رائد الحواري - ملحمة جلجامش النص الكامل

ملاحظة

كتب هذا النقد للملحمة منذ أكثر من تسع سنوات، من هنا يمكن ان يكون بعض ما طرحته لا ينسجم تماما مع الحاضر، خاصة فما يتعلق بالحريات السياسية، فما هو متاح منها الآن لم يكن قبل اقل من اربع سنوات


الملحمة

ملحمة جلجامش ترجمت إلى العديد من لغات العالم، وقد بقيت حية منذ أن كان جلجامش ملكا على اوراك سنة 2700 ق م إلى هذه الساعة، وكان للملحمة الصدى الواسع في الأرض التي خرجت منها ـ الهلال الخصيب ـ فهناك ثلاث ترجمات في بلاد الرافدين ،طه باقر وسامي سعيد الأحمد وعبد الحق فاضل، وثلاث في بلاد الشام، فراس السواح و أنيس فريحة و وديع بشور، هذا بالإضافة إلى ما كتب عن الملحمة من دراسات وتحليلات عديدة، وكان لكل ترجمة من هذه الترجمات ميزة وأفضلية على غيرها، من هنا لم نقتصر على ترجمة واحدة وإنما أخذنا النصوص من أربع ترجمات متوفرة لدينا.
الملحمة تحتوي على الكثير من الأمور التي بحاجة إلى دراسة متخصصة، لما فيها من عمق واتساع فضاء، وقد حاولنا توضيح بعضها، والتوقف عند بعضها الآخر بما أملته علينا معرفتنا وفهمنا للنص-، وهناك محطات لم نتوقف عندها مثل أحلام جلجامش وانكيدو ـ أكثر من خمسة أحلام ـ، والعلاقة بين خمبابا والتنين التوراتي (الوياتا)، وعلاقة عشتار بعشاقها باستثناء تمو، والوقوف عند صراع جلجامش وانكيدو، وقد استخدمنا بعض الأسماء التي استخدمت في الترجمات حسب النص، مثل جلجامش وجلجميش وقلقامش، وأورك وأرك و أوروك، وخمبابا وهمبابا وهواوا، و اوتنا بشتم واوتنبشتم واوتانفشتم، وسيدوري وسابيتم صاحبة الحانة، واور شنابي وسرسنابو، ونرجو أن نكون قد قدمنا ما هو جديد من خلال هذ الدراسة


الملحمة والعصر

لا بد من الإشارة إلى أهمية الملحمة عالميا والوقوف على المكانة التي تحتلها، حيث أنها تشكل أول عمل أدبي متكامل أنتجه الإنسان على وجه الأرض، وقد اعتبرها بعض النقاد والمحللين أفضل ما أنتج من أدب العصر القديم، ومع أن هذا الكلمات يمكن أن يكون فيها إجحاف بحق الملحمة وبحق العصر الذي كتبت فيه ـ فجر السلالات السومرية ـ إلا أننا سنبدأ منها لنؤكد حقيقة أخرى، وهي أن الملحمة من أهم ما أنتج من أدب في تاريخ البشرية، وذلك من خلال إبراز المضامين الفكرية التي تحملها، ومن خلال الأسلوب الأدبي الفذ الذي حمل القضايا والهموم الإنسانية، والمتمثلة في التحرر والخلاص من الهيمنة الخارجية .
أن إرادة الإنسان تبرز وتسطع في الملحمة، وكأنها شمس تطرد وتحارب الظلام، ونستطيع التأكيد ـ بعد أن قرأة الملحمة ـ أن أول وأعظم عمل أدبي تناول مسألة الإرادة الإنسانية هو ملحمة جلجامش، لأنها ترسخ فكرة الإصرار والتصميم للحصول على الحرية والانطلاق نحو الفضاء الرحب، متخطية الصعاب والمعيقات ومتجاوزة التحديات، كما إنها الرائدة التي تناولت هذا الموضوع وبهذه الإرادة والتصميم .
أن إرادة جلجامش الإنسان تتفوق على حواجز الآلهة الوثنية، وهي تتخطاها وتحقق الانتصارات بشكل متواصل، وتم تجاوزها وتخطيها تباعا إلى أن وصل جلجامش هدفه ـ الخلود ـ، والملحمة تتناول موضوع صراع الإنسان و الآلهة، بشكل مباشر وصريح ـ حديث عشتار مع جلجامش ومطلبها الاقتران به، وقتل خمبابا حارس غابة الأرز، وبحث جلجامش عن الخلود بعد موت انكيدو، وبشكل غير مباشر المسار العام لأحداث الملحمة، وقد تم التطرق أيضا إلى الحياة السياسية في مدينة اورك، والتي قلبت مفهومنا عن نظام الحكم في ذلك العصر، والتي أوضحت بان مفهوم الحاكم المطلق لم يكن موجودا، بل هناك نظام حكم يعتمد على المشورة والمناقشة قبل التنفيذ، وهذه المنارة التي يجب الاسترشاد بها للخروج من حالة الضياع والتخبط الذي نحن فيه.
أن جلجامش الإنسان الذي ولد على هذه الأرض، قام ببناء مدينة حديثة وجعل فيها الأنظمة ـ الديمقراطية ـ مما جعلها رائدة عصرها في تكوين الحضارة والثقافة الإنسانية، إن مفهوم الحرية ـ الرأي والفكر ـ كان سمة العصر، والإنسان هو أعظم شيء، لا يوجد من هو أعلى منه مكانة، حتى القديسين والآلهة هم ما دون الإنسان، هذا ما يقوله لنا جلجامش في الملحمة التي كتبت في حدود 2700 ق م، وبقيت حية إلى هذا اليوم .
أن الاستمرارية التي فرضتها الملحمة على مر العصور، كانت نتيجة تناولها وطرحها للهموم والأفكار التي تورق الإنسان ـ الخلاص من القدر المحتوم ـ الموت والفناء ـ ولاحتوائها على المغامرة و الكائنات الأسطورية، لقد استمرت الملحمة حية ومتداولة وهي مكتوبة بين شعوب المنطقة أكثر من 2100عام، وهذا ثبت تاريخيا حيث اكتشف في مكتبة اشور بانيبال ألواح الملحمة، وأعوام حكم اشور بانيبال تننهي عام 626 ق م الميلاد، كما وجد علماء الآثار أجزاءً منها في إيران والأناضول وسوريا وفلسطين بالإضافة إلى العراق، هذا ويؤكد الانتشار الواسع للملحمة والزمن المديد الذي بقيت حية بين سكان المنطقة، أن احتواء الملحمة على قصة الطوفان جاء ليضيف بعداً آخر لها، يتمثل بالتأكيد على تواجد الرسل والرسالات السماوية، التي تميز منطقتنا عن غيرها، وإذا رجعنا إلى التاريخ نجد جلجامش شخصية حقيقية حكم اورك فعلا، وهو الملك الخامس الذي حكم المدينة، وينسب نفسه إلى تموزي الحاكم السابق للمدينة.


الديمقراطية والحرية

بعد هذه المقدمة نبدأ بالدخول إلى روح الملحمة، الروح الحية التي تجذبنا إليهاـ رغم البعد الزمني الكبير بينناـ وسندخل من باب الحرية والديمقراطية التي كانت سائدة في ذلك العصر، وحتى يمكننا فهم طبيعة الحكم في اورك نتناول مسألة تتعلق بحياة الناس العامة، وكيفية اتخاذ القرارات بشكل جماعي فيما يتعلق بمستقبل المجتمع، إن كانت تلك الإجراءات المقترحة تتفق أو تتعارض سياسة الحاكم أو الملك، ونستطيع القول أن هناك نظام ديمقراطي وجد في مدينة اورك، تمثل في مجلس شيوخ (الحكماء) ومجلس شباب (المحاربين)، وكانا يعقدان الاجتماعات للنظر في أمر (أجا) حاكم مدينة كيش الذي أرسل مبعوثين إلى اورك، يحملون معهم إنذارا نهائيا لتسليم اورك للملك الغازي، وكان قرار الشيوخ وتسليم المدينة، ولكن مجلس الشباب اجتمع وبحث الأمر ولم يوافق على التسليم، وقد أثبت قرارهم تاريخيا
" إن رسل (أجا) بن (أنميبارا جيسي)
ساروا من كيش إلى جلجامش في اوراك
وقال لهم
علينا إلا نذعن لبيت كيش ولنحارب بالسلاح
لكن مجلس شيوخ المدينة المنعقد أجاب جلجامش
لنذعن إلى بيت كيش ولا نحارب بالسلاح
إن جلجامش سيد كللاب مرة أخرى
عرض الأمر على محاربي مدينه وطلب القرار
فأجاب مجلس المحاربين المنعقد جلجامش
لن نذعن لبيت كيش ولنضربه بالسلاح" بشور ص190
أن هذا الأسلوب الديمقراطي كان سمة ذلك العصر، ولم يكن لحاكم أن يتصرف بمصير الشعب كما يشاء، وكان مثل هذه الاجتماعات تتكرر كلما تطلب الأمر، وها هو مجلس الشيوخ في اورك يجتمع للنظر في سفر جلجامش وانكيدو إلى غابة الأرز،
"في الساحة العامة اجتمع الشيوخ
أنت شاب، والشباب كثير الحماسة
أنت طموح وطموحك ذهب بك بعيدا
سمعنا بان خمبابا لا كسائر الخلائق
أسلحته ثقيلة لا تقهر
لخمبابا زئير كهدير الطوفان
النار تنبعث من فمه، يتنفس موتا
لا احد يجرؤ على الوقوف في وجهه" فريحة ص27+28
نجد هنا المعارضة من الشيوخ بكل عنفوانها، فهم يخاطبون الملك بكلمات حادة " أنت شاب ... كثير الحماسة وطموحك ... بعيدا" وهذا يؤكد حرية الاختلاف وحرية الرأي وحرية المعارضة، وهذه المعارضة مبنية على حجج ومعلومات، وليس فقط لمجرد الاختلاف والمعارضة، فكان الخوف على جلجامش باني مدينة اورك وسيدها، من دفعهم لمثل هذا الكلام الغليظ، وجعلهم يذكرون أمامه معلوماتهم عن حارس الغابة ـ خمبابا ـ، الذي يمتلك قوة كبيرة تتجاوز قوة البشر بكثير.
هذا الحضور لمجلس الشورى في اورك يجعلنا نفتخر ونشعر بالارتياح لما كنا عليه، ويجعلنا نندفع أكثر للمطالبة بهذا الفعل الاجتماعي ـ حرية الرأي ـ الذي يحمي الأمة من كافة الأخطار والتهديدات والمشكلات الداخلية والخارجية، ونندهش تماما عندما نفكر بهذه المدينة التي مارست فعل الديمقراطية قبل أكثر من 4700 عام، ونحن في هذا الزمن ـ العربي ـ مازلنا عاجزين وخائفين عن التقدم خطوة نحوه، وها هم الغربيون إلى غاية هذه الساعة ما زالوا يفتخرون بمجلس شيوخ روما، الذي تواجد في حدود 500 ق م، ونحن أصحاب مجلس الشيوخ والشباب قبلهم ب 2200، لا نذكر تاريخنا الديمقراطي المشرف، ولا نعرف عنه شيئا.
هذا على صعيد الديمقراطية في الحكم أو الشورى، أما في حالة النفور الشعبي من الحاكم، فكان يسمح للناس أن يشكوا همهم وطرح مشاكلهم ويتحدثوا عن سلبيات الحاكم بكل حرية وبدون أية ضغوطات أو تهديد، وهذا ما تخبرنا به الملحمة
"أشراف اوروك كئيبون في منازلهم
طغيانه لا يكبح إن بالنهار أو الليل" بشور ص 190
"نواحهم أناتهم بلغت مسامع الآلهة في السماء" فريحة ص12
من خلال هذه النصوص التاريخية يتأكد لنا نحن سكان الهلال الخصيب أننا أول الشعوب التي مارست حق المعارضة وإبداء الرأي بكل حرية وبدون خوف، ونحن أول من استخدم النظام الديمقراطي أو الشورى في العالم، فنحن السباقون في هذا المضمار، ونحن من علم الآخرين الديمقراطية


المقدس

بعد الحديث عن الديمقراطية تنقلنا الملحمة إلى حديث آخر شيق ويمثل المحرمات والمحضورات التي لا يمكن التكلم عنها ابدا، لكن في أجواء من الحرية والتفهم للآخر التي سادت في بلادنا، استطاع كاتب الملحمة تناول هذه المحضورات والمحرمات دون خوف من حساب أوعقاب السلطة، وهذا جانب إضافي للحرية التي تمتع بها سكان الهلال الخصيب في الماضي، وهو ما لم يكن متاح للآخرين الحديث عنه أو فيه أو حتى الإشارة إليه لا من قريب أو بعيد، وهنا دلالة قوية على استمرار الروح المتمردة والرافضة التي سادت في العصور الحضارية القديمة، وكذلك تأكيد على حرية الرأي وانفتاح العقل على كافة المسائل العقائدية والايدولوجية، فإذا سمح لنا عصر السومريين ومن جاء بعدهم بتناول المسائل العقائدية والفكرية وما يتبعها من عبادات بطريقة التحليل وإعادتها إلى المنطق العقلاني، فما بالنا نحن اليوم نغض بصرنا وبصيرتنا عن كثير من الأمور التي لم تعد تصلح لشيء، عند عرضها أمام المنطق ووضعها أمام التحليل والتفسير!.
أن الملحمة تؤكد المسار الرافض الذي لا يمكن أن يسلم للعادة أو للأفكار التقليدية السائدة، وتطرح فكرة التمرد، وتطالبنا بالفض والكف عن اخذ واعتناق واحترام المقدسات إذا خالفت وتعارضت مع فكر الإنسان، فهي ترفض أن يكون هناك شيء غامض على الإنسان، وتسعى إلى كشف الغموض وإزالة الغباش، وتريد أن تجعل من الإنسان موازيا وبمستوى القدسية، ذو هالة ومكانة رفيعة، من هنا تخبرنا الملحمة بأنه لا يوجد من هو أعظم من الإنسان الفاعل الذي يبحث عن التغير، واضعا كل الأفكار المثبطة وراء ظهره، ساعيا بكل عزيمة وإصرار نحو هدفه، وها هو جلجامش يصل إلى اوتنابشتم الخالد، ويخاطبه بهذا الشكل
" قال جلجامش له اوتنبشتم
ها أنذا جئت له لاوتنبشتم
الذي يلقبونه بالبعيد
طفت جميع البراري والقفار
اجتزت الجبال الشاهقة
عبرت جميع البحار
لم ينعم وجهي بالنوم الهنيء
قتلت الدب والضبع والأسد والنمر
والأيل والوعل وجميع حيوان البر
أكلت لحومها، اكتسيت بجلدها، وها أنا " فريحة ص64 و65
بداية اللقاء بين جلجامش واوتنابشتم الحاصل على الخلود من الآلهة كانت حاسمة، بدلا من ذكر أمجاد ومآثر اوتنبشتم المخلد يتكلم جلجامش عن أمجاده وبطولاته، متجاهلا الخالد وكأنه احد العامة الضائعين بين المجموع، أو ـ بحالة افضل ـ يتماثل معه في المكانة أن لم يكن اقل منه، جاءت كلمات جلجامش فيها العظمة لنفسه وتحمل السخرية أو الاستهتار لاوتنابشتم، وفحوى الكلمات "أنا البطل عبرت الجبال وبحر الظلمات وصرعت الأسود والوحوش وشاهدت المخلوقات العجيبة فمن هو اعظم مني؟، أنت يا اوتنابشتم البعيد وصلت إليك فأي منا العظيم؟"، وبعد هذه الكلمات يحاول اوتنابشتم أن يظهر حكمته أمام جلجامش فيتحدث عن مسار الحياة على الأرض، وكيف أن كل من عليها فان،
"من يبني بيوتا تدوم إلى الأبد؟
من يقطع عهدا يدوم إلى الأبد
الناس يرثون، يقتسمون، فأي ارث يدوم إلى الأبد
البغضاء، حتى البغضاء، أتبقى إلى الأبد؟" فريحة ص65
ولكن جلجامش يعرف هذه الحقائق ولا يريد من احد أن يذكره بها، ولهذا جاء إلى البعيد اوتنابشتم ليحصل منه على سر الخلود، فقد سمع الكثير عن استحالة الخلود، من بداية رحله إلى أن تمكن من مقابلة الخالد اوتنابشتم، ولهذا كان رد جلجامش قاسيا مدويا، يحمل الألم والرغبة والإصرار والانفعال معا
"انظر إليك يا اوتنابشتم
شكلك عادي، واراك مثلي
نعم شكلك عادي، واراك مثلي
قد صورك لي جناني بطلا على أهبة القتال
لكن ها أنت مضجع على جنبك أو قفاك" السواح ص204
لو اطلعنا على كافة الأدب القديم، لما وجدنا صورة تصغير للعظماء بهذا الشكل، فهذا الخالد يتلقى كلمات جافة وقاسية من إنسان من المفترض أن يفنى، والخالد بهذه الوضعية لا يستحق ما هو عليه من هالة وعظمة، وجاءت كلمات جلجامش مكررة "شكلك عادي واراك مثلي" لتوحي لنا بان اوتنابشتم أصيب بالاندهاش من طريقة مخاطبته، ولهذا أعاد على مسمعه عين الجملة، لقد أراد جلجامش بذلك أن يزيل التميز والتفرقة بين البشر، فإذا كان شكل اوتنابشتم مثل شكل جلجامش، فيجب أن يكون هناك مساواة بينهما، فلا يكون هناك من يفنى ويموت وآخر يبقى خالدا وإلى الأبد، وحتى لو كان هذا التفضيل صادر عن الآلهة، فهو مرفوض، ويجب إعادته إلى طريق الصواب، وحسب رغبة البشر، وهناك مطلب آخر لجلجامش يتمثل بان يكون التميز ـ أن وجد ـ على أساس القدرات والإرادة الفاعلية، وليس على أساس إرادة وثنية لا تفرق بين الفاعل والنائم .
من هنا نستطيع القول بان جلجامش أول من طالب بازلة التفرقة بين البشر، وان يكونوا متساوين في كل شيء، ولكي يثير جلجامش اوتنابشتم، خاطبه بكلمات هجاء مستخدما الحالة الراكدة والساكنة التي وجد بها اوتنابشتم، ولكي يزيل الهالة والهيبة التي يتمتع بها اوتنابشتم، وهذا ما تم فعلا، من خلال الاستغراب الذي أظهره جلجامش لمشاهدته ذلك الخالد مستلقيا على قفاه باستكانة، وإذا وضعنا الكلمات التي تحدث بها جلجامش عن أمجاده، مع ما خاطب به اوتنابشتم، نفهم منها الاتي ( أنا جلجامش الذي قام بأعمال البطولة الخارقة واستطعت الوصول إليك أيها الخالد البعيد، لكي أسالك عن سر الحياة، أجدك أدنى مني منزلة ) ولهذا كان استغراب جلجامش على الكيفية التي حصل بها على الخلود، مع انه اقل منه فاعلية وإرادة، ولهذا ألغى سؤاله عن سر الحياة لأنه وجد اوتنابشتم اقل من أن يعرف سر الحياة والموت، وسأله عن الكيفية التي حصل بها على الخلود
"قل لي كيف دخلت زمرة الآلهة وفزت بالخلود؟" فريحة ص67، هذا انقلاب كامل في مفهوم جلجامش عن الآلهة والنظام الذي تفرضه على البشر، وعلى اختيارها للنخب الخالدة، وهذا السؤال بمثابة رفض و تمرد و ثورة على القرارات التي تتخذها، فقد جاء التحول في موقف جلجامش وكأنه صفعة للآلهة ولاوتنابشتم أيضا، وإذا عدنا إلى النص الملحمي نجد جلجامش أكثر حضورا واقناعا من اوتنابشتم، وهذا عامل إضافي يضاف إلى الحيوية الفكرية التي تطرحها الملحمة، فهي كانت تسمو بالإنسان إلى أعلى عليين، متجاوزة القديسين وبقاءهم في حالتهم الساكنة بدون فاعلية أو تأثير، ونعتقد بان كاتب النص الملحمي يريدنا أن لا نهتم كثيرا بالقصص والبطولات التي تم انجازها في غابر الزمن، فنحن قادرون على تحقيق ما هو أعظم منها بكثير، إذا امتلكنا عقلية جلجامش المتمردة وإرادته الصلبة، وهذا ما تم للإنسان جلجامش الذي تفوق على الخالد اوتنابشتم من خلال انجازاته وبطولاته .


الآلهة

بعد الحديث عن المقدسين، تنقلنا الملحمة صعودا نحو الأعلى، إلى حديث آخر أكثر جرأة وحساسية، عن الكائنات التي يجب الحديث عنها ـ بشكل دائم ـ بكل إجلال واحترام، لقد كان وما زال تناول المسائل الدينية يحمل الحفيظة والحساسية للجميع، والتطرق إليها بالنقد والتجريح يولد النفور وربما العداء، إلا أن جلجامش لا يعرف حدودا للمحرمات، وكل من يخطيء يجب محاسبته، ومواجهته بكل جرأة، وان لا نترك هذا الخاطيء يمر مرور الكرام، واقفين ساكنين أمام أخطائه وزلاته، حتى لو كانوا من الالهة، وها هو جلجامش يقابل الربة عشتار بالتجريح والشتائم والضرب، لأنها حاولت الإيقاع بالإنسان لأهوائها ورغباتها
"تعال يا جلجامش وكن عريس
هبني ثمارك هدية
كن زوجا لي وأنا زوجا لك
سأمر لك بعربة من ألازورد، وذهب
عجلاتها من ذهب وقرونها من كهرمان
تشد إليها عفاريت العاصفة بغلا عظيمة
وملفوفا بشذى الأرز بيتا
قبلت المنصة قدميك والعتبة
وانحنى لك الملوك والحكام والأمراء
يضعون غلة السهل والجبل أمامك، تقدمة
ستحمل عنزاتك توائم ثلاثة، ونعاجك مثنى
سيبز حمارك أثقال البغال
وخيولك تطبق الآفاق شهرة جريها
أما ثيرانك فلن يكون لها تحت النير نظير" السواح ص148
قد لا يجد القارئ بهذا الاقتباس أية اهانة أو تصغير للربة عشتار، ولكن إذا أمعنا النظر جيدا، نجد في كلماتها التي قالتها ـ ربة معبودة من البشر ـ تطالب بمتعة دنيوية زائلة، نجد فيها ما هو أكثر من اهانة وتصغير، إن الطرح الذي قامت به عشتار أدنى من أن يقدم علية إنسان يحمل أدنى شيئا من الكرامة، فما بالنا بكائن معبود؟ ،فمطلبها الاقتران بجلجامش هو دليل واضح على إنها وجدت في الإنسان شيئا غير موجود عند الآلهة، وهو يمتلك أشياءً لا تملكها الآلهة نفسها، وهذا أعطى الإنسان مكانة تفوق مكانة الآلهة، وما أثار حفيظة جلجامش أنها جاءت تتحدث عن مصالح مادية فقط، ولم يحمل كلامها أية فضائل أو مواقف أخلاقية، وهذا أظهرها من صغار البشر، فقد كان الأجدر بها أن تذكر الفضائل الأخلاقية وسماتها وهيبتها المقدسة، وليس مصالح يجنيها جلجامش، فقد كان تفكير عشتار منصباً فقط على متعة جنسية ومادية فقط، أما جلجامش فلم تكن له أي اهتمام بهذه الإغراءات و الامتيازات، وكذلك لم تكن ذات قيمة في نظره مطلقا، وهي ذات ثروة عظيمة في نظرها، وهنا تأتي المفارق بين الإنسان ومن هو أعلى منه مكانة، أن عشتار التي تريد أن تشتري جلجامش بتلك البضاعة الغالية ـ في نظرها ـ، مقابل أن يدفع جلجامش سعرا زهيدا جدا ـ الاقتران بها ـ هذا الموقف جعل من جلجامش عظيما ومن عشتار الدنيئا.
كان من مصلحة جلجامش المادية الموافقة على طلبها، إلا أن عظمة الإنسان تحول دون الإقدام على هذا الأمر، فجلجامش وجد عشتار قد سقطت إلى المنزلة السفلى، من خلال إغوائها وتقديمها الإغراءات والمكاسب المادية فقط، وهذا الفعل الدنيء لن يمر دون حساب وعقاب، خاصة إذا كان القاضي جلجامش الذي لا يعرف المهادنة أو المجاملة، وهو الذي وجد ليدافع عن الإنسان، ويواجه الآلهة التي تجاوزت حدودها، ومن هنا جاء عقاب جلجامش شديدا صارما مهينا لعشتار، متناسبا مع مكانتها، فكلما كان المخطئ كبيرا كلما كان الجرم اكبر، ولذا وجب العقاب والردع ومتناسبا مع حجم الخطأ، والآن لنقرأ معا رد جلجامش
" وأنا ما الذي اجنيه أن تزوجتك
أقدم لك زيتا، ثيابا فاخرة
خبزا طعاما
أنت كباب البيت الخارجي لا يصد ريحا
لا يمنع عاصفة
كقصر عظيم أنت، كقصر يتحطم فيه الأبطال
كفيل عظيم يرمي عنه حليه
كالقطران أنت يلوث يد حامله
كقربة ماء أنت تبلل من يحملها
كحذاء تزل به قدم منتعله" فريحة ص 37
في البداية رد عليها جلجامش بعين الأسلوب ـ المصلحة المادية ـ الذي عرضت بضاعتها الرخيصة به، فتحدث بالمنطق الذي تفهمه، مكاسب وإغراءات مادية ومعنوية، وبعد ذلك مباشرة يبدأ في قذفها بسيل من الشتائم وكلمات التحقير والتصغير بأسلوب هجائي رائع، حتى تعي رداءة وقبح الكلمات التي تقدمت بها أمام جلجامش، إن الأوصاف التي نعتها جلجامش، تعبر عن موقفه العنيد والحازم اتجاه عشتار، ويتبين منه امتلاكه الصلابة وسرعة وقوة الرد على من يهبط بمسلكه ومكانته إلى الحضيض، أن وصف عشتار بالباب هو اهانة لها، فكيف إذا كان هذا الباب لا يصد ريحا؟، وهنا كانت الإهانة مزدوجة، أولا هي باب، والباب تعبير يحمل التصغير والتحريف لمكانتها، وثانيا هي لا تقدم الفائدة المرجوة من وظيفتها ـ صد ومنع الريح من الدخول ـ.
وبعد هذا الوصف، يقول جلجامش "أنت قصر عظيم"، وهنا يتوقف عن الكلام، حتى تفقد عشتار اندهاشها وصدمتها من الجملة الأولى، ولترجع إلى التفكير بالمكانة والهيبة التي نسيها جلجامش، ويكمل عليها الجملة "يتحطم فيه الأبطال"، ونجده هنا يعرف كيف يعاقب ويؤنب الخطأ، يعظم عشتار ثم ينزل بها إلى أسفل السافلين، حتى يكون وقع الكلمات عليها شديد التأثير ويعيدها إلى جادة الصواب.
ويكمل جلجامش هجومه فيصفها بالفيل، وهنا إهانة أخرى لها، ويزيد عليها عندما يذكرها بان هذا الفيل ترك حليه ولم يعد يستفاد منه، وبدأ يخرب ويدمر، بدل أن يخدم الناس.
ويستمر جلجامش في قذف الكلمات الجارحة في وجه عشتار المخطئة، فيصفها "بالقطران"، وهنا نجد تصعيد الهجوم الذي بدأ بكلمة "الباب" ويصفها بهذه الاهانة المركبة، أولا وصفها بشيء قبح، لونه يشير إلى السواد والشؤم، وثانيا توسخ يد من يتعامل به، فمن يريد أن يمسك بالوعاء الذي فيه القطران!.
ويتابع جلجامش هجومه اللاذع ويصغها "بالقربة" وأي قربة، المثقوبة التي تبلل كل من يحملها، ولا تلبي الغاية التي وجدت من اجلها، ولهذا هي تضيع الماء الذي تعبنا في جلبة وأيضا تبللنا، فأذية القربة المثقوبة مزدوجة، وآخر هجوم جلجامش كان وصفها "بالحذاء" البالي الذي يتعثر به منتعله، وهذه من اشد الشتائم التي تستخدم في حالة الغضب والاحتقان الشديد، فهي حذاء، وحذاء بالي أيضا.
وإذا أمعنا النظر بالاهانات التي وجهها جلجامش لعشار نجد القسم الثاني منها اشد وقعا وأكثر إيلاما من القسم الأول، وكما أن الجملة الواحدة كانت تحمل اهانتين معا وليس اهانة واحدة، وهنا يتبين لنا المسافة الشاسعة بين جلجامش الإنسان وعشتار الربة التي تطالبه بالاقتران.
وبعد هذا الكلام الجارح ينتقل جلجامش إلى نوع آخر من المفاهيم التي تفسر وتوضح هذا الموقف الذي يحمله اتجاه الربة عشتار،
"أي من عشاقك الكثر أخلصت له الحب
أي راع قدر أن يرضيك
أصغي إلي أقص عليك خبر عشاقك
لن تستطيعي أن تنكري الخبر
هذا تموز، الشاب الوسيم زوجك الأمين
أمرت النادبات والنائحات
أن يندبنه، وينحن عليه سنة بعد سنة
وقعت في حب الطائر الشقران، الطائر
المرقش ذي الريش الجميل فماذا حدث له
كسرت جناحه، هام في البساتين
يئن صارخا يا لجناحي يا لجناحي
ثم ماذا؟ أحببت الأسد حفرت له سبع حفر
أحببت الحصان لكنك أخضعته للسوط والمهماز
حكمت عليه بالجري ساعات وساعات
قضيت أن ينضح بالعرق
عشقت راعي القطيع الراعي الذي جمع أكياس الفحم
ليشوي لك الجداء فماذا صنعت به
مسخته ذئبا تطارده كلاب القطيع
أحببت فلاح النخيل عند أبيك، ايشولانو
فماذا صنعت به؟ تنظرين إليه بشهوة، تقولين
تعال مد يدك إلى خصري، ضمني، متعني
بقوتك العجيبة يا ايشولانو
يجيب المسكين : أمي خبزت وأكل من خبزها
لماذا أكل خبز الشر والعهر" فريحة ص38و39
هذا الجزء من مكاشفة عشتار يمثل أهم جزء في كلام جلجامش، وذلك لأنه يمس وبشكل مباشر مكانة عشتار الدينية في المجتمع، وبمكن أن يكون هذا الجزء قد وضع لهدف عقائدي بحت، يهدف العزف وترك عبادة عشتار والتقرب منها، لأنها ترمز وتمثل الشر والعذاب الذي يقع على أي مخلوق تقترب منه، فهي في الأساطير القديمة تمثل الحب والخصب، ولكنها في الحقيقة التي أوضحها جلجامش لا تمثل سوى الموت والعذاب والألم والغدر.
وإذا انتقلنا إلى المعتقدات الدينية القديمة نجد هناك أسطورة تتحدث عن نزول تموز إلى العالم السفلي بأمر من عشتار، ونتيجة هذا العمل الظالم بحق تموز أصاب الأرض الجدب والجفاف، ومن ثم الحق الضرر بالإنسان بسبب نزول تموز إلى العالم السفلي.
"333 وهناك كان دموزي يجلس بجلال في مجلسه، مرتديا ثيابا جليلة
334 قأمسك به الشياطين من...
336 وهجم عليه السابع من...
337 فلم يعد الراعي يعزف النايولا المزمار
338 وصوبت (انانا) نظراتها إليه (دموزي) : نظرات موت
339 ونطقت بكلمة ضده: كلمة سخط
340 ونطقت صرخة ضده: صرخة إثم (وقالت)
341 خذوه
342 وهكذا أعطت أنانا المقدسة دموزي الراعي بيديهم
343 أما الذين صاحبوه
344 صاحبوا دموزي
345 فقد كانوا مخلوقات لا تعرف الطعام، لا تعرف الماء
346 فهي لا تأكل طحينا مبثوثا
347 ولا تشرب ماء مسكوبا
351 وتخطف الابن من حضن أبيه
27... فقد سلمتني إلى العالم السفلي بديلا عنها " فاضل عبدالواحد ص199-202
أن عشتار التي قامت بهذا العمل الرديء لا يمكن عبادتها، أو حتى احترامها، وإنما يجب محاسبتها ومعاقبتها، وهذا العقاب كان بتجريدها من الهالة المقدسة التي حولها، ومن ثم إبقائها كائنا منبوذا يكون عبرة للخاطئين، وما قامت به من خيانة اتجاه أحبتها وخاصة تموز الذي خانته وغدرت به يمثل ذروة غدرها وخيانتها، وما كان ليرسل إلى العالم السفلي ليأكل الطين ولا يرى النور أبداً، دون خيانتها ثم أمرها للشياطين بان يأخذوه.
ونعتقد أن عملية المس بالمعتقد الديني ووضعه أمام ـ المنطق العقلي نسبيا ـ يمثل الهاجس الذي يحرك أحداث الملحمة، وان كاتبها كان يعي ما يكتب، ويدفع بالمتلقي في ذلك العصر، إلى إعادة تكوين أفكاره الدينية ومعتقداته الفكرية، وما جاء تذكير القارئ أو المستمع للنص بخيانة عشتار لأحبتها، وتركهم مقهورين منكسرين بعد اخذ حاجتها منهم، إلا ليؤكد أن المقدسات بحاجة بشكل دائم ومستمر للخضوع للامتحان وتجديدها فكريا لتتناسب مع منطق الإنسان، ومن هنا جاءت التفاصيل الدقيقة لعملية الغدر والخيانة، لتدفع بالمتلقي نحو الاتجاه النقيض لما هوسائد.

وسنحاول الآن تشريح وتوضيح الحاجات والرغبات التي أخذتها عشتار من عشاقها، فبعد أن حصلت على رغبتها الجنسية من تموز أرسلته إلى الموت، وطائر الشقراق بعد أن استمتعت بصوته المغرد وتمتعت بمنظر ريشه الجميل قامت بكسر جناحه، أما الأسد فنعتقد بان حاجة عشتار منه تتمثل في استخدام جلده فقط ولهذا حفرت الحفر السبع له، والحصان ينقل الأمتعة والحاجات الثقال والمتاع ولكن بعد هذه الأعمال قامت عشتار بضربه بالسوط وإجباره على العمل بالمهماز، أما الراعي الذي يقدم لها اللحوم الطازجة والمشوية، فبعد أن شبعت من الطعام اللذيذ قامت بمسخه إلى ذئب، والفلاح الذي قدم أشهى إنتاجه من البلح قامت بإزالة عضوه الذكري، هذه تفاصيل الخيانة التي قامت بها عشتار، ولهذا هي كائن يبحث عن حاجاته ورغباته الغريزية فقط، ولا يهتم بغير ذلك، فالطعام والشراب والملبس والجنس وحمل الأثقال كلها حاجات بشرية لا تمت إلى الربة عشتار لا من قريب أو من بعيد، ولهذا من المنطق ترك عبادتها وهجرها هجرا جميلا، وهنا طرح كاتب النص على لسان جلجامش أفكارا تتعارض مع تلك التي يعتنقها المجتمع، وفلا يمكن عبادة من يقوم بخيانة الآخرين وتركهم محطمين بعد اخذ الحاجة منهم.
وبعد سماع عشتار هذا الرد من جلجامش تصعد إلى السماء وتطلب ( انو ) أبو الإلهة أن يقتص لها من جلجامش، وطالب منه أن يخلق لها ثوراً سماوياً لينتقم من جلجامش، ولكن انيكدو صديقه يمسك الثور من قرنيه وجلجامش يضع السيف في جسده، وهكذا تفشل عشتار أمام الإنسان، وتأخذ في الصراخ والعويل على ثورها المقتول، وخلال هذه الأحداث يتم قذفها بسيل من الشتائم على لسان انكيدو الذي ضربها بفخذ الثور أيضا،
" لكن انكيدو رمى بفخذ الثور وجه عشتار
آة لو امسك بك
لفعلت بك ما فعلته بالثور
لربطت عنقك بمصران الثور" فريحة ص 41
بعد هذه التفاصيل الفكرية المتعلقة بعشتار وإستنتاج بعدم شرعية عبادتها، تنقلنا الملحمة إلى دفعة جديدة من التوجيه الفكري ضد عشتار، فبعد أن كانت الحرب بين عشتار وجلجامش فكرية فقط، تطورت لتصبح حرباً حقيقية، فقتل الثور السماوي من قبل جلجامش وانكيدو ثم ضربها وتوجيه التهديد لها، تصبح هناك حرباً طاحنةً لا تبقي ولا تذر، وما عملية قتل الثور السماوي الذي اوجد بناء على رغبة عشتار، إلا عملية قتل إله، ولهذا كان قرار مجمع الإلهة هلاك احد الاثنين، انكيدو أو جلجامش.
وتأتي أهمية النص الذي يتحدث عن عشتار بهذه الحدة وهذا الصدام، عندما نقابلها مع تلك التي تتحدث عنها بصورة صديقة ورحيمة نحو الإنسان، فموقفها المتعاطف أثناء الطوفان وبكاؤها على البشر الغرقى يمثل التلاحم والتعاضد مع الناس،
"عشتار سيدة الإلهة تنتحب عاليا
الأيام الماضية، أواه، استحالت إلى طين" فريحة ص 72
"صرخت عشتار كامرأة في المخاض
ناحت سيدة الإلهة ذات الصوت العذب" السواح ص 211
لقد تم ذكر معبد عشتار في الملحمة أكثر من خمس مرات، ونعتقد أن المراد من ذلك، إعطاء صورة عشتار وهي مع الإنسان يتم احترامها وتقديرها وتشييد المعابد لها، والصورة الأخرى وهي تريد احتواء الإنسان فيتم الاقتصاص منها بكل السبل والوسائل المتاحة، ففي الموقف الثاني نجدها تتبع أهواءها وشهواتها، وما طلبها من جلجامش للاقتران به إلا أحد تلك المواقف التي جعلتها صغيرة، ورفض جلجامش جعله أكثر احتراما وإجلالا منها،


الجنس

حرية عصر الدويلات السومرية لم تقتصر على المسائل السياسية والفكرية وحسب، بل تعدتها إلى مسائل أخرى، لكي تنير لهم طريق الحرية وتزيل بقع الجهل وعدم المعرفة، فكان من حقهم طرح الكثير من القضايا المحرمة في مجتمعنا، والتي لم يأتي تحريمها من باب الحرص على المجتمع وقضايا الأمة، ولكن من باب القمع والاضطهاد ومصادرة الرأي الآخر بكل الطرق والسبل، فعصر أورك كان يسمح للأفراد أن يتحدثوا عن هذه المحرمات بكل حرية وبدون أي مضايقات، فمادام الفعل أنسانياً ويتعلق بالإنسان فما المانع بالحديث عنه؟، كان الوضع في أوراك عصرا ذهبيا بالنسبة لنا، لما تم تحقيقه من الحرية واحترام فكر الإنسان.
لقد تطرقت الملحمة إلى الفعل الإنساني الخلاق ـ الجنس ـ في أربعة مواضع، وجاء حديثها في البداية بكل صراحة ووضوح عن الجنس، وعن الكيفية التي يتم بها هذا الفعل الإنساني، والأثر الذي يتركه على من يقوم به وخاصة الذكور، ثم عن المتعة واللذة التي يحصل عليها من يقوم بهذا الفعل، ومع أن هناك إشارة واحدة في الملحمة، حول دور ونتائج هذا الفعل في إبقاء وإستمرار الحياة الإنسانية على الأرض، إلا أنها تبقى أهم مصدر تاريخي تحدث عن الجنس بهذا الإسهاب والوضوح، ونصوص الملحمة تزيل تلك الطوطمية عن الفعل الإنساني وتجعل منه كائناً بسيطاً يحبه جميع الناس ولا يخافونه مطلقا، فهناك نصوص تتحدث عن انكيدو الوحش الذي يخرب مصائد الصيادين وينقذ الطرائد من شباكهم، بحيث لم يعد الصيادون قادرون على الصيد من الغابة، ويعود احد الصيادين خائفا مرتعبا، يخبر أباه بما حصل في الغابة وما شاهد من أعمال وأفعال الوحشي انكيدو، فيخبره الأب بضرورة التوجه إلى جلجامش وإعلامه بما شاهده في الغابة، وعندما يعلم جلجامش بالأمر يوصي بإرسال بغيا مع الصياد إلى الغابة لكي تغوي الوحش انكيدو، وهنا يتم التطرق أول مرة إلى فعل الجنس في الملحمة والأثر الذي يتركه على من يقوم به.
"وسله يا صياد أن يبعث مومسا معك
فإنها تروضه وتغلبه
وعندما يجيء مورد الماء
ليسقي السوام
فتخلع الثوب الذي عليها
فذلك يخلبه
تكشف جسمها عن المفاتن العظام
فانه إذا رأتها عينه ... أتى إليها
لأنها ستجذه" عبد الحق فاضل ص 193و194
"دعها تكسر شكيمته، بقوة تفوق قوته" السواح ص96
هذا الحديث الناري عن القوة ـ الجنسية ـ التي تملكها المرأة، وأثرها على الرجل، ولا ندري من أين حصل السومريون على هذه المعلومات حول اثر الجنس على الرجل، أم أرادوا من ذلك القول بان الرجل بعد الزواج يكون أكثر تحضرا ومدنية منه قبل الزواج؟.
أم هو نوع من الخيال الأدبي أراد كاتب الملحة إضفاءه عليها؟، وبعد ذلك تخبرنا الملحمة عن فعل الجنس، بخلع المرأة ثوبها لتظهر مفاتنها أمام الوحش انكيدو، وكيف سينجذب إليها مسحورا بمفاتنها الجسدية، وكيف ستوقظ غريزته النائمة، في هذا الوصف تقول لنا الملحمة أن قوة المرأة تتفوق على قوة الوحش الرهيب، وكذلك نجد فيها تأكيداً على احترام المرأة من قبل المجتمع السومري.
لكن الملحمة لا تكتفي بهذا الحديث عن الجنس بل تريد التوغل أكثر، فتصف كل إحداثيات الفعل، إلى أن ينهي تماما.
"أخلعي ردائك أيتها البغي
اكشفي عن صدرك لتبن مفاتنك
اغويه إسحريه شان المرأة بالرجل" فريحة ص 14
"ها هو ذا أيتها المرأة
عري نهديك
أسفري عن مفاتنك
حتى ينال كفايته منك
لا تحجمي
حركي فيه الرغبة، علميه وظيفة المرأة
وافتحي ثوبك حتى يرقد عليك
وسيلتصق صدره بصدرك" بول فريشاور ص74
هكذا تحدث الصياد للمرأة عندما شاهد الوحش انكيدو، فيطلب منها القيام بإغراء انكيدو، وإذا تتبعنا الكلمات نجدها خارج الحشمية وبعيدة عن الحب العذري والعاطفية الرومانسية، ويكاد الإقتباس السابق أن يكون مدرسة في الإباحية، فأمام قوة انكيدو الجبارة كان لا بد من استخدام هذا الفعل الذي يوازي قوة الوحش أن لم يتفوق عليها، ولهذا جاءت الكلمات واضحة وبهذه القوة، لكي تقنع القارئ أو السامع بوجود توازن قوى بين الوحش والمرأة، وقد يبدو أن المواجهة غير عادلة ـ الوحش والمرأة ـ ولكن الملحمة تريد أن تعطينا الحدث بصورة أسطورية مضخمة، لكي تقنعنا بما ذهبت إليه من الأحداث، ومن حسن حظ كاتب الملحمة انه كتبها قبل أن يأتي علية عصر الرقابة والممنوعات المعاصرة، الذي يحد ويحجب الكثير من الأفكار والأطروحات، فهذه النصوص الجريئة تمثل تعدياً وتجاوزا صريحا لقانون المطبوعات والنشر، ولهذا لم يجرؤ احد من المترجمين للنص الملحمي، أن يستخدم الكلمات التي استخدمها الكاتب قبل 4700 عام، وجاءت الترجمات فيها من الحشمة والرقابة الذاتية ما حد من صراحتها ووضوحها واباحيتها، وهذا ما تم الإشارة إليه من قبل فراس السواح، الذي وضع حاشية تتحدث عن الترجمة الفاضحة،
"هو ذا يا فتاة البهجة حرري ثديك
عري صدرك يقطف ثمرك" يقول السواح في حاشية، "ترجم البعض الشطرة الأولى من هذا البيت بشكل مختلف، افتحي ساقيك، عرضي فرجك" السواح ص 98، من هنا جاءت ترجمة الغرب للنص أكثر تماثلا وانسجاما مع النص الأصلي، ولهذا تم اقتباس جزءاً من النص لكتاب الجنس في العالم القديم لبول فريشارو، هذا هو وضع الترجمة المحافظة أو الخائفة من الرقابة في عصرنا ـ العربي ـ، أما عصر أورك فكانت الحرية فيه تحلق راياتها عاليا، متجاوزة عصرنا بكثير، فقد سمحت أن تكتب عما يجول في نفس الإنسان من مشاعر ورغبات دون قيد أو رقيب، أما عصرنا فانه قابض على روح الإنسان، لا يسمح لها أن تنطلق وتبدي ما فيها من أفكار ومفاهيم يمكن أن تغير مسار الحياة كليا.
لقد استمرت الملحمة في الحديث عن الجنس، وها هي المرأة تفعل ـ المحرم ـ أمام الصياد
"فتاة البهجة حررت ثديها، عرت صدرها
فقطف ثمارها
لم تخجل، أخذت إليها دفأه
طرحت ثوبها انحنى عليها
علمت الرجل الوحش وظيفة المرأة
وها هو واقع في حبها" السواح ص99
لم تكتفي الملحمة بالحديث عن المرأة، وكيفية إغوائها لانكيدو على لسان الصياد، بل استمرت في حديثها عن تلك المضاجعة الجنسية، بين قوتين ـ الوحش البدائي انكيدو وقوة المرأة العاطفية ـ ولا نريد هنا الحديث عن المنازلة بينهما، إلا أن النص أوضح لنا وضوح الشمس ما تم بينهما من فعل، إلا أننا نريد الإشارة إلى ترجمة سطر واحد من النص وهو "فقطف ثمرها" هذا السطر ترجم حسب الحاشية التي وضعها السواح، أن الوحش وضع ـ عضوه ـ بين ساقي الفتاة، واعتقد أن قمة الإباحية والفحش تم تناولها في عصر أورك، والنص الملحمي يعطينا صورة عن الحرية التي سادت على هذه الأرض في الزمن الماضي، وكيف نظر أسلافنا إلى الجنس، الفعل الذي يقوم به كل من هو على وجه الأرض، من هنا تطرقت الملحمة إليه على لسان البشر والقديسين وحتى الآلهة، بدون أي خجل أو تحفظ.
لقد تم الحديث عن الجنس على لسان سيدوري صاحبه الحانة المقدسة، حينما أرادت أن تثني جلجامش عن طريقه وتعيده إلى أورك، فتكلمت عن نتائج فعل الجنس بالنسبة للمرأة وما يتبع ذلك من شعور ولذة
"اتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها
أنها تجد المسرة في أحضانك
وانظر إلى الصغير على يدك" بشور ص235
من خلال حديث المرأة عن الجنس نعرف كيف تنظر إليه وما يسبب لها من مشاعر وأحاسيس وكذلك نتائج هذا الفعل عليها، فيمكن أن لا يعرف الرجل أن المرأة تشعر باللذة كما يشر بها، ولهذا جاء حديث صاحبة الحانة لتؤكد على العلاقة والمتعة واللذة المتبادلة التي يحصل عليها كل من يقوم بفعل الجنس، وقد تم التطرق إلى نتائج الجنس هو الطفل الصغير، هذا الناتج عن الفعل الإنساني فهو يجلب أيضا الفرح والسعادة لوالديه وللآخرين، فكل من يشاهد الطفل يشعر بالفرح والسعادة حتى لو لم يكن من الصلب أو الاقارب، إذاً الجنس فعل أنساني له أهميته في استمرار الحياة، كما أنه يسبب الفرح واللذة التي تدفع بالإنسان ليعشق ويرغب أكثر في الحياة، ولإعطاء المزيد حول أهمية الجنس بالنسبة للأنثى تتحدث عشتار الأم سيدة الكون عنه قائله
"هلم إلي يا جلجامش وكن عشيقي
امنحني بذرة من جسدك
دعني أصبح زوجتك وتكون زوجا لي" بشور ص 215
الطلب الذي تطلبه عشتار من جلجامش يؤكد الحاجة الجنسية لكل كائن حي فالملحمة لم تقتصر هذا الفعل على البشر وحدهم بل تعدى فعله إلى الآلهة، من هنا نجد فعل الجنس ذو أهمية، وجعلت منه الملحمة يسمو على بقية الأفعال الأخرى، وهناك حديث آخر لعشتار تطالب فيه فلاح النخيل لكي يمتعها برجولته
"تعال، مد يدك إلى خصري، ضمني، متعني" فريحة ص 39
تطلب الربة عشتار بشكل واضح وصريح بفعل الجنس، ومع أنها صاحبة الجلالة وسيدة الكون في المعتقدات القديمة، إلا أنها تطالب بالحصول على هذا فعل، ونعتقد في هذه الفقرة تم التركيز على من يقوم بفعل الجنس أكثر من الفعل ذاته، وهذا الأمر يشير إلى فهم ومعرفة ودراية القدماء بكل ما يتعلق بالجنس، والملحمة بهذا تخبرنا أن الجنس حيوي وذات أهمية بالغة للبشر ليس للحفاظ على الحياة البشرية وحسب، بل وكذلك ليمنحنا اللذة والسعادة والتي بدورها تعطينا دفعة لنستمر في الكدح ومواجهة المشاق والصعاب.
في نهاية الحديث عن الجنس نقول أن حرية الرأي في المجتمع السومري أعطت كاتب الملحمة هذا المقدار من الحرية ليكتب عن الجنس، ولهذا استطاع السومريون أن يكتشفوا ويتحدثوا عن أهميته، وان يكشفوا كل خفاياه دون خوف أو خجل، مما جعلهم يزيلوا عنه كل الغموض والجهل الذي أنيط به، كما أعطت الملحمة فعل الجنس دور المهذب والمؤنس، فمن خلاله استطاع الوحش انكيدو أن يتخلص من بدائيته وينتقل إلى كائن بشري كامل، والمتعمق في النص الملحمي يستطيع الاستنتاج أن فعل الجنس مسيطر علية، ويتحكم به الإنسان حسب ما يراه مناسبا، ولم يكن الفعل هو المسيطر على الإنسان، ولهذا كانت هناك محطات تم فيها القيام بالفعل بكل طواعية وهناك محطات رفض وإحجام على القيام به، وذلك يعتمد على تقدير الموقف من قبل الإنسان، وبهذا جعلت الملحمة من الجنس فعلاً أنسانياً واضحاً بعيدا عن التحريم والطوطمية.


البغي والوحش انكيدو

بعد الحديث عن الحرية وتناول الكيفية التي حكم بها السومريون، وكيف تحدثوا عن القديسين والآلهة والجنس، ندخل إلى أقسام الملحمة وتفاصيلها، ونبدأ من المغامرة، التي تعج بها الملحمة، فهناك أكثر من مغامرة ذكرت فيها، وسنحاول التركيز على المعاني والأفكار التي أريد من ورائها، كما سنذكر بالتقنية الإبداعية والجمالية لهذه الأحداث، ونبدأ الحديث حسب التسلسل الملحمي، مغامرة الوحش والبغي وما هي مقدمتها، فبعد أن بنى جلجامش أسوار أورك ومعابدها وشوارعها، لم ترتح نفسه وبقيت في اضطراب مما دفعه إلى الدخول على الزوجات قبل الأزواج
"لا يترك جلجامش بكرا لامها" السواح ص91 ،
هذا الظلم دفع الناس إلى الدعاء والاستنجاد بالآلهة، ويتم الاستجابة لطلبهم من قبل الربة آرورو، فتخلق انكيدو ليكون ندا لجلجامش، فأخذت اورور شيئا من الطين ورمته في الأرض فكان انكيدو يأكل مع الحيوان ويتصرف كأحد حيوانات القطيع، فهو ينتمي إلى كائنات الغابة وهو جزء منها، ويدافع عن بيئته أذا تعرضت للخطر، الوحش ينقذ رفاقه إذا تعرضوا للخطر، الذي تمثله حفر الصيد والشباك التي ينصبها، وكان يفشل كل محاولات الصيادين، من خلال تخليص الحيوانات من الشباك وحفر الصيد، وهذا العمل ـ إنقاذ الحيوانات ـ يقلب أو يوقف نظام الطبيعة التي تجعل من الإنسان سيدا ومتحكما بالحيوانات، فهو ينقذ الحيوان الضعيف من الإنسان، أما هيأته فتترك الهلع والرعب على من يشاهده
"لا يعرف الناس ولا البلدان، عليه ثياب كسوموكان
يرد الماء مع الحيوان
رآه الصياد فامتقع وجهه هلعا
كان خائفا مشلولا ساكن الحركة
في قلبه اضطراب وعلى محياه اكتئاب
وقد سكن الروع افقه
فوجهه كمن مضى في سفر طويل" السواح ص 94
النص يوضح صورة الوحش صاحب الشعر الطويل المرتدي جلود الحيوانات، فهو بدائي متوحش لا يعرف الحياة البشرية والاجتماع الإنساني، وهو بهذا الوصف وهذه الصفات مرعب لكل من يشاهده، حتى أن الصياد القوي وصاحب الخبرة والمهارة في التعامل مع الحياة الغابة، لم يجرؤ على الاقتراب منه، ولنمعن بما أصاب الصياد عندما شاهد الوحش، غم وجهه من شدة الهلع وأصابه الخوف، حتى انه لم يقوى على الحركة، هكذا بدا وضع الصياد، أما نفسيته فأصبحت مضطربة، والاكتئاب سيطر عليه والرعب يعيش داخله.
ومن هنا نجحت الملحمة في وصف حالة الصياد الظاهرة ـ الشكلية ـ وغير الظاهرة ـ النفسية ـ وهذا الأمر يشير إلى تطور فنية الكتابة عند السومريين، التي تهتم بإبراز الانفعالات والهواجس عند شخوص الملحمة، مما يجعلها أكثر إقناعا وتماسكا في أحداثها.
إذن هناك مخلوق متوحش يمتلك هيئة مرعبة وقوة عظيمة، ولا يمكن لأي رجل عادي أن يتصدى له، من هنا كان لا بد من وجود شخص قادر على مواجهة الوحش، لا يرتعب من هيئته المخيفة، ويمتلك من القوة ما تمكنه من إيقافه والسيطرة عليه، فمن تكون تلك القوة؟.
إذا تسلسلنا بسرد القصة وتوقفنا عند وضع الصياد يتبادر إلى ذهننا بان هناك قوة كبيرة مكونة من مجموعة من الرجال الأشداء والمدججين بالسلاح ستقف أمام وحش الغابة، إلا أن الملحمة تفاجئنا بصاحب القوة الذي تستطيع السيطرة على الوحش وإخضاعه والتي تكمن بأضعف مخلوق بشري ـ المرأة ـ، المرأة هي التي تستطيع الوقوف أمام الوحش، وهذا المنطق في استخدام قوة المرأة يعطي تأكيدا على العبقرية التي وصل إليها المجتمع السومري، وأيضا المقدرة الفنية على مفاجأة القارئ أو السامع للأحداث الملحمة.
ونعود إلى الصياد المرتعب، لنكمل معه المغامرة، يعود الصياد إلى الأب وهو في حاله المزرية
"أي أبت قد هبط أرضك رجل فريد
أقوى من الفلاة ذو باس عظيم
دوما يطوف أرجاء أرضك
خفت ولم أجرؤ منه اقترابا
ردم حفري التي حفرت
بعونه فرت من يدي طرائد البر وحيوانه" السواح ص95
الأسطر السابقة تحدث فيها الصياد لأبيه عن وهن حالته، وعن الوحش الذي يقف وراء تغير الأحوال، فنجد في كلامه تأليب الأب على الوحش، فاستخدام الصياد كلمة "أرضك" ولم يستعمل كلمة أرضنا، لكي يعطي الشكوى وقعا اكبر في نفس الأب، ومن ثم يأخذ بالحديث عن أعمال الوحش التي أصبحت العقبة أمام الاستفادة من الأرض وما عليها، الأب يطلب من الصياد الذهاب إلى جلجامش ويطلب منه بغيا، لتذهب معه إلى الغابة، البغي تذهب في صحبة الصياد إلى المكان المحدد.
الدور الذي أنيط بالمرأة للسيطرة على الوحش، جاء ليقلب المفاهيم المتعلقة بالمرأة وبالصراع مع الوحش، فقد تم استخدام قوة الجنس بدلا من القوة الجسدية والعضلية، وهنا أعطت الملحمة المرأة دورا أقوى من دور الرجل الذي لم يستطع مواجهة الوحش، بينما واجهته المرأة وانتصرت عليه، فالمرأة في هذا الجزء من الملحمة كانت أقوى من الرجل وأكثر فاعلية منه، فهي تمتلك من القوة النفسية ـ عدم خوفها من الوحش ـ الشيء الكثير، كما تمتلك من القوة ـ العاطفة ـ ما تجعل من الوحش يتأنسن.
المشهد السابق يؤكد على أن السومريين كانوا يعظمون المرأة ويعتبرونها من عناصر المجتمع الفاعلة، فهي كائن فاعل له دور في الحياة، هذا الدور للمرأة جعل الملحمة تخرج عن المألوف والمنطقي، فبدلا من مواجهة القوة بالقوة جاءت المواجهة بين القوة المتوحشة وقوة العاطفة.
يجلس الصياد والبغي ثلاثة أيام وهما ينتظران قدوم الوحش، يأتي الوحش ليشرب مع القطيع وهناك تخرج المرأة بفتنتها الساحرة فتنتصر على الوحش
" فتاة البهجة حررت ثديها، حررت صدرها
فقطف ثمارها
لم تخجل، أخذت إليها دفأه
علمت الرجل الوحش وظيفة المرأة
وها هو واقع في حبها" السواح ص99،
استخدام المرأة مفاتنها لإثارة العاطفة عند انكيدو المتوحش ومن ثم انجذابه إليها وبقوة، وبعد هذا الوقوع في حبها أو الحاجة إلى تلك العاطفة، فقد منحت انكيدو شيئا جديداً لم يحصل عليه خلال وجوده مع الحيوانات، الحب والجنس أمران جديدان على انكيدو، الذي لم يعرف منهما شيئا قبل التعرف على الغانية، الذي يمتلك مفاتيح الحب والجنس هو المرأة وبهذا المفتاح استطاعت المرأة أن تكسب ود المتوحش، ومن خلال حاجته إليها أصبحت قادرة على الوصول إلى داخله، وبهذا خرج انكيدو من مجتمعه ـ البرية وحيواناتها ـ
"رأته حيوانات البرية مع البغي
أنكرته، جفلت، نفرت عنه" فريحة ص15
النتيجة الأولى الحب فقدان انكيدو للحياة التي عاشها وعرفها ـ الغابة ـ فهروب الحيوانات منه رغم انه كان حاميها يعد تغير جذري، فالمجتمع الذي عاش فيه انكيدو نبذه ولم يعد يأنسه، من هنا كانت ردة الفعل الطبيعية عند انكيدو هو اللحاق بذلك المجتمع؟
" تمهل خلفها، ثقيلا كان جسمه
خائرة كانت ركبتاه، ورفاقه ولت بعيدا
تعثر انكيدو في جريه، صار غير الذي كان" السواح ص99
والنتيجة الثانية فقدان انكيدو قواه، فهروب الحيوانات منه معناه فقدان المجتمع الذي لم يعرف سواه، من هنا جاء اندفاعه نحو ذلك المجتمع واللحاق به، فلما لم يستطع فعل ذلك، وأصبح بعيدا عنه ـ جغرافيا ونفسيا ـ أصبح حقيقة في مصيدة المرأة الكائن الجديد الذي عرفة، وكأن الملحمة تقول لنا بان الحيوانات مثل المرأة لا تقبل مشاركة الغير لها أبدا، من هنا يجب الإخلاص لها حتى تكون لنا ونكون لها.
إذن أصبح انكيدو أسير الصياد بدون أن يعي ذلك، المرأة تقوم بتقيد صيدها بشيء غير ملموس، جعله عاجز عن الحركة، وهذا الوثاق أو القيد غير معروف عند انكيدو بعد، والصياد المرأة يعي تماما ذاك الوثاق الذي أوثق به الطريد انكيدو، من هنا أصيب انكيدو بحالة من الكآبة
" فاغتم انكيدو وضعفت قواه
إلفه فارقه، اغتم وحزن" فريحة ص15
الوضع النفسي السيئ وهو نتيجة عدم المقدرة على ممارسة الدور السابق لانكيدو، وفقدان المجتمع الذي يعرف، والضعف الذي أصبح فيه، وهذا بداية الوعي عند انكيدو ـ معرفته لواقع جديد ـ فهو يعرف معنى الأسر والابتعاد عن الرفاق، من خلال الحيوانات التي كان ينقذها ويحررها من الأسر، وهنا أصبح انكيدو يتوسط مجتمعين ـ الغابة وحيواناتها من جانب والمرأة وعاطفتها من جانب آخر، فبعد ابتعاد المسافة الجغرافية والعاطفية عن المجتمع الأول كان لا بد من التوجه إلى المرأة الأقرب والأثبت جغرافيا على اقل تقدير.
" قفل عائدا إلى المرأة جلس عند قدميها
رافعا بصره إليها" السواح ص99
صورة انكيدو يبدو فيها ضعيفا مستسلما أمام الصياد المرأة، التي استطاعت بتلك القوة الخفية أن توصله إلى هذه الحالة من الضعف، الوحش القوي المخيف يجلس أمام المرأة الصياد بصره مرفوعا إليها طالبا العون والرحمة مما هو فيه، فكأنه يتوسل الخلاص بهذه الوضعية، وتبدو المرأة في وضعية المسيطرة المتحكم تماما بصيده، صورة الطريد انكيدو والصياد المرأة تجعلنا نعلم القوة الكامنة فيها.
بعد أن تجد المرأة الثمرة قد نضجت وحان قطافها، تنتقل إلى الخطوة الثانية، وهي الذهاب بصيدها إلى مكان جديد، لكي تستكمل عملية التغير للوحش ويصبح شيئا غير الذي كان عليه سابقا، فبعد استطاعتها إبعاده عن حياته السابقة وإضعاف قدراته، وانهيار حالته النفسية أصبح باستطاعتها أن تعبئ انكيدو بما تريد من مفاهيم وأفكار جديدة.
"أنت عاقل يا انكيدو، أنت شبه إله
لماذا تجول مع القطيع
تعال تجول معي أخذك إلى مدينة مسورة
أقودك إلى أوراك إلى المعبد المقدس
تتعرف إلى جلجامش القوي الجبار
إنه يطغى ويجور. كثور وحشي هو" فريحة ص16
بدأت المرأة حديثها مع انكيدو حول حياته السابقة، إنها تعرف نفسية الوحش وكيف يفكر، تريد أن تفتح له بابا جديدا عوضا عن الباب الذي سد في وجهه، وبهذا أكملت حديثا عن العالم الجديد الذي ينتظر انكيدو، مفصله له ماهية هذا العالم، فيه معابد وأسوار لم يسمع بها من قبل، وفي نهاية حديثها أخذت تثير فيه غريزة إنقاذ المظلومين، وتقول له هناك شخص ـ جلجامش ـ يجور ويظلم، وهناك مظاليم هم بحاجة إلى حمايتك، انكيدو الذي ساعد الحيوانات الضعيفة وإنقاذها من الإنسان القوي، ما زال يحب ويريد أن يقوم بعملية إنقاذ الضعفاء ومواجهة الأقوياء، وهذه الغريزة عرفتها المرأة في انكيدو ولهذا جاء حديثها عن جلجامش أكثر شيء تأثر به انكيدو، وهذا التأثير انعكس في رد انكيدو عما سيفعل بعد وصوله إلى أوراك
"تعالي فخذيني أيتها المرأة
إلى المعبد المقدس مسكن آنو وعشتار
حيث عظيم البأس جلجامش الظاهر فوق جميع الرجال كثور حشي
سأناديه وأكلمه بجرأة
سيجلجل صوتي في أوراك أنا الأقوى
نعم أنا من سيغير نظام الأشياء
من ولد في البراري هو الأقوى وعنده البأس العظيم" السواح ص100و101
جاء حديث انكيدو عن تصوره لهذا العالم الجديد بسطر واحد فقط، تحدث فيه عن المعابد، وستة اسطر عن تلك الشخصية التي جذبته، وهذا يشير إلى أن المرأة استطاعت أن تعرف كيف يفكر والوحش ومن ثم قدمت له طعما جديدا، لتسوقه إلى المكان الذي ينتظره.
إذا أمعنا التدقيق في كلمات انكيدو عن جلجامش نجد فيها الاعتراف بقوة جلجامش، وثقة بالنفس عند انكيدو، وكذلك الشوق والاندفاع لملاقاة الخصم والحديث معه، إذن هناك دوافع الإنقاذ ومواجهة جلجامش والشوق للحديث معه، والمرأة تكون بذلك قد نجحت في اسر انكيدو وهكذا ستكمل معه الطريق بحديثها أولا وبعملها ثانيا
" كان كلام البغي في نفس انكيدو موقع حسن
فشقت البغي رداءها شطرين
بواحد كست جسده العريان
وبالآخر جسدها هي
وكما تقود الأم طفلها
قادته بيده إلى مائدة الرعاة
قدموا له خبرا لكنه لا يعرف الخبز
احتار في أمره لم يمد يده
قالت البغي: كل خبزا يا انكيدو
الخبز مادة الحياة
اشرب خمرا إنها عادة أهل البلاد
فمد يده وأكل خبزا وشبع
وشرب سبع كؤوس من الشراب القوي
فانشرح صدره وبرقت أساريره
غسل جسمه بالزيت، صار بشرا
وضعوا عليه رداء صار كإنسان
أخذ أسلحة الرعاة ليهاجم الأسد
فيأمن الرعاة شره، يناموا باطمئنان" فريحة ص21و22
بعد أن سلم أنكيدو نفسه للمرأة واخذ بكلامها، بدأت تظهر عليه ملامح الإنسان المتحضر العاقل، وأول تلك التغيرات في هيئته ارتداء الثياب لستر العورة، وهذا الأمر يذكرنا بستر عورة آدم وحواء بعد أكلهما من الشجرة المحرمة، ونجد هنا ستر العورة جاء كفعل نبيل متحضر وليس نتيجة خطيئة، ففي ارتداء الملابس يكون الإنسان قد تجاوز عصر البدائي وتقدم إلى عصر التحضر والاستقرار والإنتاج.
فبعد ارتداء الثياب أصبح انكيدو يمتلك جزءاً من الحياة الجديدة التي اخذ يسعى إليها، وبعد اللباس جاء التعامل مع أفراد المجتمع الجديد، فكان اللقاء مع بني البشر، وفي هذا اللقاء كان يتعلم منهم عاداتهم وسلوكهم، وهنا يتلقى انكيدو درسا جديدا من هذا المجتمع، فيتعين عليه أكل الخبز وشرب الخمر، هذا الطعام الجديد غير ذاك الذي كان يتناوله في الغابة، والشراب ـ الخمر ـ غريب عليه، وهنا يريد كاتب الملحمة أن يقول لنا بان من سمات المجتمع المتمدن أن يرتدي الثياب وان يأكل طعاما مصنعا وليس طعاما بدون تصنيع، فنجد الثياب من الضرورة أن تكون مصنعة وهذه الفكرة ـ التحضر وربطها بالإنتاج من الأفكار المتقدمة التي طرحتها الملحمة.
وهكذا يجد انكيدو هذا الخبز وهذا الشراب طيبا، ويشعر بنشوة الفرح بعد ذلك الشراب، وبهذا يتقدم انكيدو خطوة أخرى نحو الانسنة والتحضر، وبعد هذا يأتي دور العمل استكمالا لشكل وهيئة انكيدو، ليكون إنسانا كاملا، ويتم تطهير انكيدو بوضع الماء والزيت على جسمه ليدخل عالم الإنسان نظيفا طاهرا من كل النجاسات.
من خلال تطرق الملحمة لفكرة الماء والزيت نجد هذا الأمر من الأمور الأساسية لكي يقبل أي إنسان في جماعة دينية، فعند المسيحيين يجب أن يعمد الإنسان الذي يدخل المسيحية بالماء، وفي الإسلام عليه أن يغتسل بالماء ليدخل الإسلام، فكأن الاغتسال هنا لا يطهر الجسد وحسب بل الروح والعقل أيضا، من هنا نقول بان فكرة الاغتسال والتطيب لها جذور دينية منذ أن أرسل الله الأنبياء والرسل للبشر.
وبعد التطهر يأتي دور العمل الذي سيكمل به انكيدو طريقة نحو الانسنة الكاملة، فيأخذ أسلحة الرعاة ويقوم بعملهم، وهكذا أصبح انكيدو إنسانا كاملا، لا يختلف عن بقية الناس إلا بقوته الجبارة، وبهذا يكون قد انضم إلى المجتمع البشري من خلال المرأة التي نجحت في مهمتها واستطاعت أن تسيطر على الوحش وتقوده كما تقود الأم طفلها ثم تعلمه السلوك الإنساني.
في نهاية هذا الفصل نريد أن نشير إلى الأفكار التي تناولتها الملحمة، خاصة ما يتعلق منها بطبيعة المرأة، فهي ذات قدرة على القيام بالأعمال التي لا يستطيع الرجل القيام بها، وهذا الكائن ـ الضعيف ـ في نظر البعض يمتلك من القدرات الشيء الكبير، وهذه القدرات من أساسيات الوجود الإنساني على الأرض، فهي التي تهذب الإنسان وتخلصه من البداية نحو التحضر والاجتماع، فالمرأة صاحبة دور أساسي في إيجاد الحياة الإنسانية على الأرض، وهناك إشارة إلى الجنس على انه فعل أنساني يتميز به الإنسان عن بقية المخلوقات، فإذا كان الإنسان يتكون نتيجة فعل الجنس فان انكيدو الوحش تأنسن من خلال الجنس، وكأن الجنس لا بد منه ليكون هناك إنسان حتى لو كان المخلوق كاملا مثل انكيدو، كما تظهر لنا الملحمة بان الانسنة لا بد لها أن تمر من خلال المرأة وبواسطتها أيضا، والإشارة " تقوده كما تقود الأم طفلها " جاءت لتوحي للقارئ بان دورة نمو للإنسان سيمر بها كل البشر حتى لو كانت غير منتظمة كما هو الحال مع انكيدو.



انكيدو في أوراك

قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
"يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما فعله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و "هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس" ص12 فريحة
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
"بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهو راعينا
لم يترك فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر" ص 12فريحة
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
"هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا
هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق" السواح ص87
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ
الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
"مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
رفع الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟"السواح ص87 و88
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل.
بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
"الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان" فريحة ص11 و12
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
"ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يترك جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هو راعي لأوروك المنيعة
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم"
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة.
نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
" سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا" فريحة ص14
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
"أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنو الثاقب واحد منها انقض علي
رمت رفعه فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذو بأس عظيم
متين العزم كشهاب آنو الثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط" السواح ص 102 و103و 104
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين .
"في أوروك المنيعة ، فأس مطروحة ، تجمعوا عليها "
" تحلق أهل أوروك حولها "
" أحاط أهل أوروك بها "
" تدافع الناس إليها " السواح ص104
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة ،ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء .
" سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها "
" ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي " السواح ص223
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع.
وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
" الفأس التي رأيت ،رجل "
" معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق "السواح ص105
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات .
" قال جلجامش هل حظي حن لا فوز "
" بمثل هذا القوى الوفي " فريحة ص19
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة .
"سأناديه وأكلمه بجرأة"
" سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى "
" نعم أنا من سيغير نظام الأشياء " السواح ص101
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك
"نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني" فريحة ص16
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو
"دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما" بشور ص200 و201
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو
" فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش" فريحة ص 23
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض
" فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن وجد جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله" بشور ص201
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع.
وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن.
بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو
"اقترب جلجامش اعترض انكيدو الطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدو الباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدو وجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض" فريحة ص23
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو.
وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض
"ولما رجع إلى الوراء
قال له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر" بشور ص201 و 202
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.


غابة الأرز

جلجامش يحمل فكرة التمرد على كل ما هو كائن، ونفسه تأبى التسليم للأمر الواقع، ويسعى السمو فوق الجميع، ويريد أن يكون أنموذجاً فريدا يسترشد بفعله من الآخرين، فيقرر الذهاب إلى غابة الأرز ليكون مميزا عن الجميع ويخلد اسمه ولا يفنى كبقية البشر، ولتستقر نفسه الباحثة عن المستحيل، فهو يعرف أن أيام البشر معدودة ولا يمكن تجاوز القدر، ومع هذا لا يريد الاستسلام وبهذه الحقائق يسعى ليتخطاها رغم استحالة ذلك، فهو يرفض وبإصرار أن يكون من الفانين، وسيعمل جاهدا لكي يبقى خالدا والى الأبد.
اتخذ جلجامش قراره بالذهاب إلى غابة الأرز، ورغم بعدها وصعوبة الوصول إليها وخطورة تلك الرحلة، إلا انه يقرر الذهاب، فيستشير صديقه انكيدو أولا
" هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض" السواح ص121
جاءت كلمات جلجامش لتعيده إلى ذاته الخيرة، التي ترفض الشر وتسعى للخير، من هنا يريد أن يخلص الناس من الشرور مهما كان مصدرها ومصدرها، انكيدو عاش في البرية ويعرف غابة الأرز ويعرف طريقها ومن هو حارسها، وبهذه المعرفة تحدث لجلجامش
" أنها تمتد عشرة ألاف فرسخ في كل اتجاه
لقد عين انليل هواوا لحراستها وأسلحته بسبعة ألوان الرعب
عندما يزأر يكون صوته كهدير العاصفة
أنفاسه مثل النار وأنيابه الموت بعينه
انه يحرس الأرز بيقظة كبيرة
أن الخوف يستولي على كل من يقترب منها" السواح ص121
ليس صراعا متكافئا عندما يقابل المرء هواوا
انه محارب عظيم، انه إله التحطيم" بشور ص204
أنكيدو الصديق الوفي يخبر جلجامش بكل ما يعرف عن الغابة وعن حارسها ، فهي بعيدة جدا والوصول إليها يحمل الكثير من المشقة والتعب، وهذه أول المعيقات أمام الوصول إليها، وهناك أرادة سماوية لحماية الغابة من الدخلاء، وهذه الإرادة متمثلة بأنليل الذي وضع هواوا أو خمبايا لحراستها، وبما أن هذه الإرادة سماوية إلا أن الحارس هواوا يمتلك أسلحة سماوية وقوة جبارة وهيئة مرعبة، تتمثل فيما يلي، منظر مرعب يلقي الرعب في قلب كل من يتجرأ وينظر إليه، ويمتلك صوت العاصفة الهوجاء، ويخرج النار من فمه، وأنيابه مثل السيف، هذه الأوصاف لا يمكن أن تكون لرجل أو إنسان بل لمخلوق متوحش أسطوري.
أن خمبابا هو كائن رهيب يمتلك تلك المقدرة الإلهية وهو دائم اليقظة يسمع كل من يقترب من الغابة، ويضيف أنكيدو محذرا جلجامش من السفر إلى الغابة، الرعب يدب بكل من يذهب إلى تلك الغابة، وكذلك المنازلة مع ذلك التنين هو نزال محسوم سلفا لصالح التنين، ويكمل أنكيدو حديثه عن قوة الحارس قائلا، إنه محارب عظيم وهذا يعطي خمبابا الخبرة في القتال وليس القوة فقط، وهذا ما يجعل منازلته شبه مستحيلة.
بعد سماع جلجامش هذه المعلومات، يرد على أنكيدو بكلمات يريد من خلالها جلب أنكيدو للموافقة على سفره إلى غابة الأرز .
" يا صاحبي من الذي في وسعه أن يدحر الفناء
ليس سوى الأرباب تحت الشمس من يظفر بالبقاء
أصبحت ترهب الردى ونحن لم نزل هنا
فما الذي دهى النزال فيك والبطولة
أهكذا تحقق المنى
وما الذي عساني أن أقوله
دعني إذن أسير قدامك يا أنكيدو
أسير وليناديني فوك : تقدم لا تخف
فأن أصاب مهجتي التلف
أكون قد دونت لي اسما خالدا
وسوف يذكرون عني قائلين أبدا :
لقد قضى جلجامش في نزال خمبابا المريد" عبد الحق فاضل ص 236
جلجامش يعرف كيف يخاطب الأبطال أصحاب العزائم القوية، ويعرف كيف يثير فيهم العزيمة لقد استخدم جلجامش الخطاب الفكري أولا ثم ألأخلاقي ثانيا، مستخدما كلمات موجعة مؤثرة، لقد جاء حديثه عن الخلود والموت يحمل بين معانيه الذل والتقريع لك من يريد أن يبقى ساكنا غير يفعل، ويحمل أيضا الإقناع المنطقي، فأصحاب الفعل لن يغيروا نظام الحياة والموت، وأصحاب عدم الفعل لن يغيروا كذلك النظام، ومن هنا جاء سؤال جلجامش في بداية حديثه " يا صاحبي من الذي في وسعه أن يدحر الفناء" يحمل الإقناع المنطقي، ويدفع بألهمم لصالح طرحه.
وبنفس الأسلوب الذي بدا فيه أنكيدو الحديث مع جلجامش، يرد عليه جلجامش ودخل الآلهة في الموضوع كما أدخلها أنكيدو، وجاءت كلماته واضحة مثل الشمس ليس فيها غموض أو إبهام، ويكمل جلجامش حديثه عن الإنسان والأيام المقدرة له من الإلهة، جاء هذا الخطاب الفكري لإقناع أنكيدو بأن قرار جلجامش الذهاب إلى غابة الأرز هو قرار صائب، لكن كيف سيقنع أنكيدو بان يذهب معه إلى الغابة ؟ من خلال معرفة جلجامش لنفسية أنكيدو المخلص، جاءت كلماته أللاحقة فيها النار التي تشعل الزيت في قلب أنكيدو الشجاع، ويبدأ معه بكلمات تدفعه نحو القبول بألفعل، أيعقل أن يكون أنكيدو القوي يخاف من مجرد ذكر خمبابا وهو ما زال في حضرة جلجامش!، أليس هذا امتهان لانكيدو؟، ثم يسأل جلجامش أنكيدو بحقيقة مؤلمة، أين ذهبت قوتك؟ وجاء هذا السؤال إنكاري لتلك القوة التي يحملها أنكيدو، ويكمل حديثه أنا أسير أمامك وأنت خلفي، مفهوم هذه الكلمات في نفس أنكيدو،النار الحارقة التي يحترق بها وكيف يسير في الخلف وهو الشجاع؟، ولا يكتفي جلجامش بذلك بل يكمل بجملته القاتلة: "وأنت تصرح تقدم ولا تخف" هذا الحديث جعل أنكيدو يعيد كل حساباته، ولقد ذهل من سماع هذه الكلمات وها هو يعد العدة مع جلجامش للذهاب إلى غابة الأرز، وكأن الكلمات التي سمعها هي تحدي شخصي له، فيقرر المضي مع جلجامش ويأخذ في أبداء النصائح لجلجامش ليكون سفرهما ناجحا .
" فأخبر اتو ( شمس ) أوتو البطل
أن الأرض أرضه
أن ارض الارز الذي ستقلعه تخص أتو" بشور ص 205
هذه النصيحة التي وجهها أنكيدو لجلجامش تكون البداية لسلسلة من الإجراءات يتخذها جلجامش قبل السفر، وفعلا يخبر جلجامش الإلهة شمس، وتكون هذه كلمات جلجامش لشمس الإله:
" يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم
يهلك الرجل وهو محزون القلب
ها أنذا أنظر من فوق الأسوار
فأرى الجثث تطفو على النهر
وأنا سيحل بي حقا نفس المصير
الإنسان أطول إنسان لا يمكنه أن يطال السماء
الإنسان أعرض إنسان لا يمكنه أن يغطي الأرض" بشور ص 205
جاء خطاب جلجامش لهذا الإله فيه هم الإنسان الذي يحمل هموم الناس جميعا، جلجامش يحزن من مشاهدة الرجال موتى، وقبل أن يحصلوا على شيء من الحياة، وهذا الحقد على الموت سيكون هو أحد أهم الصراعات التي يخوضها جلجامش، فهو يكتفي بالحقد هنا، ولم يصل بعد إلى مرحلة التناقض معه، فهو رفض ـ مسالم ـ يريد أن يكون فعالا يظهر صورته أمام الناس وأمام الإلهة كبطل حقق شيئا مميزا وفريدا.
جلجامش هنا يعمل ضد كل ما هو ساكنا، ويسعى إلى أن يكون كل شيء متغيرا، فالسكون وعدم الفاعلية والثبات نقائض يعمل جلجامش على إزالتها من الكون، وبعد هذا الهم الجماعي لأهل أوروك ينتقل جلجامش ألي همه الشخصي مخاطبا شمس، هل سيحل بي نفس المصير؟، هذا السؤال يؤكد بأن جلجامش يرفض أن يسلم للأمر الواقع – قدر الموت ـ وكذلك بإنسانيته، ولكن سيعمل بشكل مخالف لعمل الإنسان العادي، فهو يتميز عن بقية الناس ليس بقوته وهيئته وحسب بل بالعقلية الرافضة كذلك، وبعد هذا السؤال ينتقل جلجامش للحديث عن فلسفته اتجاه الموت وكيف ينظر لهذا الموت، فكأنه يقول للإله شمس، ما دام الإنسان أعظم إنسان لن يصل إلى السماء ولن يغطي الأرض لأنه سيموت في النهاية فدعني افعل قبل أن أموت، وبعد هذا الحديث يوافق شمس على سفر جلجامش ويعطيه الأمان في الذهاب والعودة إلى أوروك سالما.
وبعد هذا الانجاز موافقة أنكيدو ثم مباركة الإله شمس، يأتي الإعداد والتجهيز لتلك الرحلة الطويلة، يأمر جلجامش الصناع لكي يصنعوا أقوى ألأسلحة ليواجه بها خمبابا، وأثناء ذلك يعلم شيوخ أوروك انكيدو عن خمبابا الذي لا يمكن قهره، يرد عليهم جلجامش بمنطق الرافض للسكون.
" بماذا سأحبهم ؟
وسأمكث داخل بيتي كل أيام حياتي؟" بشور ص 207
استخدم جلجامش صيغ التحقير لحالة التسليم والسكون ليثير المستمعين نحو رفض هذا السكون والتسليم بما هو قائم، وجاءت كلماته تحمل فلسفته عن الحياة والفعل وبعد هذا الحديث مع الشيوخ والإله شمس وأنكيدو من قبل، نستطيع القول بأن جلجامش يسعى إلى سمو الإنسان ويعمل على رفض كل ما هو قائم مقدر، وهو يمتلك فلسفة خاصة به عن الحياة والفعل والموت والسكون، وهذه الفلسفة تعتمد على الإنسان الذي يعتبره جلجامش بموازاة الآلهة، وقد استخدم أسلوب التحقير المحرض على الفعل، وهذا الأسلوب كان مقنعا جدا، حيث حصل على دعم كل من تحدث معه.
وقبل أن يبدأ جلجامش وأنكيدو الرحلة إلى غابة الأرز، ويدخل جلجامش على أمه ننسون ليحصل على مباركتها، وجاءت كلماتها كما يلي :
" أي شمس لماذا أعطيت لأبني قلبا لا يعرف الراحة
لماذا أعطيت هذا القلب لجلجامش
أنت دفعته فهو الآن في طريقه إلى ارض خمبابا
سيسير طريقا مجهولا ويخوض معركة غريبة
لا تنسه إذن من يوم رحيله حتى يوم عودته
حتى يصل غابة الأرز ويقتل همبابا
ويحطم الشر الذي تمقته يا شمس
بل دع الفجر "أيا عروسك العزيزة تذكرك دائما
وإذا ولى النهار دع حارس الليل يحفظه من كل أذى
ثم أطفأت ننسون أم جلجامش البخور والتفتت تحرض انكيدو
أي أنكيدو القوي ... سوف استقبلك كإبني بالتبني، أنك ولدي الآخر
اخدم جلجامش كما يخدم اللقيط المعبد والكهنة الذي ربوه
أني أتمنك على ابني فأرجعه إلى سالما بشور ص 208
كلمات أم جلجامش تحمل العاطفة الجياشة، والحرص على ولدها من الأذى، ويستدل منها على حالة الاضطراب التي تمر بها، فهي تحمل الإله الشمس مسؤلية ما أقدم عليه
ابنها، فهو من منحه قلب لا يعرف السكينة والراحة، وكان عتابها للإله شمس لتريح نفسها من الثقل الذي يتعب نفسها أولا، ثم لتحصل على دعم إضافي من شمس،
فبعد أن افرغت ما في نفسها من هم من خلال الكلمات التي وجهتها لشمس، شعرت بالراحة النفسية، ثم أخذت تطلب منه أن يحمي ولدها في سفره وفي عودته، وان ينصره على عدو الإله شمس خمبابا، وكان استخدام كلمة "الذي تمقته" لتحمل شمس على الاندفاع أكثر لمساندة جلجامش في مغامرته، فكأن جلجامش أقدم على تلك المغامرة نيابة عن الإله شمس، وجاء السطران الأخيران من حديث ننسون لشمس فيهما الهدوء ولا يحويان كلمات الانفعال والاضطراب كما هو في بداية حديثها، وهذا التسلسل المنطقي في ترتيب الكلمات ينم عن القدرة وحالة الإبداع الفني في الكتابة الملحمة والتي يتمتع بها من كتب النص الملحمي.
بعدها تنتقل ننسون إلى توجيه كلامها لانكيدو مرافق ولدها وصديقه، فتحدثه حديث الأم لابنها وتجعل منه ابنا لها، ثم تأخذ في توصيته على جلجامش ليعود إليها سالما، ولان انكيدو وفي لأصدقائه كانت كلمات ننسون تجعل منه المسؤول عن سلامة جلجامش.
وإذا تمعنا في الكلمات التي خاطبت بها ننسون نجدها قد وضعت بدقة متناهية، فتم مخاطبة كل شخصية بما يناسب وضعها، وهذه الحوارات تحمل تفاصيل شخصية كل من تكلم وكلم في آن واحد، فتم مخاطبة كل شخصية حسب الموقف الذي يراد مها القيام به.
بهذا الرضا الأمومي ومباركة الأرباب وصحبة الأصدقاء ينطلق جلجامش إلى غابة الأرز مودعا أهل أوراك وداع الأحبة، موجهين له النصائح التي تعبر عن الحب والحرص على شخصه، وينفذ الحاكم الحامي تلك النصائح والوصايا ويجعل انكيدو يسير في المقدمة أمامه، يسير الصديقان إلى غابة الأرز، يقطعان الجبال السبعة وفي ثلاثة أيام يقطعان مسيرة خمسة وأربعين يوما، يتقدمان في المسير نحو غايتهما، إلى أن يصلا مشارف الغابة، وهناك يكون احد الحراس الذي يحرسون الغابة، يصاب جلجامش بالنوم فلا يقوى على الحركة فيحدثه انكيدو يحرك فيه الحمية والشجاعة
" تذكر ما قلته في حضرة شيوخ أوراك
انهض تقو اهجم عليه، اقتله
أنت ابن أرك
سمع جلجامش هذا الكلام
أسرع لمنازلته تقلد أسلحته" فريحة ص30
الملحمة في هذا الجزء تستخدم كلمات دافعة للقتال على مسامع أبطالها حين يصابون بالتهاون أو لتراخي، محرضة إياهم على الإقدام، فها هو انكيدو يخاطب جلجامش بعين الأسلوب الذي خوطب به في أوراك حاثا إياه على الشجاعة والاقدام، وداعيا إياه الابتعاد عن الخمول والتهاون، فكان تذكيره بالكلمات التي قيلت له في أوراك، وانه ابن تلك المدينة الشامخة العصية المنيعة، وبعد سماعه هذا الكلام يتجاوز جلجامش حالة التراخي السلبي ويعود إلى ذاته القوية.
يقف جلجامش وانكيدو أمام مدخل الغابة ويحاول انكيدو الدخول فتشل يده ويدب الخوف والرهبة في نفسه، ويطلب من جلجامش أن يوقف الرحلة إلى هذا الحد، إلا أن جلجامش العنيد يخاطبه ليزيل عنه ثوب الخوف والهلع
"قال جلجامش لا تكن يا صديقي كرجل ضعيف
أنت تعلم الحرب، يداك حذقتا فنونها
لا ترهب الموت... إبق معي
سيزول شلل يدك...
سنتوغل في الغابة ... إنس الموت
تقدم من يكون في المقدمة يحفظ حياة
من يمشي وراءه... إذا سقطنا
نخلد اسمينا" قريحة ص31
كلمات جلجامش اخف وطأة من سابقتها، وهذا يعود إلى خطورة الموقف الذي أصبحا فيه، فجاء استخدامه لكلمات تعيد الثقة لانكيدو، وتحفيزه على الاستمرار في المسير، ثم يأخذ في طمأنة انكيدو بأنه سيكون في أمان إذا استطاع أن يتجاوز حالة الخوف والهلع الذي دب فيه، فالخوف وهو الشر الذي سيلقي بهما إلى التهلكة، ولكذلك لا بد من إزالته.
يعود جلجامش إلى التأكيد إلى قراره دخول الغابة ولا مجال للعودة عن القرار، ويخاطب انكيدو مشجعا إياه بفلسفة جلجامش عن للحياة والموت والفعل وعدم الفعل، ويخبره بأنه سيكون أمامه في المسير، وهنا يكون جلجامش درعا لانكيدو، ويقلب المواقع التي ابتدأ بها الطريق، فبدلا من أن يكون انكيدو في المقدمة لحماية جلجامش ها هو جلجامش في المقدمة ليحمي انكيدو، ويعطيه الثقة ومن ثم يحثه على تجاوز حالته السلبية، وهذا يستدل منه على عدم التقيد بالأنظمة بطريقة جامدة، ويجب التعامل مع كل ظرف حسب ما يقتضي وما يمليه الواقع، وأخيراً يذكر جلجامش بأنهما في حالة الفشل ـ أن حصل ـ سيكونان معا، وهنا يستعيد انكيدو عافيته وقوته، ويدخلا الباب فإذا بهما أمام لوحة طبيعية مبهرة، ويحلم جلجامش حلما يقصه على صديقه انكيدو فيكون هذا بشارة النجاح والنصر، فيقول انكيدو سيقتل خمبابا حارس الأرز على أيدهما، هذا تفسير الحلم، ويحلم جلجامش حلما آخر يقصه على انكيدو، وتكون فيه أيضا البشرى مرة ثانية، وهكذا يتقدم الصديقان ويقطعان أشجار الأرز، فيسمع خمبابا دويها وهي تسقط أرضا، ويقترب منهما
"وضع جلجامش درعه على صدره ... والتي تزن ثلاثين مثقالا وكأنها لباس خفيف ونادى رفيقه ضع يدك في يدي فما عسى أن يحدث لنا من سوء؟
كل المخلوقات الموجودة من اللحم ستحبس في النهاية في قارب الغرب ... إذا كان الخوف قد حل في قلبك فالقه عنك، خذ بلطتك في يدك واهجم من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش في سلام، ثم صاح جلجامش للتنين أن يخرج للمعركة" بشور ص 213 و214 بعد أن استعد القائد جلجامش للمعركة تناول عدة الحرب وارتدى اللباس ، بدا في إعطاء محاضرة تشجعه قبل الالتحام مع الخصم، مستخدما فيه الحث على القتال و التخلي عن الضعف و الخوف، ويطلب من أنكيدو أن يتناول سلاحه ويكون مستعدا للقتال، ثم يطلق حكمة المحارب المتمرس في المعارك لكل المقاتلين في العالم وفي كل مكان وزمان "من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش بسلام" ونستطيع من خلال هذه المقولة أن نؤكد بان الملحمة قد تجاوزت عصرها بكثير، فمثل هذا الكلام لا يمكن أن يخرج إلا من إنسان وصل إلى قمة التطور الحضاري والمعرفي والثقافي، ومثل هذه ألحكمه لو عمل بها من قبل الدول التي شاركت في حرب 48 و 67 لما وصلنا إلى هذه الحالة من الهزائم، ومره أخرى تؤكد لنا الملحمة على العبقرية التي يمتلكها جلجامش الناطق بهذه الحكمة، وبعد هذا الاستعداد لجلجامش و انكيدو يطلب جلجامش من خمبابا الظهور للقتال.
" خرج هواوا من بيته الارزي القوي
وأومأ برأسه وهزه منذرا جلجامش
وثبت نظرة عليه، نظرة الموت
تنفس و أمام زئيره، أحنت الأرزات رؤوسها
هجم مزمجرا كالعاصفة
زاعقا وكان الرياح قد أفلتت
استل الصديقان سيوفهما
استدار هواوا فلمح جلجامش وجه الشيطان
وجه مشوه أسنان عارية صفراء
وعينان حمراوان كالدم " بشور ص214
بعد أن أعطتنا الملحمة صورة جلجامش و انكيدو وكيفية استعداهما للمعركة انتقلت لتحدثنا عن خمبابا وكيف يستعد للمعركة، إن الكلمات التي استخدمت في وصف خمبابا تؤكد لنا بان هذا المخلوق هو تنين وليس إنسان وجاء استخدام جملة "تنفس و أمام زئيره أحنت الارزات رؤوسها كدليل على أن" النيران تنبعث من فم التنين وتحرق الأشجار وهذا ما جعلها تحنى رؤوسها.
في كل أحداث المعركة مع خمبابا لم يتم التطرق إلى استخدام خمبابا للأسلحة أو لأدوات الحرب المعدنية مثل درع أو السيف أو البلطة وما إلى ذلك، و إنما تم ذكر استخدام قدرته الجسدية فقط ومن هنا جاءت حركات الرأس و النظر إلى الخصم بطريقة توحي بالافتراس، ثم اخرج النيران وإصدار أصوات مرعبه وبعد أن استدار هذا التنين شاهد جلجامش وجهه المرعب الذي يؤكد على انه تنين يمتلك عينان حمراوان و أسنان صفراء حادة ووجه مخيف، أن هذا الوصف لتنين أعطانا صورة أدق من تلك التي نشاهدها على التلفاز للتنين، ومن هنا استطيع القول بان الخيال الموجود في الملحمة هو عميق جدا وواسع استطاع أن يصور لنا صورة خيالية لكائن خرافي بأدق التفاصيل، وهذا جعل ذلك الكائن يعيش في خيال الإنسان إلى هذا العصر.
وبعد هذا الحديث عن خمبابا نعود إلى المعركة وتفاصيلها مع هذا الوحش الرهيب، يصاب جلجامش وصديقه بالرعب فيطلب من شمش مساعدتهما للخلاص من هذا الوحش :-
" وتكلم جلجامش مخاطبا شمش
" تبعت شمش سلكت طريقا قدره لي شمش "
"أشفق شمش استجاب لصلاة جلجامش "
" فهاجت الرياح الإعصار هبت على خمبابا "
" الريح الشمالية العاتية والجنوبية العاصفة "
" هبت الرياح و الزوابع الرياح الحارة "
" فأعمت عيني خمبابا " فريحة ص34و35
إن الوحش خمبابا لا يمكن الانتصار عليه بقوة بشرية فقط، فهو يمتلك قوة الآلهة من الإله انليل، فكان لا بد من الاستعانة بقوة الآلهة للقضاء عليه، إلا أن القوة البشرية هي الأساس في المعركة وهي رأس الحربة، وهي من وقف في وجه التنين وناداه للمنازلة وجاءت القوة الإلهة تابعه لاحقه للقوة الإنسانية، جلجامش استعد بكامل قوته وعدته للحرب مع خمبابا فعمل المطلوب منه للانتصار على خمبابا، ثم جاء دور شمش ليساعد جلجامش على هذا الانتصار، إذن جلجامش استعد للانتصار في حربه مع خمبابا وتوكل على شمس في هذه الحرب .
وهكذا يرسل الإله شمش القوة الآلهة التي يملكها، ويرسل الريح الشمالية العاتية، ثم يتبعها بالريح الجنوبية العاصفة، فيصاب خمبابا بالعمى ولا يستطيع الحركة.
" استسلم خمبابا، توسل
دعني يا جلجامش أذهب، أنت سيدي الآن
أنا خادم لك
الأشجار التي تعهدتها في جبالي هي لك
ابني منها بيوتا من خشب الأرز" فريحة ص35
لقد كان خمبابا عظيما ومخيفا وذو قوة جبارة، لكنه ضعيف الإرادة يتنازل عن كل ما يملك ـ الأشجار، كرامته، حياته، ـ فقط لكي يبقى حيا، فيضع كافة ما في جعبته أمام جلجامش، يطلب منه أخذها مقابل حياته، فصورة الوحش المرعب ذو القوة الآلهية الذي وصل صيته إلى آخر الدنيا ها هو كائن ضعيف يتوسل ويطلب من الإنسان جلجامش أن يرحمه، فأيهما أعظم الإنسان أم ذاك الوحش؟، وهنا تكون ذروة المجد، الوحش صاحب القوة الجبارة يسجد للإنسان منكسرا واهن القوى يتوسل إليه ليمنحه العفو والرحمة، وهنا تكون الملحمة قد قلبت مفهوم العظمة والقدسية عند المجتمع ألرافدي القديم من خلال هذا المشهد، فقد نزع جلجامش وانكيدو هيبة الإله انليل بعد انتصارهما على خمبابا، ومرغوا هيبته في التراب.
وكأن الملحمة تريد أن تخبرنا بان خمبابا هو ادني بكثير من تلك المكانة التي وضع فيها، وهو ادني من امتلاك تلك المكانة والهيبة، فوضع خمبابا بعد المعركة اقل من الإنسان بدرجات، والإنسان المنتصر يتجاوزه من خلال مواقفه وإرادته التي استطاع أن يخرجها وتكون نتيجة المنازلة لصالح الإنسان.
ومن المفارقات المهمة في الملحمة الصورة التي رسمت لخمابا، فقد خيل لنا بأنه سيدمر الغابة على من فيها، وان نتيجة النزال ستكون مدمرة، وان هذا الكائن المرعب سيبقى يقاتل حتى آخر رمق، ولن يتنازل عن كرامته وهيبته، إلا أن كل ذلك تحطم أمام إرادة الإنسان، فلم نكن نتوقع أبدا مثل هذه الوضعية للوحش " أنا خادم لك".
وخلاصة الفكرة التي تريدنا الملحمة أن نستنتجها، أن الوحش ورعبه لم يكن ليكون إلا عند الضعفاء الساكنين الخانعين، أما عندما كان هناك من يفكر ويفعل ليصل إلى الوحش فلم يعد هناك إلا كائناً ضعيفاً جدا، يتوسل متذللا للإنسان، فالإنسان هو في حقيقة الأمر أعظم واكبر من كافة المخلوقات عندما يقرر أن يفعل ولا يبقى ساكنا.
هذا الوضع ـ البائس ـ لخمبابا يستحق عليه الهلاك، فلم يكن بذات المكانة التي وضعت له، ولا بالصورة التي رسمت له، وكان قزما أمام العملاق الإنسان، وهذا ما دفع انكيدو ليطلب من جلجامش الإجهاز عليه وقتله.
"لا تصغ إلى كلامه، لا تنصت إلى قوله
خمبابا يجب أن يموت" فريحة ص35
وهنا نتساءل لماذا طلب انكيدو من جلجامش أن يجهز على خمبابا؟ علما بأنه حتى هذه المرحلة لم يقدم لا جلجامش ولا انكيدو على قتل أي كائن حي، إن كان إنسان أم حيوان أم مخلوق أسطوري، فلماذا تتم الآن عملية القتل؟ وما الداعي لها؟، نستنتج من مسار الملحمة أن فعل القتل لم يكن إلا بالكائنات التي تتعلق بالإلهة أو لها صلات بالقوة الإلالهة فقط، وما دون ذلك لا يتم قتله، وكأن الملحمة تشكل حالة صراع دامي مع الآلهة فقط، وما دون ذلك يكون الصراع محدودا يتوقف عند حد معين، من هنا نجد عملية القتل الثانية كانت لثور السماء الذي أرسل ليقتص من جلجامش وانكيدو، فالصراع الدامي منحصر في النص الملحمي بين الإنسان والآلهة فقط، وإذا عدنا إلى حديثنا عن الآلهة والمقدسين، نجده المسار الرئيس لفكرة الملحمة، التي تطرح فكرة الصراع بين الإنسان ـ والذي هو أحق بالمكانة الرفيعة من ـ والآلهة ـ والتي هي في حقيقة الأمر اقل من أن تكون في مكانها العالي.


يتبع

الثور السماوي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى