ليس مهما أين يولد اللاجئ،ما دام متعلقا بجذوره ومنبته الأصلي،هذا الحال كان صورة الحاج سعيد علي عويس " ابو علي" عندما بُشر في العام 1993 بقدوم آخر مواليده،فسماه رأفت...تذكر حينها طفولته في بلدة "السنديانه" المتربعة على جبال الكرمل وتخوم البحر،وكيف هُجِّر قسرا منها مع والده ووالدته وإخوانه وهامت بهم الأيام،تحط بهم من مكان الى آخر،حتى نزلوا في مخيَّم جنين يتقاسمون مع من حولهم الوجع والحلم نفسه...
وبالرغم من أن طفولة آخر العنقود رأفت كانت متنقلة بين المخيَّم والخربة،إلا أن هذا المخيَّم كان قدرا ووعاء لأحلام ذلك الطفل،وما أن دخل عامه التاسع،حتى انطلقت شرارة الانتفاضة الثانية،بعد أن حملت ذاكرته بعض بقايا الانتفاضة الاولى من خلال الاستماع لأحاديث أشقاءه وأقاربه وأصدقائهم،وأصبح يرى ويشعر ويسمع ويشاهد،فحملت ذاكرته من الصور ما لا تستطيع الذاكرة الطفولية الغضة تحمله أثناء اجتياح مخيم جنين ربيع العام 2002،فشربت نفسه الثورة بلا حدود،وعرف أن الرصاص هنا تسابيح السماء،وان ملح البارود هنا حناء يد،وأن الكتف التي لا تعتمر البندقية لم تكمل نصف دينها،فأصبح الحلم الوحيد لديه،أن يخطب "سمراء"، يُلْبِسُها " الدبلة"،ويرتب بكفه على "بيت النار" فيها،وإذا ما شعر بالملل بين "الوجبات"،راح ينظفها بهدوء ومتعة،حتى تبقى زاهية بهية،لا تخذله عند الطلب والحاجة .
شيئا فشيئا،عرف لنفسه مكانا في جوف الظلام،واضحي الرابط الليلي مهمته وعشقه الدائم،وعندما ينام أطفال المخيم وأهله،تبقى عيونه السوداء ساهرة،وشاهده في عناق مع الزناد،وإذا ما اطل " اللصوص" ليلا،لم يبخل في إيقاظ "خطيبته" التي كانت تمزق صمت الليل ملعلعة بالغضب،فينتبه الآخرون،ويتهافت" المآجرون" من كل ناحية وصوب،يشاركونه الرجم المقدس،حتى ينبلج الصباح،ويسفر عن أسيــ//ــر أو جريح أو شهــ//ــيد...
ولم يسلم هذا الفتى الصاعد من التوسم بالإصابة،فكانت المرة الاولى بالقدم عندما جاء الجيش لاعتقال احد المطلوبين،والثانية عندما حوصر الشهيد حمزة ابو الهيجاء،فتطلب الواجبو الحميّة أهلها وهو في مقدمتهم لفك الحصار عن حمزة المحاصر،فتقدم غير أبه بالموت،فناله الرصاص حتى شُلَّتْ قدمه أو كادت،لكنه تجاوز الجراح،وما كان يحزنه انه لم يشارك في مسيره حمزة ورفيقه بالشهادة في ذلك اليوم الذي مرَّ عصيبا و قاسيا وشامخا على مخيَّم جنين...
وكان الاعتقال مشهد ما قبل النهاية،اقتحام واعتقال وسجن،ثم إفراج،وكأنها السطور الاخيرة من حياة شاب مقاوم منطلق تفور ابتسامته مع كل نبضة قلب،شاب يحب الحياة،ويقدس لحظاته التي كتبت له،يعشق الناس فيه هذا الإحساس المتوقد،فيمازحه الكبير والصغير،وبالرغم من أن وفاة والدته قبل عدة سنوات تركت ثلمه في قلبه،واخفت جبلا كبيرا من الحزن في فؤاده الغض،و للتعبير عن شوقه لامه قبل أيامه من اللحاق بها كتب تحت صورتها وهي تحمله صغير " كم اشتقت إليك يا أمي "...
أما النهاية،فكانت بشهادة الليل الذي كان يشهد وما زال رباطه في أعلى المخيم وبين أزقته،مر مسرعا من المخيَّم على دراجته النارية،يكلم هذا،ويمازح هذا،ويتجاوز عن سيارة لصديقه رافعا يده مرحبا،قال له احد أصدقاءه
: انتبه لنفسك ...
فضحك،وكأنه يسخر من القدر بعدما عشقه الليل الذي كان يؤنسه بعد أن ينام الناس...
فشق طريقه مع ابن خالته الى طريق يعبد،وهناك كان القدر بانتظاره،فأمسكه كصياد يمسك غزلا ضاحكا منطلقا محبا للحياة،فأطلقه حمامة بيضاء تحمل جراحاتها ورباطها ودمها وحب الناس لها قاصدا رحمة الله...
ولما كان على الإنسان استحالة رؤية النهاية،فإن في توابعها وصداها دليلا قويا عليها،فقد كان خبر رحيله صدمة كبيرة لكل من عرفه أو سمع عنه،من أهله وأصدقاءه وجيرانه ومعارفه ومن أهل مخيَّمه،ولم تقف هذه الحالة عند صمت الموت في مشفى جنين ليلة الحادثة،فأندفع المئات من الشبان يحملونه ويطوفون به الشوارع مهللين مكبرين،وفي جنازته التي كانت ظهر اليوم الثاني بالكاد كان هناك مجال للمشاركة في صلاة الظهر بعد أن غص المسجد المخيم الكبير" مسجد الشيخ زايد بمساحاته الممتدة بالمصلين،وما أن خرج الجثمان الطاهر الملفوف بالعلم والشعارات،على وقع بيانات النعي للشامخين،حتى حياه الرصاص من كل جانب،ولم يهدا الأزيز،حتى وري الثرى،ثرى المخيم الذي أحب،وكان المتزاحمون على النعش يغطون وجهك وصدرك وكل جسدك تَلمُّسا،وكانت أخر لمحات حياته قبل أن يوضع في التراب،رؤية عيون والده وهي تقول...كنت أحب أن تبقى حتى نعود معا الى السنديانه...
وبالرغم من أن طفولة آخر العنقود رأفت كانت متنقلة بين المخيَّم والخربة،إلا أن هذا المخيَّم كان قدرا ووعاء لأحلام ذلك الطفل،وما أن دخل عامه التاسع،حتى انطلقت شرارة الانتفاضة الثانية،بعد أن حملت ذاكرته بعض بقايا الانتفاضة الاولى من خلال الاستماع لأحاديث أشقاءه وأقاربه وأصدقائهم،وأصبح يرى ويشعر ويسمع ويشاهد،فحملت ذاكرته من الصور ما لا تستطيع الذاكرة الطفولية الغضة تحمله أثناء اجتياح مخيم جنين ربيع العام 2002،فشربت نفسه الثورة بلا حدود،وعرف أن الرصاص هنا تسابيح السماء،وان ملح البارود هنا حناء يد،وأن الكتف التي لا تعتمر البندقية لم تكمل نصف دينها،فأصبح الحلم الوحيد لديه،أن يخطب "سمراء"، يُلْبِسُها " الدبلة"،ويرتب بكفه على "بيت النار" فيها،وإذا ما شعر بالملل بين "الوجبات"،راح ينظفها بهدوء ومتعة،حتى تبقى زاهية بهية،لا تخذله عند الطلب والحاجة .
شيئا فشيئا،عرف لنفسه مكانا في جوف الظلام،واضحي الرابط الليلي مهمته وعشقه الدائم،وعندما ينام أطفال المخيم وأهله،تبقى عيونه السوداء ساهرة،وشاهده في عناق مع الزناد،وإذا ما اطل " اللصوص" ليلا،لم يبخل في إيقاظ "خطيبته" التي كانت تمزق صمت الليل ملعلعة بالغضب،فينتبه الآخرون،ويتهافت" المآجرون" من كل ناحية وصوب،يشاركونه الرجم المقدس،حتى ينبلج الصباح،ويسفر عن أسيــ//ــر أو جريح أو شهــ//ــيد...
ولم يسلم هذا الفتى الصاعد من التوسم بالإصابة،فكانت المرة الاولى بالقدم عندما جاء الجيش لاعتقال احد المطلوبين،والثانية عندما حوصر الشهيد حمزة ابو الهيجاء،فتطلب الواجبو الحميّة أهلها وهو في مقدمتهم لفك الحصار عن حمزة المحاصر،فتقدم غير أبه بالموت،فناله الرصاص حتى شُلَّتْ قدمه أو كادت،لكنه تجاوز الجراح،وما كان يحزنه انه لم يشارك في مسيره حمزة ورفيقه بالشهادة في ذلك اليوم الذي مرَّ عصيبا و قاسيا وشامخا على مخيَّم جنين...
وكان الاعتقال مشهد ما قبل النهاية،اقتحام واعتقال وسجن،ثم إفراج،وكأنها السطور الاخيرة من حياة شاب مقاوم منطلق تفور ابتسامته مع كل نبضة قلب،شاب يحب الحياة،ويقدس لحظاته التي كتبت له،يعشق الناس فيه هذا الإحساس المتوقد،فيمازحه الكبير والصغير،وبالرغم من أن وفاة والدته قبل عدة سنوات تركت ثلمه في قلبه،واخفت جبلا كبيرا من الحزن في فؤاده الغض،و للتعبير عن شوقه لامه قبل أيامه من اللحاق بها كتب تحت صورتها وهي تحمله صغير " كم اشتقت إليك يا أمي "...
أما النهاية،فكانت بشهادة الليل الذي كان يشهد وما زال رباطه في أعلى المخيم وبين أزقته،مر مسرعا من المخيَّم على دراجته النارية،يكلم هذا،ويمازح هذا،ويتجاوز عن سيارة لصديقه رافعا يده مرحبا،قال له احد أصدقاءه
: انتبه لنفسك ...
فضحك،وكأنه يسخر من القدر بعدما عشقه الليل الذي كان يؤنسه بعد أن ينام الناس...
فشق طريقه مع ابن خالته الى طريق يعبد،وهناك كان القدر بانتظاره،فأمسكه كصياد يمسك غزلا ضاحكا منطلقا محبا للحياة،فأطلقه حمامة بيضاء تحمل جراحاتها ورباطها ودمها وحب الناس لها قاصدا رحمة الله...
ولما كان على الإنسان استحالة رؤية النهاية،فإن في توابعها وصداها دليلا قويا عليها،فقد كان خبر رحيله صدمة كبيرة لكل من عرفه أو سمع عنه،من أهله وأصدقاءه وجيرانه ومعارفه ومن أهل مخيَّمه،ولم تقف هذه الحالة عند صمت الموت في مشفى جنين ليلة الحادثة،فأندفع المئات من الشبان يحملونه ويطوفون به الشوارع مهللين مكبرين،وفي جنازته التي كانت ظهر اليوم الثاني بالكاد كان هناك مجال للمشاركة في صلاة الظهر بعد أن غص المسجد المخيم الكبير" مسجد الشيخ زايد بمساحاته الممتدة بالمصلين،وما أن خرج الجثمان الطاهر الملفوف بالعلم والشعارات،على وقع بيانات النعي للشامخين،حتى حياه الرصاص من كل جانب،ولم يهدا الأزيز،حتى وري الثرى،ثرى المخيم الذي أحب،وكان المتزاحمون على النعش يغطون وجهك وصدرك وكل جسدك تَلمُّسا،وكانت أخر لمحات حياته قبل أن يوضع في التراب،رؤية عيون والده وهي تقول...كنت أحب أن تبقى حتى نعود معا الى السنديانه...