌ، اجتماعيةٌ، إنسانيةٌ، واقعيةٌ، كلُّ ذلك أو غيرَ ذلك.... هيكلَت أحداثَها وقائعُ ومجرياتٌ سياسيةٌ دارت في ذلك الوقتِ في دولٍ عربيةٍ منها العِراق والجزائر..ومازالت إلى اليوم بشكلٍ أو بآخر، ويبدو أنَّ الأحداثَ المتعلّقةَ بالإتحادِ السوفيتي والحزب الشيوعي في تلك الفترةِ لعبت دورًا بالإضافةِ لإيدولوجيّة الكاتبِ في رسمِ طريقِ العملِ الروائي.
وليمةٌ لأعشابِ البحرِ أثّثها المؤلفُ بتفاصيلٍ من مخيّلةٍ واقعيةٍ إبداعيةٍ خِصبةٍ تجيدُ التدويرَ والإسقاطَ، ونفْخَ روحِ الدهشةِ في جسدِ الصورِ والتراكيبَ اللغويّةِ، إلى جانبِ كل هذا ، تمكّن حيدر حيدر من تقديمِ ملخصاتٍ عن الحالةِ الاجتماعيةِ العامةِ في نطاقاتِ العملِ الروائي المكانيةِ في ذلك الوقت، الأمرُ الذي جعلَ هذه الروايةَ من الرواياتِ التي استطاعت التأريخ لمرحلةٍ مهمّةٍ، مع العلمِ بأنّ هناك من شكّكَ بما قدّمه حيدر حيدر من معلوماتٍ تتعلق بالثورةِ الجزائريةِ تحديدا على اعتبار أنها مغلوطةٌ.
وليمةٌ لأعشابِ البحرِ خاطبت العقلَ بفلسفةٍ وعبثيّةٍ، فيها من الإمتاعِ ما يرهقُ، ومن القدرةِ على إتقانِ السردِ ما يشتتُ، شعرت أن هذه الروايةَ قد تكون روايةً رسائليةً لكن بمفهومٍ جديدٍ ومختلفٍ،كما أنها قد تكون بمثابةِ صرخةَ الثوراتِ المجهضةِ، وصرخةَ الثورةِ الجنين، والثورةَ الفِكرة، وصرخةً في وجهِ الأصوليّةِ والظلاميةِ، كما أنّها شكّلت بواباتٍ كثيرة، منها بوابةٌ لعبورِ ايدولوجيّة الكاتبِ من خلالِ شخصيتي مهدي جواد ومهيار الباهلي.
وبوابةٌ للانفتاحِ على النفسِ البشريةِ وإسبارِ خفاياها وطرائقَ تفكيرِها من خلالِ شخصياتٍ متعددةٍ في العملِ كفلّة وللا- فضيلة وأسيا.
إنّها من الأعمالِ الروائيةِ التي تركت أثرًا لا يستهان بهِ، كونها تحملُ رسالةً سياسيةً ومفاهيمَ لربّما أسهمت في تشكيلِ وعيِ الكثيرين، فالروايةُ الحقيقيةُ هي تلك التي ندينُ لها بالوعي، من خلالِ إعمالِ أزاميلَ الفكرِ في جدارِ التابوهات،
فالروايةُ دخلت في تابوهات كان الدخولُ اليها في ذلك الوقت أشبهَ بمقامرةٍ بالحياةِ، خاصةً في وقتٍ تنمو فيه بكثرةٍ حشائشُ ما يسمى ((بالصحوةِ))، وعندَ إعادةِ نشرِها وتولّي الكاتبِ إبراهيم أصلان هذه العملية في مصرَ، كما نعلم جميعا حدثت الضّجةُ في الأزهر التي تزامنت معها ضجّةٌ مجتمعيةٌ واحتجاجاتٌ طلّابيةٌ لن أخوضُ أكثر في منعِ تداولِ العملِ فأسبابُه معروفةٌ للجميع، ولكنّني توقفت عليه بشكلٍ سريعٍ ليكونَ بمثابةِ نقطةٍ لبثِ تساؤلاتٍ أختمُ فيها ورقتي هذه.
التساؤل الأوّل: هل كان منْعُ تداولِ الروايةِ سبباً لمنحها شهرةٍ غيرِ مستحقّةٍ؟
يصفُ هاروكي ماروكامي الكتابةَ بأنّها بالنسبةِ إليه على حدِّ تعبيرهِ:بالعمليةِ المؤلمةِ، تبادرَ إلى ذهني هذا الوصفُ عندما بدأتُ بالتعمّقِ في قراءتي لتفاصيلَ تتعلّقُ بخلقِ هذه الروايةِ وبما دارَ حولها وما خلّفته من أثرٍ بعدها، روايةٍ أخذت من كاتبِها تسعَ سنواتٍ لكتابتها في ظلِّ ظروفٍ سياسيةٍ صعبةٍ،
فهل كانت الكتابةُ عمليةً مؤلمةً له؟ خاصّة وأنّ قراءتها متعبة ومؤلمة ومُرهِقة.
قرأت الروايةَ منذُ سنواتٍ، بعد منْعِ تداولِها أو لأكونَ أكثرُ دقّةً بعد أن سمعت بأسبابِ منْعِ تداولِها، فهل كانت لتظلّ محصورةً بعددٍ قليلٍ من القرّاءِ لو لم تمنع؟ أو ربما تركن بعدها على الرفِّ كروايةٍ لغتُها ثقيلةٌ ومجرياتُها كالبحرِ، الإبحارِ فيها لن يجلب غيرَ الصداعِ لصعوبةِ الإمساكِ بخيوطِها، مع أني من الذين وجدوا صداعَها من النوعِ الفاخرِ حينها.ك برغم صعوبتها.
التساؤل الثاني: انتصارُ المثقفين المصريين للروايةِ ولحيدر حيدر ولإبراهيم أصلان وحمدي أبو جليل ولحريةِ الكتابةِ الإبداعيةِ، فهل كان هذا الانتصارُ الذي سبقته عاصفةٌ من الشهاداتِ الوازنةِ والقويةِ من الكتابِ المصريين لصالح العمل الروائي هو السببُ الرئيسُ لشهرةِ العملِ ولحمايةِ حياتهِ، وإنقاذ أصلان وجليل المتهمان في نشر هذا العمل؟
التساؤل الثالث: هل جاءت شهرة هذه الرواية لأنّها عملٌ روائيٌ متكاملٌ لامسَ نبضَ الشارعِ العربي بالرغمِ من لغتهِ النخبويةِ وبالتالي كلُّ ما سبقَ مصادفةٌ غيرُ مُقرِّرةٍ؟
في الختامِ: في بحرِ هذه الروايةِ موائدٌ كثيرةٌ، أجملُ الأنفاسِ وأعمقُها كانت تلك التي تنفستها وأنا أتخيّلُ حيدر حيدر وهو ممسكٌ ببكرةِ جمالياتِ اللغةِ ويسحبُ خيطَها من أوّلِ العملِ إلى نهايتِهِ .. لقد أولمَ بذكاءٍ لقارئهِ.
نور الرواشدة / الأحد 11/6/2023
(مشاركة في ندوة حول رواية وليمة لأعشاب البحر
مجموعة: [أكثر من قراءة] )