مأمون أحمد مصطفى - شهرة عالمية

كل كلمة في هذه المقالة، أتت كما هي، وما جرى عليها من تعديل، فإنه لم يتجاوز تعديل التنضيد والتنسيق، دون التدخل بمحتواها وفحواها، ودون لَيّ للمقصود أو تحويره.

ونظرا لخطورة الموضوع، وحساسيته، فقد استبدلت اسم المحاور إلى الرمز "س". وهذا هو التبديل الوحيد الذي قمت به لأسباب ارتأيتها، ولا أعلم إن كنت مخطئا في ذلك أم لا، لكنها الضرورة التي تفرض علينا أحيانا أن نبقى مُعَلَّقينَ بالحيرة بين ما يجب، وما يكون.

بدأتِ القصةُ باتصال حدث مع زميل، وكنتُ إذ ذاك جالسا إلى جانبه، وفوجئتُ بأنه انتقل من السلام والتحية، للحديث عني وعن كَمِّ الثقافة التي أمْلِكُ، وعن درجة الوعي الديني، ومخزون المعلومات الشرعية، دون أن أعرف مع من يتحدث عني، ولماذا؟

وحين أنهى مكالمتَه، استدار نحوي وهو مُتَهَلِّلُ الأسارير، مبتهجُ النفس.

وقال: سأُعَرِّفكَ على "س"، فهو "..."، و"..."، و"..."، فهو يتشابه في كثير من الطموحات والآمال معك، وكذلك تتشابه سيرتُه ببعضٍ من سيرتِك.



لم أعترض، ولكن المفاجأة أوقفتني للتفكير مَلِيًّا ببعض الجُمَل التي ترددتْ، كـ"الوعي الديني"، و"المعلومات الشرعية"، فمثلُ هذه الكلمات تثير فيّ نوعا من حساسية تستشعرها بداهتي بسرعة غريبة.

ولكني، وكعادتي التي اكتسبتها بالتجربة، لم أفصح عن دهشتي أو استغرابي، وتركت كل شيء للأيام التي عودتني على حل معضلات الدهشة والاستغراب بالصبر والتأني، وبترك الطرف الآخر البوح بما يجول في رأسه وصدره من أفكار وأحاسيس.



وكان لقاء بيني وبين "س"، لقاءً وديا، تخللته مصطلحات التعارف والمجاملة، ومرتْ من ثناياه اختبارات النفس والعقل، بصورة غير ملحوظة، لولا شعور الدهشة والاستغراب الذي سكنني سابقا.



وخضعتُ طوعا للاستجابة، فمرَّرْتُ بعضَ الجُمل التي تتعلق بالعقيدة الإسلامية، وبعض الفتاوى المستترة خلف غموض الحياة المعاصرة لبعض القضايا، ودسستُ بدهاء الشك، بعضا من المرونة في أشياء هي أصلا تتمتع بمرونة القول والتأويل والتفسير.



وأَرْسَيْتُ مَراكبي كُلَّها دفعة واحدة، لأدخل عالم السياسة، والعدالة الاجتماعية، بعد استشفاف نفس محدثي، وهنا وقعت مرة واحدة في نفسه موقع القبول والاستحسان.



وعملتُ على إبعاد زمن اللقاءات، عن قصد وتعمد، فالنفس التي تتعلق باللقاء المتتالي، هي نفس ضعيفة، تنزلق نحو الملل والانطواء بُعَيْدَ فترة وجيزة، بل وتنكشفُ بعضٌ من خباياها وصفاتها بسرعة للطرف الآخر، لكن المباعدة الزمنية، تجعل الآخر يرسم لك صورة تختلف خلف كل لقاء، وهذا ما يجعله يقتنص فرصة تقدمها له كي ينشر نفسه بمكنوناتها أمامك.



وكانت المفاجأة التي توقعتُ، وعليها بنيت طريقة تعاملي معه، حين أشار إلى الشهرة السريعة التي حققها "سلمان رشدي" بكتابه آيات شيطانية، ثم انتقل لبعض الأسماء الأخرى التي هاجمت الإسلام، بطريقة مفضوحة، أو متخفية وراء النصوص.



وكان أثناء حديثه، يكشف ما يعتمل بنفسه من طموحات ومن آمال، وفي ذات الوقت يهاجم الزمن والظروف التي جعلته يقف على رصيف النسيان، في حين أنه -حسب وصفه- يستحق من الزمن والظروف أن تقف بجانبه، وله في ذلك حجة لا أستطيع أن أسجلها، لأنها كافية لنقله من "س" إلى فلان.

وأخيرا، وحين نفد صبره، من دوراني حول الحوار دون الإفصاح عن رأيي الواضح.

قال:

أنت وأنا، بعلمك الديني، وشهرتي المتواضعة، ولكن من تاريخي الذي يحتاج إلى انطلاق، نستطيع أن نخرج من رحم المعروف، إلى فضاءات الشهرة، وشاشات الرائي، وأوراق الصحف والمجلات، لنصبح أكثر شهرة من أي كاتب أو أديب، ونستطيع أن نتحول إلى اثنين، يهتم بهما الساسة، وتهتم بهما المؤسسات العالمية.



قلت:



وكيف السبيل إلى ذلك؟

قال:

نكتب كتابا، نوضح فيه الأخطاء الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وندمغ ذلك بحجج ممنطقة، مفلسفة، تبدو للمتأمل بأنها موضوعات ومسائل يمكن من خلالها أن تتداعى بعض من أسس العقيدة، وبعض من الموروث في التاريخ.

قلت:

القرآن كتاب الله جل شأنه، وهو منزه عن الخطأ، منزه عن منزلة البشر، وفيه من الإعجاز ما يكفي ليردنا على أعقابنا خائبين، والأهم من هذا: لماذا لا تفعل أنت ما تود أن تفعل بعيدا عني، لتحظى بالشهرة دون أن تضطر لتقاسمها معي؟

قال:

لو كنت أملكُ ما تملكُ من وعي ديني، وعلم شرعي، وأسلوب مقنع في الحوار، لفعلت، ولكني لا أملك إلا الشهرة القاصرة، والتاريخ الغني الذي ينتظر حدثا يحله من عقاله.

قلت:

للأمانة فقط، أنا لا أملك من الوعي الديني الحد الذي تصف، ولكن جهلك بأسس العقيدة ومكوناتها، وجهلك باختلاف الفقهاء في بعض القضايا، هو الذي صور لك غزارة علمي ووعيي، ولو تأملت قليلا بما أملك من وعي وعلم، لعرفت بأنني تربيت على حب الله ودينه، وعلى قناعة مستمدة من يقين يسكن قلبي، ونور يحتل عقلي، وهذا لوحده كاف لأن يجعلك تفكر قبل أن تعرض ما عرضت.



وسيأتي يوم، أكتب فيه عن مفاتيح الشهرة التي جاءت إلى بيتي الكئيب في الشكل والحقيقة، جاءت لتفتح أمامي دروب وطرق، كلها مملوءة بالسعادة الآتية من مال أو مسكن، فوقفت قناعاتي حائلا بيني وبينها، وانتصبت عقيدتي حاجزا من قناعة تملك القدرة على الرفض.



وكانت تلك المفاتيح التي دخلت بيتي الكئيب الفقير، بين يدي أخ من إخوتي، من بطن أمي، الذي نسميه بالمثل "البطن بستان".



وجاءت الشهرة مرة أخرى، بعد سنوات من الأولى، لتقف على باب بيت لا يملك صاحبه غير إصرار على قناعة، وتمسك في مبدأ، لكنها ارتدت مرة أخرى لتبحث عن شخص يعشقها، ولا يعشق أو يخاف من يوم لا تنفع فيه شهرة، ولا تُغْنِي سلطة.



وافترقنا، ونحن نحمل متضادين، فهو يسخر مني ومن قناعاتي ومبادئي التي حولتني إلى لاجئ يَسْتَجْدِي لقمة العيش من أناس لا يعرفهم.



وقد أشار إلى ذلك حين قال ساخرا: دع أمتك الإسلامية تمنحك ثمن الرغيف الذي تستجديه هنا.



وأنا تركته، وفي أحاسيسي شَفَقَةٌ على ما سَيَلُمُّ به، فهو أبعَدُ ما يكون عن الثبات أمام أية هزة خفيفة، والهزات هنا في الغرب، لا تأتي على مراحل، بل تتجمع وتستجمع كل قوتها لتَهُبَّ عاصفةً على الفرد الذي يبحث عن شيء غير موجود، أو شيء فوق طاقته.



وظللت لأيام أفكر به، فهذا عربي مسلم، قذفتْه ظروف ما، إلى أوروبا، باحثا عن لقمة عيش، وأمن، لكنه انقلب على عروبته ودينه، بل وتمنى لو يملك من القدرة للطعن في كتاب الله ودينه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.



وكثيرون مثله، باعوا أنفسهم بثمن أبْخَسَ من ذلك، فهذا يعيش مع عجوز، يعاشرها وهو يشكو رائحة فمها وتغضنات جسدها، لكنه لا يستطيع ولا يجرؤ حين تستبد بها الشهوة أن يرفض أو يقول لا، لأن الشارع المتجلد سيكون نصيبه ومأواه.



وذاك يتزوج امرأة تصفعه في كل يوم وليلة، وتطلب منه أن يخرج كلبها للتنزه حتى لا يصاب بكآبة أو حزن.



وهذا وذاك، أنواع مختلفة لا يمكن سردها ووصف الذل الذي تعانيه وتتجرعه.



لكن كلماته الأخيرة لي، بقيت مغروسة بالذاكرة: "دع أُمَّتَكَ الإسلاميةَ تمنحُكَ ثَمَنَ الرغيف الذي تستجْدِيه هنا.



يضاف إليها كلمات أخي صاحب الفرص تعليقا على رفضي: "سنرى ماذا ستُطْعِمُكَ المبادئُ والقناعات"؟



لست نادما على شيء فاتني، ولكني مَحْشُوٌّ بالأسى على أمّة تدفع أبناءها إلى موارد التهلكة والذل والصَّغار.



مأمون أحمد مصطفى زيدان

فلسطين- مخيم طول كرم

النرويج: 17-11-2006​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى