د. محمد عبدالله القواسمة - بين إبراهيمين

ما يلفت الانتباه في الأعمال الشعرية للشاعر الدكتور إبراهيم الكوفحي، التي صدرت في عمان عن دار الإسراء عام 2019م تلك المقطوعات والقصائد التي يتوجه فيها الشاعر الكوفحي إلى أصدقائه ومحبيه، فيما يعرف بالشعر الإخواني أو الشعر الشخصي أو الخاص. ونحن نحبذ أن نسميه الشعر الإخواني انسجامًا مع ذلك النوع من الرسائل النثرية والشعرية التي عرفت بالرسائل الإخوانية، إنه شعر المودة والصداقة الذي تمتد جذوره قديماً في الشعر العربي، وقد اتسع وظهر نوعًا مستقلًا من الشعر في القرن السابع الهجري وبداية العصر الإسلامي الوسيط.

ولهذا الشعر أنواع كثيرة هي أنواع الرسائل الإخوانية النثرية نفسها. فقد ذكر القلقشندي(ت821هـ) أنواعًا كثيرة من هذه الرسائل، التي تظهر جانبًا من جوانب الحياة الاجتماعية لشريحة من شرائح المجتمع في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" بلغت سبعة عشر نوعًا، هي: التهاني، والتعازي، والاعتذار، والشكوى، والتهادي، والشفاعات، والتشوق، والاستزارة، والشكر، والعتاب، واختطاب المودة، وخطبة النساء، والاستعطاف، واستماحة الحوائج، والسؤال عن حال المريض، والأخبار، والمداعبة.

في أعماله الشعرية يورد الشاعر إبراهيم الكوفحي أسماء كثير من الأصحاب والأصدقاء والخلصاء الذين قامت بينه وبينهم علاقات ود ومحبة وتبادلوا معه الرسائل الشعرية، منهم الشعراء: إبراهيم العجلوني، وعلاء العرموطي، وحبيب الزيودي، وعمر حسن القيام، وناصر شبانة، ومنير شطناوي، وصالح الزهراني، وعبد الله بن سرحان القرني وغيرهم.

مع أن هذه الرسائل لشاعرنا تحتاج إلى بحث عميق ودراسة واسعة، لكننا في هذا المقال نكتفي بتناول الرسالة التي كتبها الكوفحي إلى صديقه الشاعر إبراهيم العجلوني؛ الذي يستحق التذكر؛ لأنه صديقنا المشترك من ناحية ولأن رحيله عن عالمنا نهاية العام الماضي كان مؤلمًا من ناحية أخرى.

كتب الشاعر الكوفحي مقطوعة من ثلاثة أبيات أرسلها إلى صديقه إبراهيم العجلوني:

صاح ما أندى ظلال (الحرم) و(الحطيم) الطهر و(الملتزم)

كلما اشتدت ذُكاء عطشًا أطفأتها جرعة من (زمزم)

ليتني ألقاك يومًا ها هنا أي شوق، في الحشا مضطرم

في هذه الأبيات يتذكر الشاعر الكوفحي صديقه العزيز الأستاذ العجلوني، ويستبد به الشوق إليه وهو في مكة. فينطلق ليرى، في غاية الروعة والجمال، المكان المقدس: الحرم، وبناء الحطيم قبالة الميزان من خارج الكعبة، والملتزم وهو ركن بين الحجر الأسود وباب الكعبة فمع أن درجة الحرارة في الخارج مرتفعة والشمس متوهجة فإنه يرى الجو نديًا، وماء زمزم يخفف من لهيب الشمس، ويلطف من حرارة الجسم.

إن هذه الأبيات تعبق بحب المكان والاندماج فيه، كما عند المتصوفة، وتتعمق فيها العاطفة الدينية نحو البيت الحرام، والعاطفة الإنسانية نحو الصديق العجلوني. ويتجلى فيها الإيقاع القوي، والألفاظ الجزلة، والصور المبتكرة لتعكس بوضوح ما يجري في النفس التي تتراكم فيها العواطف الدينية والروحية والإنسانية بتأثير من الخارج الملتهب بحرارة الشمس.

ويرد إبراهيم العجلوني على صديقة بثلاثة أبيات على الوزن نفسه والقافية نفسها. يقول:

أنا في (عمان) مهوى الأنجم بالغ الشقوة مأسور الدم

أين إبراهيم مني ها هنا في أساي الجاثم المضطرم

ليس إلا الله ...تدعوه لنا ضارعًا عند ظلال الحرم

تلتقي هذه الأبيات بأبيات الكوفحي السابقة، في استخدام ضمير المتكلم في مخاطبة الآخر، وإيراد بعض الألفاظ والتراكيب: ها هنا، المضطرم، ظلال الحرم. كما تلتقي بوضوح المعاني رغم جزالة الألفاظ وقوة الإيقاع بالعاطفة المحبة للمكان سواء عمان أم مكة، مع أن الشاعر العجلوني بخلاف صديقه يعاني من الشقاء والبؤس، ويرجوه أن يتضرع له إلى الله، وهو في بيته من أجل أن يخلصه مما هو فيه.

أخيرًا نرجو أن تحفزنا هذه الإطلالة على المقطوعة التي كتبها الكوفحي والمقطوعة التي كتبها العجلوني على تناول فن الترسل الشعري عامة، وما جاء منه في شعر الكوفحي خاصة، كما نرجو أن تحفزنا على دراسة الشعراء الأكاديميين، وبيان دورهم في إثراء الحياة الشعرية المحلية والعربية، بما اتصف به شعرهم من جمال اللغة، ونصاعة البيان، والمحافظة على إيقاع القصيدة القديمة والحديثة.

وفي خضم تذكرنا للمرحوم إبراهيم العجلوني نتمنى له الرحمة ولإبراهيم الكوفحي طول البقاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى