محسن القرسان - معلّقة امرئ القيس في نظر المعاصرين

أنجزه : محسن القرسان بإشراف الأستاذ حسين الواد



يتناول هذا العمل"معلّقة" امرئ القيس في نظر المعاصرين" مدى حضور هذه المعلّقة في النّقد الحديث،وابرز القراءات الّتي تناولتها بالدّرس وقد ضبطنا له المنهج التّالي:

1)الشّعر الجاهلي في النّقد الحديث:

1-تحديث قضايا الشّعر الجاهلي

2-آليات النّقد الحديث ورهاناته في قراءة الشّعر الجاهلي

2)معلّقة امرئ القيس وحضورها في النّقد

3)القراءات المعاصرة لمعلّقة امرئ القيس:

1-القراءة البنيويّة:نموذج"كمال أبو ديب"

2-القراءة النّفسيّة:نموذج"يوسف اليوسف"

3-القراءة الأسطوريّة:نظرة مجملة

خاتمة البحث:مساءلة نقديّة

ثبت لأهمّ المصادر والمراجع المعتمدة في البحث

1) الشّعر الجاهلي في النّقد الحديث



1- تحديث قضايا الشّعر الجاهلي :يأتي الاهتمام بالشّعر الجاهليّ لدى النّقاد المعاصرين في إطار الإجابة على سلسلة ملحّة وحادّة من الأسئلة:كيف نقرأ الشّعر الجاهليّ؟ما هي آليات هذه القراءة؟وما هي محصّلاتها؟ويقترن تعامل هؤلاء النّقّاد مع نصوص الشّعر الجاهليّ بجملة من المداخل الّتي" تتوازى وتتقاطع وتتعاون وتتدارك " [1]فهذا الشّعر لم يبله النّقد قديمه وحديثه،نقد يجدد آلياته ويدقق غاياته ويزاوج بين مستويين في تعامله :المستوى التنظيري والمستوى الاجرائي التّطبيقيّ.

إذ يلقى هذا الشعر اهتماما متزايدا لدى المعاصرين بشكل يربك كل محاولة لحصر الدّراسات المتعلقة به وهي دراسات تسير في اتّجاهات مختلفة منها ما يحتكم في" ثوابته النظرية والمنهجية إلى العناصر التّقليديّة المؤسّسة للعملية النقدية [2] ومنها ما يسير في اتجاه عن خصائصه"الأدبيّة" ويقيم لذلك مقاربات يستفيد فيها من حقول المعرفة المجاورة(علم النفس/علم الاجتماع/اللسانيات )

وتستدعي مصطلحات التحديث والحديث والحداثة مقابلات مفهومية لها من قبيل القديم والأصيل ويقترب إذّاك تحديث قضايا الشعر الجاهلي في النقد بتعدد زوايا النّظر إليه وتضخّم الاتجاهات التّي تدرسه ومرجعيات سائر هذه الاتجاهات فقد ارتبط الشعر الجاهلي في النّقد القديم بقضايا معيّنة من قبيل الوضع والانتحال والرواية والصدق والكذب وشرف المعتد وسنن القول والجودة والطّبع وتراجع في ذلك كتب النقد بدءا بكتب الطبقات وصولا إلى مدوّنة القرن الرّابع الغزيرة وتعريجا على كتب البلاغيين "أمّا النّقد الحديث فقد حاول أن يستحدث قضاياه وتلقى بعض المفاهيم فيه خطوة خاصة مثل البنية والدّلالة والانسجام وبلاغة الخطاب والصورة الفنية والأبعاد الجماليّة وهي مفاهيم وجّهت النّقد الحديث في تعامله مع الشّعر الجاهلي وانطلاقا من عناوين بعض المؤلّفات النقدية في هذا المجال نقف على نقطة أساسيّة وهي أنّ النّقد الحديث يعاود النّظر إلى الشّعر الجاهلي وبالتّالي فهو مسبوق إليه ونختار على سبيل المثال لا الحصر:

قراءة ثانية لشعرنا القديم -تأليف مصطفى ناصف

قراءة ثانية في شعر امرئ القيس -تأليف محمد عبد المطلب
قراءة جديدة لشعرنا القديم -تأليف صلاح عبد الصبور

إلى غير ذلك من الكتب أو فصول الكتب التي تختزن مصطلحات :جديدة /ثانية /معادة وتقترن هذه المعاودة بازدحام كثيف لمدارس النّقد الأدبيّ وقضاياه ومن أهمّ قضايا الشّعر الجاهلي/البنية /الصورة/ الجماليّة الموضوعات وقد رصدت لهذه القضايا دراسات وأطروحات مثل:

الصورة الشعرية في ديوان امرئ القيس_لدينا عوض
الشعر الجاهلي :قضاياه الموضوعية والفنية_إبراهيم عبد الرحمان

وننبّه في هذا المستوى إلى أنّ تعديد الكتب يدخل في إطار الإحالة لا الاستقراء وهو أمر سنقوم به عندما يتعلّق الأمر برصد نظرة المعاصرين إلى معلّقة امرئ القيس كنموذج عن الشّعر الجاهليّ.

2- آليات النّقد الحديث ورهاناته في قراءة الشّعر الجاهلي :تستند قراءات الشّعر الجاهليّ في مدوّنة النّقد الحديث إلى أدوات مفهوميّة مخصوصة instruments conceptuels هذه الأدوات أو الآليات تتحرّك انطلاقا من المشار الّذي يعود إلى النّقّاد وانطلاقا من المدرسة النّقديّة الموجّهة لهم،لقد صرنا نتحدّث عن اتّجاهات نقديّة في دراسة النّصّ الأدبيّ ومن هذه المدارس:النّفسيّة البنيويّة والأسطوريّة وهي مدارس تعود في مجاليها النّظريّ والتّطبيقيّ إلى آراء اللّسانيين وعلماء النّفس والأنتروبولوجيين والمهتمّين بالأسطورة والرّموز وربّما عادت إلى المنظّرين لبعض التّيّارات السّياسّية كما هو الحال في"النّقد الاشتراكيّ"وبمقدار الانتماء إلى مدرسة ما يقرّر كلّ ناقد طبيعة اشتغاله على النّصّ ومقاصده من هذا الاشتغال ويضع لنفسه كيفيات وغايات للعمل سنجرّب بعضها عند تناول معلّقة امرئ القيس وذلك في ثلاثة نماذج من هذه القراءات مختلفة:بنيويّة/نفسيّة/أسطوريّة.

وعندما نتكلّم على رهان العودة النّقديّة إلى الشّعر الجاهليّ فإنّ الأمر يصعب ويعسر خصوصا وأنّه يردّ إلى اهتمامات حضاريّة وثقافيّة زيادة على المشغل الأدبيّ ونرصد لهذه الرّهانات ثلاثة أقوال نختارها لثلاثة نقّاد:

يقول أدونيس:"غير أنّ ما أمارسه في أفق من إعادة النّظر والتّساؤل في معزل عن الكلام السّائد على الشّعر الجاهليّ وفي إطار العمل على كتابة تاريخ جديد للشّعر الجاهليّ بوصفه حدسا ودلالة وتعبيرا أي بوصفه نظاما فنّيا للمعنى" [3].

ويقول محمّد عبد المطّلب في دراسة لشعر امرئ القيس:"لا شكّ أنّ القراءة الثّانية…قد وضعت أمامنا كثيرا من الحقائق الدّلاليّة غير أنّ التّمايز الّذي يمكن أن يكون هو تمايز في وسيلة الوصول إليها إذ أنّ هذه الوسيلة تعتمد بالدّرجة الأولى على المدخل الّذي نراه" [4].

وتقول ريتا عوض ما معناه أنّه يجب أن نصل إلى القناعة بضرورة تحويل مسار الدّراسة الأدبيّة العربيّة في اتّجاهات جديدة تؤدّي إلى إبراز أهميّة ذلك الشّعر بما هو عمل فنّيّ وزيادة الوعي به وتفجير طاقاته الإيحائيّة وجلاء دلالاته المتوالدة المتكثّرة وإثبات اندماجه في تراث حضاريّ حيّ" [5]

صفوة هذه الأقوال أنّ النّقد الّذي يتعامل مع الشّعر الجاهليّ يحاول أن يبحث في الفنّيات الّتي جعلته خالدا انطلاقا من أبعاده التّكوينيّة الفنّيّة والدّلاليّة،يستعمل في ذلك وسائل يتسنّى بها النّفاذ إلى مكامن الأدبيّة في هذه النّصوص من جهة ويؤصّل بها الانتماء الحضاريّ من جهة ثانية.

2) معلّقة امرئ القيس في النّقد الحديث:

للمعلّقة مكثف في النّقد الحديث،هذا الحضور لا يتوقّف على الكتب الّتي درست الجاهلي إنّما يمتدّ إلى المؤلّفات الّتي جرّبت المناهج الحديثة في مقاربة النّصّ الأدبيّ فأجريت على المعلّقة المقاربات البنيويّة والأسلوبيّة ودرست في إطار الكتب الّتي تناولت بعض القضايا الفنّيّة في الشّعر العربيّ من قبيل الصّورة والبناء ويمكن أن نجمل حضورها في وجهين:

أ-حضور تحليلي/كلّيّ:ومؤدّاه أن يتناول الدّارس بالتّحليل كامل القصيدة سواء في كتاب مستقلّ أو في فصل من الكتب وذلك انطلاقا من رؤية معيّنة ولنا في ذلك نماذج منها محاولة كمال أبو ديب [6] في قراءة المعلّقة قراءة بنيويّة وهي محاولة تأتي في إطار جهد سعى هذا النّاقد إلى تحقيقه وذلك بتطويع الشّعر العربيّ القديم لهذا المنهج،ونذكر كذلك محاولة يوسف اليوسف في"تحليل معلّقة امرئ القيس" [7]

ب-حضور جزئيّ:في الدّراسات الّتي تناولت مفهوم الصّورة الفنّيّة أو الشّعريّة في الشّعر العربيّ القديم فصور امرئ القيس في المعلّقة ثابتة الوجود في هذه الكتب بل وتعتبر من المعايير أو المقاييس الّتي تبنى عليها جودة الصّور ومن نماذج هذه الدّراسات"الصّورة في الشّعر العربيّ حتّى آخر القرن الثّاني للهجرة(دراسة في أصولها وتطوّرها)لعلي البطل.

-الصّورة الفنيّة في الشّعر الجاهليّ في ضوء النّقد الحديث:لنصرت عبد الرّحمان

-الصّورة الشّعريّة في ديوان امرئ القيس لريتا عوض

كما تحضر معلّقة امرئ القيس فس نماذج أخرى من الدّراسات النّقديّة كما هو الحال في أطروحة علي الغيضاوي [8] أو في المؤلّفات الّتي درست حضور الحصان أو المطر في الشّعر العربيّ القديم وربّما عُقدت لها فصول في بعض الكتب ذات المنحى الانطباعيّ في النّقد كما هو الحال في كتاب أدونيس"كلام البدايات"فصل:امرؤ القيس:شعريّة الجسد/تأمّلات في المعلّقة.

3) قراءات المعلّقة لدى المعاصرين:

هذا هو الجزء الأهمّ في العمل لأنّه يحاول أن ينظر في نماذج مختلفة من قراءات المعاصرين لهذه المعلّقة وهي قراءات أثارت في النّقد ما تثيره المعلّقة نفسها إضافة إلى كون هذه المحاولات قد تتعارض وقد تتقاطع إذ تختلف مرجعياتها وآليات اشتغالها ومنها ما يلقى الثّناء والاستحسان ومنها ما يتعرّض للتّهجّم والاستنقاص في بعد من أبعاده أو في كلّيته.

وتحتاج كلّ قراءة من هذه القراءات إلى مقاربة مرجعيّة لأصولها النّظريّة أوّ"لا ثمّ إلى اختبار جدّية تطبيقها وجدواه ثانيا ونختار لهذه القراءات ثلاثة نماذج وجدت الصّدى الأهمّ وهي:القراءة البنيويّة والقراءة النّفسيّة والقراءة الأسطوريّة

1- القراءة البنيويّة للمعلّقة:

لم يكن الأدب من اهتمامات الدّراسات اللسانيّة في البدء،ثمّ تطوّرت العلاقة بين النّقد الأدبيّ واللّسانيات وصار النّقد الأدبيّ يستحضر اللّسانيات في مفاهيمه ومناهجه وقد لا يكون من المفيد هنا العودة إلى التّذكير بتاريخ الدّرس اللّسانيّ وعلاقته بالدّرس الأدبيّ"إلاّ أنّ اللسّانيات أثبتت منذ سنوات أنّها علم رائد قد مكّنت من الخروج من تلك التّجربة الانطباعيّة الّتي كانت تعتدّ بها الدّراسات الأدبيّة…بتطبيق مقاربة علميّة تقتدي بروح المنهج اللّسانيّ" [9]وصارت الدّراسات الأدبيّة تهتمّ"باللّغة كنسق" [10]وصار موضوع الإبداع الشّعريّ مثلا تمثيلا شكليّا للمادّة اللّسانيّة.

والأساس في البنيويّة هي أنّها تدرس النّصّ في وحدته الكليّة أو بنيته الكلية،وعلى أساس هذه البينة تقوم الدّلالات كجملة من المعطيات تتحدّد بها دلالات الأجزاء المكوّنة لها فالنّصّ هو جملة أجزاء مترابطة وليست مبعثرة ولكنّه "كلّ متكامل ذو هيكلة من العلاقات الّتي تقوم بين عناصره الأساسية المكونة له،تجسد وحدته الكيانيّة وتعطيه نسقا من المعنى العام يبيّن عن مدى تماسكه وعن الدّلالات الفعليّة لعناصره " [11].فالبنيوي يبحث في النّصّ عن الجهاز المكوّن له ويحاول قدر الإمكان إبراز احتكام النّصّ إلى جملة من القوانين الّتي تؤسس شعريته ويوظّف لهذه الغاية جملة من البنى المتضادة والمتحرّكة للقبض أوّلا على بنية النّص كمدخل لازم للدّرس.

*نموذج التفسير البنيوي:" محاولة كمال أبي ديب في تقسيم الشّعر الجاهلي نموذج للقراءة البنيوية وتأتي قراءة معلّقة امرئ القيس عنصرا من عناصر مشروعه لقراءة بنيويّة في شعرنا القديم (حيث حاول تطبيقه على معلّقة لبيد وعلى عينيّة أبي ذؤيب الهذلي وعلى نماذج أخرى من شعرنا القديم )هذا المشروع ظهرت ملامحه في أواخر السّبعينات _1979ونضج في أوائل الثّمانينات وأوسطها خصوصا في كتابه"الرؤى المقنّعة "و"جدلية الخفاء والتجلي ".يقول في فاتحة مقاله المخصّص لتحليل معلقة امرئ القيس "لقد حاولت في الفصل السّابق أن أكتبه تطبيق التّحليل البنيويّ على قصائد معيّنة " وبالتاّلي فإنّ تحليل المعلقة يصدر عن رؤية كاملة يحاول من خلالها أبو ديب أن يكتنه طبيعة هذا المنهج أوّلا وتطبيقه على نماذج من الشعر الجاهلي ثانيا.

إنّ كلّ تحليل بنيويّ يصدر أوّل ما يصدر عن ثوابت نظريّة هي مرجعيات لسانيّة بالأساس أمّا كمال أبو ديب فمرجعياته النّظريّة متعدّدة حتى قيل "إنّ منهجه أكثر أصالة من الغربيين أنفسهم"وذلك رغم ما وجّه إليه من نقد واتّسام بالرّداءة والتّلفيقيّة وهو أمر سنأتي إليه في مرحلة متقدّمة من هذا البحث.

قلنا إنّ محاولة أبي ديب ترتدّ إلى مرجعيات منها الأنثروبولوجيّة يقول:"إنّ الأساس النّظريّ للتّحليل البنيويّ،الذي يحاول الباحث هنا أن يقدمه وأيضا المصطلحات المناسبة الّتي اقتبس بعضها من ليفي ستروس levis strauss صاحب كتاب"الأنتروبولوجيا البنيوية" كما استفاد من الإرث الشّكلاني وخصوصا في تحليل النّصّ السّردي يقول "حين نمارس تحليل بروب وننقله من مجال الحكاية الخرافيّة إلى مجال الشّعر الجاهليّ نستطيع أن ندرك مباشرة أن ثمّة درجة كبيرة من الشّبهة بين بنية الخرافة وبين الحكاية في القصيدة"ولكنّ هذه الاستفادة لا تنفي محاولة لبلورة نموذج خاصّ في التّحليل البنيوي انطلاقا من مفاهيمه ومصطلحاته وصولا إلى تطبيقاته على النصوص إذ يقوم تحليله على جملة من المفاهيم الّتي تتردّد منها الأساسي من قبيل "القصيدة المفتاح والقصيدة المتبقّية ومنها الجانبي.

يرسم أبو ديب لعمله أهدافا يحددها بقوله:"إنّ هدف هذا البحث مزدوج فهو أوّلا يحاول أن يطبّق على قصيدة الشبق منهج التّحليل البنيوي…ل…نستخلص تقنية اكثر دقّة لوصف بنيتها وهذا البحث يقدّم بعض الصياغات النظّرية لطبيعة جوانب من الشعر الجاهلي عموما وشعر المعلقات على وجه الخصوص".إنّ هدف المنهج البنيوي ها هنا مزدوج فهو تفسيريّ لطبيعة الشّعر الجاهلي وإضاءة بعض جوانبه أوّلا وثانيا اختبار هذا المنهج على نماذج نصّيّة،نماذج تبرهن على استجابتها لأعقد نماذج التحاليل وبناءً على هذه الأهداف المرسومة ضبط بعض الآليات المتوجّب استخدامها انطلاقا من تفسير العلاقات المتداخلة والخصائص البنيوية من حيث كونها"تجسّد اختلافا في الرؤية:رؤية الواقع والإنسان والكون".

لقد اهتمّ أبو ديب بمفهوم البنية الكبرى للمعلقة :ما هي بنية النص أو بنياته؟كيف نكتشفها؟ ما هي طبيعتها ووحداتها ومستوياتها ؟ما هي آليّة العلاقات التي تحكمها بكل تشابكاتها؟ [12] إذ البنية الكبرى في نظره تمتلك طاقة تفسيريّة مهمّة للموضوع المعطى"واعتبر أنّ هذه المعلّقة شأن معلقة لبيد تتحرّك في دائرة من الثنائيات أو ما أسماه "سياق التوتر الّذي يخلق التعارضات"(حياة موت مبنى مطلق جفاف طراوة متغير باق).

إنّ البنية الكبرى لنصّ المعلّقة لم تقدّم مباشرة بحيث يتطلّب استخراجها مجهودا حاول من خلاله أبو ذيب ردّ النّصّ إلى عناصره المكوّنة الأساسية [13] فهي في نظره قائمة على وحدتين كلّيتين أساسيين كل وحدة منهما لها عدد من الوحدات التّكوينيّة الّتي لها بدورها وحدات أوليّة ترتبط كلّ وحدة بحيّز نصّيّ يسميه بالحركة والمحرك الأساسي للبنية هو الثنائيات الّتي تؤسّس المعنى الجوهريّ للمعلّقة ككلّ حتّى صار البحث "يطرح أسئلة تتعلّق بالبنية ومكوناتها وبالعلاقة بين البنية والرؤيا "وقد رصد أبو ديب أهمّ التّعارضات الرّئيسيّة الّتي تنتظم في سلسلة الثنائيات ومنها الثّنائيات الّتي تشكّل الحدود الفيزيائية للبيتين الأوّل والثّاني في المعلّقة "ومن منطلق التّعارض أو الثّنائية انبثق النّسيج التّركيبي الّذي تنشدّ إليه الحركة الأولى/الافتتاحية ويتدعّم تحليله بضروب من الرّموز والمعادلات الرّياضية وهو أمر كثيرا ما ينحو إليه المحلّلون البنيويون للأدب.

وعلى أساس هذه الثّنائيات تنتظم العلاقات وفق منطلق لفظيّ مذكّر/مؤنث أو مضموني وبناءً على هذه المنطلقات النّظريّة الأساسية يطرح أبو ديب منهجه التّفسيري للقصيدة ويخلص إلى أهمّ الملامح المتحكّمة في كلّ حركة فيرى أنّ"الملمح المميّز لحركة الأطلال هو السّياق الزّمني ( زمن الأفعال جميعا)وينتبه إلى الطّابع الوظيفي التّرميزيّ لوحدة الأطلال فليست هي تسجيلا بسيطا لما وقع"وحركة الزمن هذه تبدو ومن خلال ثنائية التّدمير/الإخفاء مقابل البناء/الإعادة،وبالتالي فإنّ تحديد القيمة الدّلالية للقصيدة أو للوحدة المعنيّة يمثّل المهمة الأولى في عملية مناقشة بنيتها وهي قيمة تحلّ عن طريق البنية اللّغوية المعيّنة أمّا الثّنائيات الموضوعيّة المتحكّمة في هذه الوحدة –الأطلال _فمبدؤها التّحوّل من الأطلال إلى الخصب".

وانطلاقا من منطق المقارنة بين ما يسميه القصيدة المفتاح والقصيدة الشّبقيّة يحاول أبو ديب أن يخلص إلى تصوّر جوهريّ لبنية القصيدة الجاهلية ومنها إلى "الدّلالات الضمنيّة المبنيّة على نقاط التّشابه ونقاط الاختلاف".

ويؤكد أبو ديب على ما يبدو له أكثر النّقاط ارتكازا في النّصّ حين انتقى الوحدات الإيقاعيّة أو الأنساق الثّنائية والثّلاثية وهو ما يتشكل على صعيد بنية القصيدة [14]في إطار الحركات الأصليّة والحركات الفرعيّة إذ تتولد الوظائف في الحركة الثّانية مثلا عن أربع علامات تعمل في أربع سياقات زمنية مختلفة "ليل è لحظة زمن اللّيل/الزمن

ذئب è زمن الذئب

حصان è زمن الحصان

سيل è زمن السيل

وهذه خصيصة رئيسيّة للتّركيب الشّعري وفي خضمّ التّحليل يستدعي أبو ذيب مرجعيات بروب في تحليل الحكاية تماما كما يستدعي قارئي بروب انطلاقا من لفي ستروس وكلود بريمون Claude Bremond ويعمد إلى توظيف بعض المفاهيم المتعلّقة بالسّرد أساسا من قبيل "الرّسالة السّردية" و"ظهور الأحداث".

إنّ النّعت الجانبي الّذي نعته أبو ديب القصيدة"الشبقيّة" éros poème قد وجّه التّحليل وجهة مخصوصة سعى من خلالها إلى توكيد هذا النّعت وأعمل كل الآليات البنيويّة والمضمونة للوقوف عليه وترسيخه ولو كان ذلك بشكل مخلّ أو متعسّف أحيانا إذ جرت كل التّحليل في نظره إلى تأكيد هذا الجانب "الشبقية أو الإيروسيّة "وذلك انطلاقا من الصورة الشّعرية ورمزياتها فهو الحصان والسّيل وكلّ صور الطّبيعة كلّها تبدو من قبيل " المحفّزات الجنسيّة "أو توصيف الأوضاع الجنسيّة المختلفة "من قبيل التلاحم الجنسيّ".

يمثّل خلق الثّوابت "جزءا هامّا من دراسة أبي ديب لأحاول في هذا الجزء "القيام بمحض موجز لواحدة من الخصائص المحيّرة في الشّعر الجاهلي كلّه "يمكن إجمالها في خصيصة الحركة والسّكون وهو ما يعمد إلى تحليله من خلال وحدتي "بيضة الخدر"و"الحصان "إذ يقوم لتحليل هذه الخصيصة الجداول التوضيحية :حيوية _حركة

سكون-صلابة

وينتبه إلى أنّ هذه الخصيصة تقوم على مستوى لغوي خالص أو على مستوى مضموني/دلالي. إنّ التّحليل البنيوي لم يقتصر فقط على الاعتناء بالأبنية من ناحية تحليلية إنّما تعدّى ذلك إلى التّركيب على النّسيج اللّغوي في المعلّقة الصّورة /التوتر/التباين /المعجم /الترابط العضوي موسيقى اللّغة…. وعن بنية الصور قال أبو ديب:"ينظم الصّور في القصيدة الشبقيّة نوعان من التّعارضات الّتي تجسّد الرؤية الأساسية للقصيدة وتكشف الأبعاد الشّخصية إلى جانب الأبعاد الثّقافية"ويرى أنّ ابتعاد الصّورة كان محدّدا بتعارضات جذرية من قبيل :جفاف/طراوة إلى جانب "الطّبيعة الطّقوسيّة لعدد من الصّور الّتي تثير ارتباطات دينية خالصة أو طقوسا غامضة ولكنّها غير دينيّة.

كما لم يمهل هذا التحليل الجاني الإيقاعي إذ أنّ "بحث التكافؤ البنيوي على المستوى الإيقاعيّ يقتضي تحديد الشّكل البنيوي للصّورة الموسيقية الّتي يعطيها النّصّ الشّعريّ من خلال ملاحقة مواضع التّطابق والتّماثل والاختلاف في صيغه الإيقاعية المختلفة [15]وكان ذلك انطلاقا من "جوانب من البنية الصّوتية وهو ما ساعد حسب رأيه على "الكشف عمّا يعدّ تجلّيا نموذجيّا للانصهار الكلّيّ للبنية الدّلالية والبنية الصوتيّة".

لقد اقترن هذا التّحليل بجملة من الخصائص منها استقراء الثنائيات على امتداد القصيدة ومحاولة استنباط بنية كلّية للقصيدة،بنية تشمل جوانبها المختلفة :الدلالية والتركيبية والإيقاعية.

*محاولة تقييم : تعد محاولة كمال أبو ديب للتحليل البنيوي من أهم المحاولات العربية في هذا المجال وذلك رغم ما أثارته من أراء متباينة تجاهها هذه الآراء تراوحت بين الثّناء والإطراء والاستحقاق والاستنقاص والاهتمام بالضّعف والرّداءة في جانب منها أو في جملتها.

يقول عبد العزيز حمودة في كتابه " المرايا المحددة من البنيوية إلى التفكيك" [16] "على الرّغم من التأكيد المتكرّر من جانب كمال أبي ديب على أنّه يقدّم مذهبا بنيويا عربيّا…فإنّه في أكثر من موقع في تحليله للشّعر الجاهليّ يقترب من التّحليل الغربيّ المتّفق عليه لتعريف مثلّث الحداثة" [17] وممّا لم يستسغه هذا النّاقد هو ذلك التجريد الّذي لاحظه في محاولة كمال أبي ديب التّحليليّة انطلاقا من تلك الجداول والرسومات التّمثيلية الّتي حوّلت التحليل إلى ضرب من الهندسة ممّا حوّل القصيدة في نظره إلى طلسم وهذا رأي يحتاج بحدّ ذاته إلى النّقاش بجدّيّة(وليس الأمر موضعه).

وعكس هذا تستحسن ريتا عوض في كتابها /أطروحتها "بنية القصيدة الجاهليّة :الصّورة الشّعريّة في ديوان امرئ القيس" يستحسن هذه المحاولة مقارنة ببعض المحاولات الأخرى تقول:" غير أنّ هناك ثلاث محاولات جديرة بالتّنويه وتستحق وقفة إزاءها ومناقشة وهي الدّراسات الّتي نشرها كلّ من كمال أبي ديب وعدنان حيدر وسوزان ستنكفيتش…فإنّ محاولة-تقصد كمال أبي ديب- لا يمكن إن تُرمى باللاّجدية أو باللاّجدوى إنّها عمل نقديّ يستحقّ الاهتمام ويشكّل إضافة لا يمكن إغفالها في مجال دراسة الشعر الجاهلي وفي تحويل مسار الدراسات التقليدية…" ص 25.

وقد أبدت هذه الناقدة ملاحظات بالغة الأهميّة في عمل كمال أبي ديب سواء في بعده النّظريّ أو التّطبيقيّ من حيث انسجام هذين البعدين أو تنافرهما و يمكن مراجعة أطروحتها خصوصا في المقدّمة الّتي عقدتها لها ونضيف أن هذه المحاولة رغم ما حفّها من المزالق سواء النّظريّة أو التّطبيقيّة فإنّها تبقى رائدة وجادّة.

2_ القراءة النّفسية للمعلّقة:

يردّ البحث في علاقة الإبداع الأدبي بالعالم الدّاخلي للمؤلّف بشيء من التّعسف إلى أفلاطون حين تحدّث عن مسألة الإلهام الشّعري في محاورة "الإيون "إلا أنّ ملامحه الأساسية والمنهجية قد بدأت تتبلور مع "فرويد"رغم أنّ فرويد لم يكن ناقدا أدبيّا طبعا [18]إلاّ أنّ أفكاره المتعلقة بعالم النفس قد ساعدت على الحديث عن المدخل البسيكولوجي في النّقد الأدبيّ وممّا ساعد كذلك على"إحكام الصّلة بين النّظريّة السكولوجيّة والأدب أنّ كثيرا من الكتّاب جعلوا أسلوبهم الأساسي في التصوير ارتياد العالم النّفسيّ لشخصياتهم" [19]واقتصر بعض النقاد على اختبار هذا المنهج بالتّركيز على بعض الجوانب في النفس مثل "الإحباط والمرارة واليأس وجعلها مدخلا لدراسة بعض الآثار الأدبيّة يقول محمود الرّبيعي "ومن أهمّ المظاهر الّتي ترتبت على شيوع المنهج السّيكولوجيّ في النّقد الأدبي التّعويل العظيم على شخصية المؤلّف [20] ومن أهمّ ما واجه النّقد السّيكولوجي أنّه يجعل مجال اهتمامه الرّئيسي منطقة في النّفس لا يعيها المؤلف ذاته تلك المنطقة الّتي لا تعبّر عنها اللّغة ذاتها صراحة [21]

هذه المنطلقات والتّطبيقات المتّصلة بهذا المنهج لم تسلم من عديد المراجعات ولا زالت وقد تسرّب هذا المنهج إلى النقد العربي وذلك انطلاقا من عديد الأعمال من أهمّها "التّفسير النّفسي للأدب "لصاحبه عز الدّين اسماعيل"1963 ولم يقتصر هذا المنهج في تطبيقاته على نماذج من الأدب الحديث إنّما حاول اختبار آلياته ومقاصده على نماذج من الشّعر القديم والجاهليّ خصوصا ومن هذه الأعمال محاولة "فالتر براونه "ومدارها حول فكرة النّسيب في القصائد الجاهلية ورأى أنّ الوقوف على الأطلال يعبّر عن مشكلة "اختبار القضاء والفناء والتناهي" [22]ومسألة الوقوف على الأطلال تابع تحليلها عز الدين اسماعيل في دراسة بعنوان "النّسيب في مقدمة القصيدة الجاهلية في ضوء التفسير النفسي" مجلة شعر عدد 2فيفري 1964_وتتمثّل المحاولة الثاّلثة في هذا المنهج في محاولة مصطفى ناصف في كتابه"قراءة ثانية لشعرنا القديم" خاصة من فكرة "اللاّشعور الجمعي "يقول مثلا عن الأطلال في القصيدة الجاهلية "ليست من الشّعور الفرديّ وإنّما نحن بازاء ضرب من الطقوس أو الشّعائر الّتي يؤدّيها المجتمع أو تصدر عن عقل جماعيّ" وتبقى هذه المحاولات عامّة تتناول الشّعر الجاهليّ في كلّيته وعموميته وذلك رغم توفيق بعضها في الاهتداء إلى بعض التفسيرات المهمّة.

ولكننا هنا سنمثل لهذه القراءة النفسية بمحاولة يوسف اليوسف وعنوانها "تحليل معلقة امرئ القيس والصادرة بمجلة المعرفة السورية عدد 163_165_لسنة1975

يلح يوسف اليوسف على قصور الدراسات النقدية عن امتلاك راية واضحة للرّوح الجاهليّ[مرجعية هيقلية في فهم الروح ]وهذا الأمر يستلزم معاودة النظر إلى الموروث الجاهليّ الّذي يمثّله الشّعر وذلك "بغية استبار المعنى الكلي المستتر في أعماق الجزئيات "ومبدأ هذه الرؤية هي كون القصيدة محصّلة التّفاعل بين الذّات وبين جملة شروطها الواقعيّة".

واستفادة يوسف اليوسف من علم النفس ومصطلحاته أمر لا يخفى وإن لم يكن مقيّدا في ذلك بمدرسة معيّنة ومن أهمّ ما ينبئ عن هذه الاستفادة المصطلحات إذ تنضح هذه بمصطلحات علم النفس وباستخدام نظريّات علم النّفس في تفسير صلة الإبداع الشّعريّ في المعلّقة بنفس المبدع وبيئة الإبداع وصلة هذه المصطلحات بمحاولة التفسير أمر سنتعرض له إبّان هذه القراءة.

ويضع يوسف اليوسف هدف الدّراسة وهو تحليل القصيدة "ابتغاء بسط منطوياتها التّحتانيّة بسطا لا يمكن أن تكشف عنه وحدة المعلقة إلاّ من خلاله "إذ يذهب في نظر هؤلاء أنّ هذا المنهج من أقدر المناهج على الولوج إلى الأعماق والكشف عن المختبئات والمعلّقة في نظره "تنتج عن وحدة عضويّة متراصّة "وهو أمر يخالف به حسب رأيه تلك النّزعات النّقدية الّتي تأسّست على منحى تجزيئيّ وبالتّالي لم تتفطّن إلى الرّؤية الكلّية.

ويعود في تحليله هذا إلى فكرة شغلت علماء النّفس تماما كما شغلت المهتمّين بالتّحليل النّفسي للأدب وهي فكرة أصل الفنّ ورد ذلك إلى فكرة تحكّمت في كامل تحليله وهي الانطلاق من النّزعة الإيروسيّة "(غريزة الحياة عبر الجنس وبالتالي فهذا النزوع أساسي في معلّقة امرئ القيس بل هو أهمّ محور ولا يخلو هذا الحكم من تسرّع).

تعود فكرة الإيروس إلى نزعة الرّفض والتّمرّد على القيود الاجتماعية على الجنس والتّوق إلى الحرّيّة الجنسيّة فالقصيدة احتجاج خطير على الخطر الجنسيّ حتّى أنّه ربط هذا الشّعر الجاهليّ والمعلّقة أساسا بأدب المقاومة الاجتماعية وربطه"بالتغيّرات التّاريخيّة العميقة الّتي ترسّخت في المرحلة الجاهلية "

وفكرة الممنوع في نظره قادح على الإبداع خصوصا في ظل بيئة تسعى إلى الحدّ من الحرّيّة بعد هذه المقدّمة النّظرية يبدأ يوسف اليوسف تحليله وذلك عبر اجتزاء مقاطع القصيدة ثم تحليلها :يقول عن المقدمة الطّللية "يتجلى قمع العلاقات الجنسية الحرّة على اشدّه وحيث يتبدى الألم في كلّية حضوره "وتبرعن هذه المقدمة على موقف الذّات الجاهلية من القسر"ويرد يوسف اليوسف فعل البكاء والاستبكاء إلى تجلّيات الاحتجاج على قمع الإيروس تماما كما المكان الّذي يمثّل في نظره المحتجز وهذا من قبل الشّاعر ضرب من البرهنة على واقعية القمع وذلك انطلاقا من واقعية المكان هذا المكان لا يأخذ أبعادا جمالية بقدر ما يؤكد على موضوعية أصول القهر ومعاناة"الأنا".

في هذا المستوى يقف يوسف اليوسف على فكرة وحيدة تحرّك تحليله وهي أنّ القمع المسلّط على النّفس وعلى الغريزة الجنسيّة مصدر البيئة الاجتماعية ونتيجة محاولة الشاعر التمرّد على هذه الوضعية وذلك من خلال الشّعر وعندما ينصرف المحلل إلى مقطع آخر من القصيدة بغرض تحليله لا نراه يختلف كثيرا عمّا رسمه لتحليل المقدمة الطّلليّة فيركّز تحليله على أحوال النّفس ويصرفه وفق هذا التّوجه ولكنّه يضيف تقسيم القصيدة وفق ثنائية:

إيروس مقموع

إيروس يسعى إلى الحرية

وتجمع القصيدة في نظره على هذه الثنائية إضافة إلى ثنائيات تتحكّم في البنية من قبيل :ألم/لذة، مختف/ظاهر…

مثال من التحليل : يستحسن يوسف اليوسف فهم القدامى للمعلّقة وذلك عند ربطهم مناسبة القصيدة بيوم :"دارة جلجل "ويرى أنّ وقائع ذلك اليوم تتطابق مع فكرة حرية الإيروس "وجعل الجنسية غاية ذاتها "ورأى أنّ عناصر ذلك اليوم مساهمة إلى حدّ بعيد في استقطاب التّوترات الّتي يمكن أن تؤسّس محافل الإبداع وبالتّالي تصير القصيدة في قسم مهمّ منها تنوّعات على دارة جلجل "أنّ من العناصر الّتي تنبئ عن هذا التّصوّر وجود المرأة كحافز جنسيّ في مجتمع يقول عنه أنّه مهتمّ بالخطّ النّسب "فهو إذ يحرم الغريزة من تحقيق الرّغبات الجنسية الّتي لا تشرّع لها إلاّ الضّوابط الاجتماعية.

وعندما ينعم النظر في البيت القائل:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشقّ وتحتى شقّها لم يحوّل

يرى أنّ العلاقة مع المرأة عند امرئ القيس هي أكثر من أن تكون إصرارا على رفض العلائق الزّوجية واستبدالها بعلائق الإيروس الطّليقة "كل شيء في القصيدة يبرهن إمّا على حرّية هذه الطاقة الغريزيّة وإمّا على احتجاج صارخ على حرّية الإيروس حتى أنّه يتصوّر أنّ المحافظة على"خطّ النّسب"كمفهوم اجتماعيّ يساهم في قمع اللّذّة أو "الخطر الجنسي".

ويجمع القول في شعره على أنّه شعر محكوم بثنائية إرادة التّحقّق أو التّعويض عن تحقّق ناقص وهو ما يؤدّي إلى سلوك مزدوج أيضا ناتج عن "المعاناة الناجمة عن الإرغام والقسر "ويقول يوسف اليوسف معلقا على المغامرات الحسّيّة إذا صحّ نعتها في القصيدة "…وبذلك لا يبقى لهذه السّلسلة من المغامرات إلاّ كونها استمرارا للبرهنة الطّلليّة المأزومة وذلك لأنّ الأحداث تخفي شعورا بالعجز يتناسب مع البكاء اللاّمجدي أمام الطلل والأهم من هذا أنّ حالة الشّعور بالعجز هي الّتي دفعته إلى تذكّر تلك الأحداث "إنّ التّرابط العضوي في القصيدة أو ما أسماه الوحدة العضويّة المتراصّة إنّما يتمّ عبر التّداعي النّفسي وينتج عن العناصر النّفسية أو الرّغبات في التّذكّر والبكاء والتّعبير عن المرارة والمعاناة.

ويتخلّل التّحليل تدعيما من خارج القصيدة وذلك لتدليل على ما يذهب إليه في تحليل القصيدة أوّلا وعلى تعميم الظّاهرة على كامل إنتاجه الشّعري ثانيا.

ويذهب يوسف اليوسف إلى أنّ وصف المرأة ابتداءً من قول الشاعر :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسّجنجل

يذهب إلى أنّ هذا الوصف ينزع إلى الوصف السّكونيّ وذلك بعد وصف الأحداث والمغامرات القائمة على الحركة أساسا :التّذكّرية في النفس/الجنسية في الجسد وفي هذا التحليل يذهب يوسف اليوسف إلى كون الصّورة والجملة الشّعرية والمعجم كلّها ترتدّ إلى اللبيدو يقول عن الصّورة مثلا "إنّها لا تخفي النّزوع الشّهويّ "ويضيف أنّ الأسس النّفسانيّة للصّورة والشّكل واللّفظة وباختصار لجملة الأداة التّعبيريّة هي أسس ليبيديّة واضحة بذاتها وهذه الروح اللّيبيدية يرى أنّها تتجاوز الفرد لترسخ في "روح البدائيّ الّذي أخذ التّاريخ بتدجينه وإرضاخه "وبالتالي فذهنيّة الشاعر هي ذهنية تقاوم التحريم.

*إنّ تحليل يوسف اليوسف للمعلّقة يتحرّك في إطار جملة من المفاهيم "الأنا،الهو،الأنا الأعلى،الغريزة،الايروس،اللبيد…"وبذلك صارت المعلّقة تتحرّك بناءً على تلك المفاهيم ولكنّ ممّا يحمل على هذه المحاولة أنّها في خضمّ الاهتمام النّفسيّ ضيّعت الشّعري إلى ذلك فإنّها تنحو إلى "تفسير المعلوم _أي نصّ المعلّقة _بالمجهول (من قبيل العقد النفسية )مع أنّ الأدب لا يمكن اعتباره هذيان مريض أو اعترافات سريريّة لمريض بل هو بناء واع.فهل أنّ الصّورة كالأحلام تحتاج إلى تأويل بإرجاعها إلى شيء مخفيّ ومؤثّر في النّفس ؟وهل يمكن أن يقع الاقتصار على اعتبار الصّورة فضاءً يبرز فيه الصّراع بين الذّات والمجتمع أو القوى المقهورة أو القوى الغيبيّة ؟إذ لا شك أنّ الاقتصار على هذا الجانب يقلّص من الانتباه إلى رمزيّة بعض الصّور وهو أمر قد تفطّنت إلى بعض جوانبه ريتا عوض في أطروحتها وإن لم تعمد إلى تطبيق هذا المنهج ولم تنطلق من نفس الفرضيّات الّتي انطلق منها يوسف اليوسف.

3) القراءة الأسطورية للمعلقة: نحو منهج أسطوريّ في دراسة الشعر الجاهليّ :

نبادر فنقول أنّنا لم نعثر على دراسة مخصوصة تدعي أنّها تطبّق المنهج الأسطوري في تحليل قصيدة امرئ القيس إذ الحديث عنها جاء في ثنايا الحديث عن علاقة الشّعر الّجاهلي بالأسطورة والدّين وذلك في فصول عقدها أصحابها للتّطرّق إلى هذا الموضوع خصوصا في فصل "الصّورة الفنّيّة :الأصول الأسطوريّة للصّورة "من كتاب علي البطل "الصورة في الشّعر العربيّ حتى آخر القرن الثاني الهجري:دراسة في أصولها وتطورها "

ويسعى النقّاد إلى بلورة "المنهج الأسطوريّ "كمنهج تفسيريّ في فهم الأدب ويعتبر "نرثروبفراي"من أهمّ النّقاد الّذين حاولوا إرساء هذا الفهم "خاصّة حين دعا إلى تحويل المسار النّقديّ السائد القائم على الانطباعية وإصدار الأحكام الذّوقية القيميّة مؤكّدا أنّ وظيفة النقد هي وضع نظرية متكاملة وشاملة منظمة منطقيّا وعلميا تدرس الأدب بما هو كلّ متكامل وشامل كما يدرس علم الفيزياء الطّبيعيّة [23]وذلك خصوصا في كتابة تشريح النقد anotony of critucism إذ اهتم اهتماما بالغا بنظرية الأنماط العليا أو النّماذج البدائيّة [24]وذلك على اختلاف هذه النماذج وبالتالي رأى أنّه على النّاقد أن يكشف المنظومة الأسطوريّة للأثر الأدبيّ وربّما ربط البعض بين هذا النهج وفكرة "كارل يونغ "في "اللاّوعي الجمعيّ"وتعزّزت أصول هذا المنهج أيضا بالمباحث الأنتروبولوجيّة الّتي وقفت على "كمّيات هائلة من المواد والموروثات المتماثلة المتّصلة بالعادات والتقاليد" [25]

ولعلّه ليس بذي فائدة أن نعمد إلى هذا التّقديم النّظريّ ولكن المسألة التّطبيقيّة لهذا المنهج لا تزال متعثّرة وذلك رغم ما يدّعيه بعض أنصارها وفي النّقد العربيّ لا تزال المسألة كذلك فالحديث عن علاقة الشّعر الجّاهليّ أو الأسطورة أو الطّقوس والأنماط البدائيّة لا يزال متوزّعا في كتب لم يكن مدارها الأساسيّ هذا المبحث وهي متعلّقة في الأساس بمبحث الصّورة ومن نماذج ذلك:

"الصّورة الفنّيّة في الشّعر العربيّ":لعليّ البطل.

"الصورة الفنية في الشعر الجاهليّ":لنصرت عبد الرحمان

"الشّعر الّجاهليّ :قضاياه الموضوعيّة والفنيّة":لإبراهيم عبد الرحمان

يقول إبراهيم عبد الرّحمان معلّقا على الثّقافة الّجاهلية "ونستطيع أن نلاحظ في بقايا هذه الثّقافة الّتي وصلت إلينا اتجاهين متمايزين :الأوّل ديني انتقل إلى عرب الجاهليّة من الأمم القديمة الّتي كانت تجاورهم واتّخذ أشكالا مختلفة وثنيّة وغير وثنيّة في شعائرهم العمليّة والثّاني فكريّ يغلب الطّابع الأسطوريّ على أفكاره ومعانيه ويدل في أحوال كثيرة على انتقاله إليهم من آداب أمم أخرى " [26]وهذا الأمر في الثّقافة الجاهليّة قد وجد صداه عند غيره من الدّراسين حتّى أنّ دراسة الشّعر الّجاهليّ من هذه الزّاوية أي من خلال علاقته بالأسطورة والدّين لا تكاد تبين عن التّمايز بين الدّين والأسطورة وكثيرا ما يدمجان في إطار علاقته بالشّعائر والطّقوسات.

والمنطلق النظريّ الصّريح لهذا المنهج هو عقد تعالق وثيق بين الشّعر أو الصّورة الفنّية ومسألة الرّموز الأسطورية الماثلة في الذّاكرة الجمعيّة أو "اللاّوعي الجمعيّ"وجل هذه القراءات تنطلق أو تنبني على جملة فرضيات من أهمها: [27]

أ_معرفة المعتقد يسهم إلى حدّ يعيد في الكشف عن رمزيّة الشّعر الجاهليّ

ب_الشّعر في نهل من مناهله يرتد إلى ذاكرة الجماعة.

وعلى أساس هذه الفرضيات تتأسّس قراءة نصرت عبد الرّحمان مثلا أمّا إبراهيم عبد الرحمان فقد ربط بين العبادات القديمة والشّعر خصوصا من فكرة مؤدّاها أنّ الجاهليين مثل غيرهم من الشّعوب السّامية لا يميلون إلى التّجريد ولا يتعبّدون إلاّ الآلهة مجسّمة " [28]ولكنّه يرى بضرب من الغرابة أن الشّعر الجاهليّ "لا يحتوي إلاّ على القدر القليل من هذه الإشارات الأسطورية الّتي تستغلق أحيانا على الفهم لضياع أصولها الّتي انتزعت منها "ويأتي تمظهر هذه الأساطير في الشّعر من خلال :

أ_الاسمية :ونقصد به حضور الأسماء من قبيل الأسماء الحيوانيّة والبشريّة

ب_الصور:الّتي تضم رموزا دينية أو أسطورية

ج_التّماثل بين أطوار حياة شاعرنا وبطل أسطوري وهو أمر تناوله بعض الدّارسين في تماثل حياة امرئ القيس مثلا مع "أدويب"فالأوّل أيضا قد وكّل أبوه أحدا لقتله والمجيء بعينيه دلالة على ذلك.

والحقّ أنّ هؤلاء النّقاد كثيرا ما يسرفون في الذّهاب بعيدا بالشّعر وعن الشّعر بشكل مخلّ برمزية هذا الشّعر ويجعل هذا المنهج ضربا من الإسقاط مبالغا فيه.
مثال نقدي: رؤية ريتا عوض لعلاقة الصورة بالأسطورة [29]

ترى ريتا عوض أنّه "يتم اللّقاء على المستوى الدّلاليّ والرّمزيّ بين الشّعر وتجليات فنّيّة أخرى ذات مضمون إنساني وثقافيّ "وهو الأسطورة مثلا وتنبّه في غضون ذلك إلى أنّ هذا الرّأي لا يعني الشعراء الجاهليين "ينقلون قصصا أسطوريّة"واستندت في تفريقها بين لغة الشّعر ولغة الأسطورة إلى فكرة ليفي ستروس كواحد من أهم من درس الأسطورة يقول "أنّ الشّعر هو نوع من أنواع التّعبير اللّغويّ لا يمكن ترجمته سالما من التحريف والتّشويه الكبيرين بينما القيمة الأسطورية للأسطورة تبقى سليمة "وهذا فيه تفريق بين شعريّة الشّعر وأسطورية الأسطورة".

إنّنا لم نتعرّض إلى نماذج تحليليّة من المعلّقة وفقا لهذا المنهج وذلك عكس ما فعلنا في القراءات السّابقة ولعلّ هذا الأمر عائد أساسا إلى عدم العثور على نماذج بيّنة يمكن أن تستجيب إلى ما نريد تسجيله في هذا البحث والحقّ أنّ هذا التّصور مازال لم يبلور رؤية واضحة للشّعر الجاهليّ وهو ما أدّى في مناسبات كثيرة إلى تضارب الأفكار النّقديّة حول المسألة الواحدة.



خاتمة البحث : مساءلة نقدية :

حاولنا في هذا البحث أن نأتي على بعض أراء المعاصرين في معلّقة امرئ القيس وذلك انطلاقا من محاولات تفسيريّة قام بها هؤلاء مدّعين فيها نهج منهجِ بعينه في التّفسير كالمنهج البنيويّ أو النّفسيّ ولعلّ قيمة هذه المعلّقة كنصّ إبداعيّ طرحت من استجابتها لجميع هذه المقترحات وذلك دون استعصاء على الأقلّ في نظر هؤلاء النقّاد: _وهذه سمة من سمات طرافة النّصّ الشّعري وتميّزه وهو أن لا يبلى أمام النّقد.

**وإذا كان لا بدّ لكلّ عمل من خاتمة فان خاتمة هذا البحث ستكون جملة من الأسئلة

_إلى أيّ مدى كان نصّ المعلّقة مطواعا لجملة هذه النّصوص ؟

_هل يمكن الاقتصار على جملة هذه القراءات للوقوف على نظرة المعاصرين للمعلقة؟

_ما هو التّمايز الّذي يمكن رصده بين نظرة القدامى والمعاصرين للمعلّقة ؟

_كيف أمكن لهذه الدراسات محاصرة الأبعاد الجمالية في المعلّقة ؟

_كيف برهنت هذه القراءات على الأبعاد الجّماليّة في القصيدة ؟

-هل يمكن أن نعدّ هذه المحاولات التّفسيرية بمثابة البحث عن المقوّمات الجّمالية ؟

_كيف أسهمت هذه القراءات في إثراء الأبعاد الجماليّة للقصيدة ؟

_ما هي غايات التّركيز على هذه المعلّقة أصلا ؟



*مصادر البحث ومراجعه

ملاحظة :الأعمال غير مرتّبة حسب الترتيب الألفبائي

"أبو ديب كمال :الرؤى المقنّعة :نحو منهج بنيويّ في دراسة الشّعر الجاهليّ

القاهرة 1986

"البطل علي :الصورة الفنية في الشّعر العربيّ :ط3.دار الأندلس :1983

"عبد الصبور صلاح :قراءة جديدة لشعرنا القديم _بيروت 1973
"عبد الرحمان إبراهيم الشعر الجاهلي :قضياه الموضوعيّة والفنيّة :_القاهرة د-ت

"عوض ريتا :بنية القصيدة الجاهليّة :الصّورة الشّعرية في ديوان امرئ القيس

بحوث الجامعة التونسيّة

"حمودة عبد العزيز :المرايا المحدبة :عالم المعرفة _الكويت 1998

"أدونيس :كلام البدايات _دار الأدب

"أحمد وهب روميّة :شعرنا القديم والنقد الجديد :عالم المعرفة الكويت _1997

"محمد عبد المطلب :قراءة ثانية في شعر امرئ القيس _لبنان 1996

"عالم الفكر مج 23_عدد1 21994"مدخل إلى النّظرية النّقدية الحديثة

"الفكر العربيّ المعاصر عدد54_55_1988

"المعرفة السّورية عدد_163_165_سنة 1975

" مقال يوسف اليوسف "في تحليل معلقة امرئ القيس

كما استفاد هذا العمل من دروس وآراء :علي الغيضاوي _حسين الواد وذلك دون التنصيص على مراجعهما.

[1] مجلّة عالم الفكر م ج23 عدد1-2.مقال:مداخل نقديّة معاصرة-محمود الرّبيعي

[2] م_ن مقال :العلاقة بين القارئ والنص _رشيد بن جدو

[3] أدونيس-كلام البدايات.دار الآداب.بيروت 1986.ص8

[4] محمّد عبد المطّلب-قراءة ثانية في شعر امرئ القيس-لبنان.1996.ص228

[5] ريتا عوض-الصّورة الشّعريّة في ديوان امرئ القيس

[6] أبو ديب كمال-نحو منهج بنيوي في تحليل الشّعر الجاهلي.معلّقة امرئ القيس.الرّؤية الشّبقيّة.فصول.مج4 عدد2.1984

[7] يوسف اليوسف.تحليل معلّقة امرئ القيس.مجلّة المعرفة السّوريّة.عدد163-165.سنة1975

[8] الغيضاوي علي-

[9] مجلّة عالم الفكر.مج23.عدد1.2 سنة1994.خالد سليكي:من النّقد المعياري إلى التّحليل اللّسانيّ

[10] 2 م .ن

[11] الفكر العربّي المعاصر عدد53-54 سنة1988.مقال سامي سويدان.النّصّ اللاّزم/النّصّ المتعدّي

[12] الأسئلة طرحها صبحي الطعّان.عالم الفكر مج23.عدد1-2-1994"بنية النّصّ الكبرى"
تصفح ردود المواضيع في الأرشيف متوفر للأعضاء المسجلين فقط.
هذا الموضوع مقفول ولا يمكنك الرد عليه. ◄Û:¡♣♪معلّقة امرئ القيس في نظر المعاصرين£■)0þ$`7
أرشيف: أدباء وشعراء ومطبوعات أرشيف: أدباء وشعراء ومطبوعات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى