صديقي العزيز
حين تناولت القلم لأكتب إليك، تذكرت أن الرسالة تستقبل عامها العشرين، فرأيت أن يكون حديث اليوم عن تلك المجلة الحبيبة التي عقدت أواصر الصداقة بيننا، إذ لولا الرسالة لما كنا من سبعة عشر عاما مضت إلى اليوم صديقين حميمين كأحسن ما يكون الأصدقاء.
أذكر أني كنت أجلس معك في حجرة واحدة بمعهد دمياط الابتدائي، وقد لمحت في يدك مجلة تتصفحها في سرو وبهجة، فاستأذنتك في قراءتها، فخفت أن أكون عنها رأيا خاطئا لأول مرة، فدعوتني إلى الجلوس جوارك، وقلت في اهتمام: هذه أحسن مجلة أطالعها في مصر. ويجب على جميع الطلاب أن يتابعوا قراءتها باعتناء، فهي الصحيفة التي تهذب الأسلوب، وتثقف العقل. ثم مددت يدك إلى القمطر، وأخرجت كراسة الإنشاء لتريني درجاتك العالية في التعبير، ناسبا تفوقك الحميد إلى الرسالة فهي وحدها صاحبة الفضل في هذه الدرجات!!
وأذكر أن درجاتك الممتازة، قد جذبت اهتمامي إليك وإلى الرسالة فخرجت من الدراسة متجها إلى بائع الجرائد، وأخذت نسخة من الرسالة، وقضيت بقية اليوم، وجزءا غير قصير من الليل أتصفحها ورقة ورقة؛ ففهمت أكثر ما تحتويه من مقالات وقصص، وقصائد، وشعرت بإكبار وإجلال نحو ما لم أفهمه من البحوث العلمية الدقيقة، متمللا بقرب اليوم الحبيب الذي ستتسع فيه ملكة الفهم لدي، فأستوعب جميع ما في الرسالة الحبيبة، من الغلاف إلى الغلاف!!
ورجعت إليك في اليوم الثاني فحدثتك عما فهمته وما لم أفهمه، فوجدتك تشاركني الرأي وتقف من موضوعات الرسالة موقفي منها سواء بسواء. ومن هذا اليوم بدأنا نجلس مما على قمطر واحد، ونتنزه معا إذا أردنا أن نزهر ثم لا نترك الحديث يوما واحدا عن الرسالة فنحن إذا أتى العدد الأسبوعي نطالعه بجد ويقظة، ثم نتقابل ليذكر كل منا ما علق بذهنه من الأفكار الجديدة، والبواب الطريفة؛ وبدأنا نكون لنا آراء عن الأدباء من كتاب وشعراء. وكنا نفترق في بعض الأحيان فافضل كاتبا ترى غيره أحق منه، وأميل إلى شاعر تميل عنه، ولكل منا براهينه المسهبة، ودفاعه الطويل.
وجاءت العطلة الصيفية فم نحزن لشيء حزننا على انقطاع حديثنا الدبي عن الرسالة. ثم اتفقنا على أن نتراسل أسبوعيا، فأكتب إليك وتكتب إلي، وكان الحديث لا يتجاوز الرسالة في أكثر سطوره. وما زلت أذكر حملاتنا الصاخبة في رسائلنا السالفة - على الأستاذ الكبير السيد قطب إذ كان يهاجم الرافعي، وقد خيل إلينا في طور اليفاعة أن قطبا متجن أكثر التجني، وأن الرافعي أكبر من أن يتوجه إلى النقد بشيء!! والغريب إننا الآن نرفع الأستاذ سيف قطب إلى قمة شاهقة، ونراه رائجي في الإصلاح، وصاحب مذهب في النقد والأدب، وداعية أمة إلى الإسلام!! فانظر بربك إلى المدى الشاسع بين النظرتين، نظرة اليفاعة المتسرعة، ونظرة الشباب البسيط. وكان مما يبهج خاطرينا معا أن نرى المدرسين يرمقوننا دون الزملاء بعين الإعجاب والاهتمام، فإذا تقدم أحدنا برأي في موضوع، أو نقاش فكرة لكاتب، وجد العيون مفتحة، والعقول منتبهة، وسمع الرد مشفوعا بالإطراء والتقريظ. وكنا نرجع ذلك إلى الرسالة وحدها، فهي التي دفعت بتفكيرنا إلى الأمام، وتداولته بالصقل والتهذيب!!
ولا أزال أذكر أنك قلت لي ذات عشية: يجب أن نشتري الكتب الأدبية النفيسة. فقلت لك وكيف تشتري الكتاب قبل أن نتأكد من صلاحيته؟ فأسرعت تقول: لنا ميزان لا يخطئ، فإذا كان المؤلف من كتاب الرسالة فعلينا أن نسارع إلى اقتناء كتابه. وإذا لم يكون من كتابها فقد نشرت عنه الرسالة في صحيفة الكتب تعريفا أو نقدا، فعلينا أن نحدد موقفنا منه على ضوء هذا التعريف وإذا لم يكن هذا وذاك فلم نبعثر نقودنا في الهواء. وكان رأيك هذا مقبولا لدي في ذلك الحين، فلم أشذ عنه في كثير أو قليل.
أين الأيام السالفة يا صديقي العزيز، وأين أحاديثها الأدبية المشتهاة؟ ليتنا قمنا بتسجيلها برغم ما تتسم به من عجلة واندفاع، ففيها ما يعجب ويروق، وفيها ما يضحك ويدهش!! فقد كان لنا عن كل كاتب وشاعر حديث عريض نقطع به الوقت الطويل. ولا أذكر أن كاتبا أغتصب أكثر أحاديثنا في فترة الدراسة الثانوية كما اغتصبها الدكتور زكي مبارك، فقد وقف في ميدان الرسالة كما يقف الملاكم في ميدان الرياضة، يصارع هذا في عنف، ويناقش ذاك في حدة، ويثير في الأفق الدبي عواصف شديدة عاتية. وكنا نعجب بسلاسته واندفاعه، وكانت روحه الفتية تحلق بنا في أوج شاهق. وكم يتركنا الأسف الآن إذ نشهد زكيا قد نزل عن سمائه بعد أن ترك الرسالة، فنراه يقف الآن في آخر الصفوف، وكنا نرقب له الغد المشرق البهيج!
لقد قلت لك ذات مرة أن الدكتور ذكي مبارك يكتب الحديث ذا شجون في بعض الصحف فاترا مضطربا، وكان حديثه في الرسالة بهجة في العين وأنس الفؤاد؛ فكيف يتفق ذلك مع اتحاد الكاتب والموضوع؟ فقلت في سرعة بادهة: إذا أتحد الكاتب والموضوع فلم تتحد الصحيفتان! وكانت إجابة موفقة أكدت ما نجله للرسالة من تقدير وإعجاب.
ونحن الآن نشعر يحب طاغ للدولة العربية، ونشيد بعظمائها من الزعماء والأدباء، ونحس ان مصر والعراق ولبنان وسوريا وتونس والجزائر واليمن والحجاز وسائر الأمم العربية وحدة لا تنقصم، فمن أكد في نفوسنا هذا الحب الأكيد؟ أنها الرسالة يا صديقي العزيز، فلطالما طالعتنا بقضايا الدول العربية السياسية، وعالجت أمامنا مشاكلها الاجتماعية والخلقية، وأفسحت صدرها للنخبة المختارة من أدبائها ونقادها، فكانت بحق ديوان العرب المشترك، وسجلهم الحافل بأنبائهم وأخبارهم، المقرب لأفكارهم واتجاههم، بل لم تكتف الرسالة بقضايا الدول العربية وحدها! فتجاوزتها إلى الممالك الإسلامية قاطية. وكم قرأنا في صفحاتها أبحاثا هامة عن إيران وتركيا والباكستان وأندونسيا وبلاد القوقاز؛ وطالعنا لكتاب من أبناء هذه البلاد كلمات خالدة في الوحدة الإسلامية، والإخاء المحمدي، مما نرجو أن يكون حقيقة واقعة في العاجل القريب. ولعلك تذكر أننا قرأنا في الرسالة ذات أسبوع بحثا هاما عن الفقه الروماني وعلاقته بالفقه الإسلامي لكاتب مصري، ثم أعجبنا أن نجد الردود تتدفق على الرسالة من سنغافورة ودمشق وحضرموت والعراق دائرة حول هذا الموضوع، فكأن الرسالة قد أهابت بكل باحث في شتى الأمم الإسلامية، أن يلقي دلوه في الدلاء، فتقدم هؤلاء الأفاضل مسرعين. فإذا ما رأينا اليوم أبناء الأمم الإسلامية متكاتفين متساندين، فيجب أن نذكر الرسالة الحبيبة وكفاحها المجيد!
ثم دارت الأيام ومضت بنا الدراسة الثانوية إلى الدراسة العالية بكلية اللغة العربية، وسمعنا أساتذتنا يلقون علينا الدروس العلمية في تاريخ الأدب والنقد وفقه اللغة والنحو والعروض، فكنا نجد من يسمو بعقولنا - في محاضراته وأبحاثه - إلى أفق رفيع، ومن يعكف على مراجعه القديمة ليقدم خلاصتها دون أن يلم بما تمخضت عنه الأبحاث الأدبية في العصر الحديث. وكنا لا نفتأ نواجه هذا النوع من الأساتذة بما اكتسبناه من الرسالة وغيرها من نقد وتحليل، غير عابثين بعد ذلك بما يكون من تبرم وضيق. ولعلك تذكر بالخير شيخ أساتذة الأدب بالكلية، وسيد علمائها الأستاذ الكبير أحمد شفيع السيد فقد كان يذكر لنا الرسالة دائما بين مصادره العديدة في تاريخ الأدب العربي، وقد ينقل بعض أبحاثها الأدبية عن الشعراء الأقدمين معقبا بما يعن له من نقد أو توجيه. وكنا نسمع محاضراته في شوق وإعجاب يزيدان عن الوصف. وحين أدرك اهتمامنا بالرسالة، غمرنا بوده، وذلل لنا كثيرا من العقاب فصرنا لا ندري أنتقدم إليه بالشكر، أم إلى مجلة الرسالة التي تربط بين قلوب المتأدبين من أساتذة وطلاب برباط وثيق.
ولن أفادتنا الرسالة فائدة تامة في الدراسة العالية بالكلية، فقد كان هذا أمرا نتوقعه لما بين أبحاث المجلة ودروس الكلية من ارتباط، بل من يدري؟ ربما تكون الرسالة هي التي وجهتنا إلى كلية اللغة دون أن نشعر، لما غرسته في نفوسنا من حب للأدب وهيام بتاريخه ورسائله. ولكن الذي لم نكن نتوقعه بحال، أن نجد الرسالة الغراء تأخذ بأيدينا في معهد التربية العالي للمعلمين وتعيننا على استكناه مسائل التربية الحديثة، وتفهم علم النفس بما نشرته من أبحاث في هذين العلمين وأذكر جيدا أني جعلت الرسالة بين مصادري العلمية حين كتبت مقالاتي في امتحان الدبلوم فقد اعتمدت على ما كتبه الدكتور عبد العزيز عبد المجيد والدكتور فضل أبو بكر في الذكاء والطفولة بأعداد الرسالة، لأن الزيات الحصيف كان - ولا يزال - يولي الأبحاث الغربية الحديثة، ومن بينها علم النفس والتربية، عناية فائقة لينأى بالفكر العربي عن جموده وقيوده، ويطلق أمامه الباحات الرحيبة للسير، والأجواء الفسيحة للتحليق. ونحن الآن وقد جاوزنا التعلم إلى التعليم، وانتقلنا إلى تدريس اللغة العربية بالمدارس الثانوية نجد تلاميذنا في حاجة ماسة إلى مجلة أدبية تقيم الألسنة المعوجة، وتشد التفكير الواهن، وترفع الخيال الهابط، ولن تكون هذه المجلة غير الرسالة، فقد نجحت تجربتنا معها - ومع الآلاف من قرائها - أتم نجاح، وكانت نعم الناصر المعين
ولقد أطلت الحديث عن الرسالة في الأدب والثقافة، وتركت أثارها في الأخلاق والسلوك، وما أظنك تجهله، فقد انتشرت المجلات الخليعة التي تتملق الغرائز، ووقفت الرسالة أمام التيار الجارف تدعو إلى المثل العليا والأخلاق القومية، وتشن الحرب على التخنث والمجون، وقد حاربت الأدب المكشوف محاربة منتصر، فدحضت حجة هؤلاء الذين لا يرون في الأدب والشعر غير الحديث عن الفضائح والمخزيات، متشبعين بما تذيعه الصحف الملوثة عن الفضائح بودلير وفلوبير وجيد ولورنس! وكأن هؤلاء لم يرزقوا البيان الناصع إلا لشذوذهم الوضيع وإسفافهم الشائن، في رأي جماعة من المحررين، وقد ساهم مع الزيات في إيجاد أدب خلقي رفيع صفوة من أصدقائه وحواربيه، وعلت في سماء الرسالة صيحات الرافعي وعزام والزيات وفريد وجدي والطنطاوي وخلاف وقطب وإضرابهم من حماة الفضيلة والأخلاق. ولا زلت أذكر أن الأستاذ الزيات قد كتب مقالا عن تاجر يحاول أن يتحلل من قيود الخلق والكرامة لينجح في تجارته، مدعيا أن الغش والنفاق هما طريق زملائه إلى الثراء. وما كاد الزيات يفضحه أمام القراء حتى انبرى عبد الوهاب عزام وأمين الخولي وعلي الطنطاوي والزيات مرة أخرى ينتصرون للفضيلة في مقالات حارة تهدي إلى طريق النجاح، وأنا - بكل صراحة - حين أعلل اندفاعي إلى جماعة الإخوان المسلمين أجد الرسالة ذات أثر غير مباشر في ذلك، فقد غرست في نفسي حب العروبة ونصرة الإسلام، وبغض الاحتلال، كما رسمت بأقلام كتابها صورا واضحة للمسلم الأبي الغيور، وقد وجدت أهداف الإخوان لا تخرج عن ذلك. بل أذكر أني حضرت ذات ليلة مجلس الأستاذ الزيات في ندوة الرسالة فسمعته يتحدث عن محاربة الاستعمار للشرق والإسلام بكل سلاح مدمر غير مشروع، ثم انتقلت عقب ذلك إلى مجلس المغفور له الأستاذ حسن البنا، فوجدت الحديث متصلا يندد بفضائح الاستعمار ومحاربة الإسلام!! وكأني لم أنتقل من مكان إلى مكان، فرحم الله المرشد الشهيد، وكتب للزيات عمرا فسيحا يسعد به الشرق والإسلام.
أرى أن الحديث عن الرسالة يذهب بي كل مذهب! حتى لأعجز أن ألم بأطرافه، فهو حديث الصبا والشباب والآمال، وحديث الخلق والعروبة والإسلام! ولو كنت معي الآن لحدثتك بما يزدحم في صدري من الخواطر عن الرسالة، ولكن القدر الذي جمعنا أثناء الدراسة في معهد واحد، وأجلسنا على مقعد واحد، قد باعد ما بيننا أثناء التدريس، فأصبحت أدعوك من مكان بعيد، راجياً لك السعادة والصفاء.
فهيهات العقيق! وكيف يدنو؟ ... وهيهات الغداة فتى العقيق.
(أبو تبج)
محمد رجب البيومي
حين تناولت القلم لأكتب إليك، تذكرت أن الرسالة تستقبل عامها العشرين، فرأيت أن يكون حديث اليوم عن تلك المجلة الحبيبة التي عقدت أواصر الصداقة بيننا، إذ لولا الرسالة لما كنا من سبعة عشر عاما مضت إلى اليوم صديقين حميمين كأحسن ما يكون الأصدقاء.
أذكر أني كنت أجلس معك في حجرة واحدة بمعهد دمياط الابتدائي، وقد لمحت في يدك مجلة تتصفحها في سرو وبهجة، فاستأذنتك في قراءتها، فخفت أن أكون عنها رأيا خاطئا لأول مرة، فدعوتني إلى الجلوس جوارك، وقلت في اهتمام: هذه أحسن مجلة أطالعها في مصر. ويجب على جميع الطلاب أن يتابعوا قراءتها باعتناء، فهي الصحيفة التي تهذب الأسلوب، وتثقف العقل. ثم مددت يدك إلى القمطر، وأخرجت كراسة الإنشاء لتريني درجاتك العالية في التعبير، ناسبا تفوقك الحميد إلى الرسالة فهي وحدها صاحبة الفضل في هذه الدرجات!!
وأذكر أن درجاتك الممتازة، قد جذبت اهتمامي إليك وإلى الرسالة فخرجت من الدراسة متجها إلى بائع الجرائد، وأخذت نسخة من الرسالة، وقضيت بقية اليوم، وجزءا غير قصير من الليل أتصفحها ورقة ورقة؛ ففهمت أكثر ما تحتويه من مقالات وقصص، وقصائد، وشعرت بإكبار وإجلال نحو ما لم أفهمه من البحوث العلمية الدقيقة، متمللا بقرب اليوم الحبيب الذي ستتسع فيه ملكة الفهم لدي، فأستوعب جميع ما في الرسالة الحبيبة، من الغلاف إلى الغلاف!!
ورجعت إليك في اليوم الثاني فحدثتك عما فهمته وما لم أفهمه، فوجدتك تشاركني الرأي وتقف من موضوعات الرسالة موقفي منها سواء بسواء. ومن هذا اليوم بدأنا نجلس مما على قمطر واحد، ونتنزه معا إذا أردنا أن نزهر ثم لا نترك الحديث يوما واحدا عن الرسالة فنحن إذا أتى العدد الأسبوعي نطالعه بجد ويقظة، ثم نتقابل ليذكر كل منا ما علق بذهنه من الأفكار الجديدة، والبواب الطريفة؛ وبدأنا نكون لنا آراء عن الأدباء من كتاب وشعراء. وكنا نفترق في بعض الأحيان فافضل كاتبا ترى غيره أحق منه، وأميل إلى شاعر تميل عنه، ولكل منا براهينه المسهبة، ودفاعه الطويل.
وجاءت العطلة الصيفية فم نحزن لشيء حزننا على انقطاع حديثنا الدبي عن الرسالة. ثم اتفقنا على أن نتراسل أسبوعيا، فأكتب إليك وتكتب إلي، وكان الحديث لا يتجاوز الرسالة في أكثر سطوره. وما زلت أذكر حملاتنا الصاخبة في رسائلنا السالفة - على الأستاذ الكبير السيد قطب إذ كان يهاجم الرافعي، وقد خيل إلينا في طور اليفاعة أن قطبا متجن أكثر التجني، وأن الرافعي أكبر من أن يتوجه إلى النقد بشيء!! والغريب إننا الآن نرفع الأستاذ سيف قطب إلى قمة شاهقة، ونراه رائجي في الإصلاح، وصاحب مذهب في النقد والأدب، وداعية أمة إلى الإسلام!! فانظر بربك إلى المدى الشاسع بين النظرتين، نظرة اليفاعة المتسرعة، ونظرة الشباب البسيط. وكان مما يبهج خاطرينا معا أن نرى المدرسين يرمقوننا دون الزملاء بعين الإعجاب والاهتمام، فإذا تقدم أحدنا برأي في موضوع، أو نقاش فكرة لكاتب، وجد العيون مفتحة، والعقول منتبهة، وسمع الرد مشفوعا بالإطراء والتقريظ. وكنا نرجع ذلك إلى الرسالة وحدها، فهي التي دفعت بتفكيرنا إلى الأمام، وتداولته بالصقل والتهذيب!!
ولا أزال أذكر أنك قلت لي ذات عشية: يجب أن نشتري الكتب الأدبية النفيسة. فقلت لك وكيف تشتري الكتاب قبل أن نتأكد من صلاحيته؟ فأسرعت تقول: لنا ميزان لا يخطئ، فإذا كان المؤلف من كتاب الرسالة فعلينا أن نسارع إلى اقتناء كتابه. وإذا لم يكون من كتابها فقد نشرت عنه الرسالة في صحيفة الكتب تعريفا أو نقدا، فعلينا أن نحدد موقفنا منه على ضوء هذا التعريف وإذا لم يكن هذا وذاك فلم نبعثر نقودنا في الهواء. وكان رأيك هذا مقبولا لدي في ذلك الحين، فلم أشذ عنه في كثير أو قليل.
أين الأيام السالفة يا صديقي العزيز، وأين أحاديثها الأدبية المشتهاة؟ ليتنا قمنا بتسجيلها برغم ما تتسم به من عجلة واندفاع، ففيها ما يعجب ويروق، وفيها ما يضحك ويدهش!! فقد كان لنا عن كل كاتب وشاعر حديث عريض نقطع به الوقت الطويل. ولا أذكر أن كاتبا أغتصب أكثر أحاديثنا في فترة الدراسة الثانوية كما اغتصبها الدكتور زكي مبارك، فقد وقف في ميدان الرسالة كما يقف الملاكم في ميدان الرياضة، يصارع هذا في عنف، ويناقش ذاك في حدة، ويثير في الأفق الدبي عواصف شديدة عاتية. وكنا نعجب بسلاسته واندفاعه، وكانت روحه الفتية تحلق بنا في أوج شاهق. وكم يتركنا الأسف الآن إذ نشهد زكيا قد نزل عن سمائه بعد أن ترك الرسالة، فنراه يقف الآن في آخر الصفوف، وكنا نرقب له الغد المشرق البهيج!
لقد قلت لك ذات مرة أن الدكتور ذكي مبارك يكتب الحديث ذا شجون في بعض الصحف فاترا مضطربا، وكان حديثه في الرسالة بهجة في العين وأنس الفؤاد؛ فكيف يتفق ذلك مع اتحاد الكاتب والموضوع؟ فقلت في سرعة بادهة: إذا أتحد الكاتب والموضوع فلم تتحد الصحيفتان! وكانت إجابة موفقة أكدت ما نجله للرسالة من تقدير وإعجاب.
ونحن الآن نشعر يحب طاغ للدولة العربية، ونشيد بعظمائها من الزعماء والأدباء، ونحس ان مصر والعراق ولبنان وسوريا وتونس والجزائر واليمن والحجاز وسائر الأمم العربية وحدة لا تنقصم، فمن أكد في نفوسنا هذا الحب الأكيد؟ أنها الرسالة يا صديقي العزيز، فلطالما طالعتنا بقضايا الدول العربية السياسية، وعالجت أمامنا مشاكلها الاجتماعية والخلقية، وأفسحت صدرها للنخبة المختارة من أدبائها ونقادها، فكانت بحق ديوان العرب المشترك، وسجلهم الحافل بأنبائهم وأخبارهم، المقرب لأفكارهم واتجاههم، بل لم تكتف الرسالة بقضايا الدول العربية وحدها! فتجاوزتها إلى الممالك الإسلامية قاطية. وكم قرأنا في صفحاتها أبحاثا هامة عن إيران وتركيا والباكستان وأندونسيا وبلاد القوقاز؛ وطالعنا لكتاب من أبناء هذه البلاد كلمات خالدة في الوحدة الإسلامية، والإخاء المحمدي، مما نرجو أن يكون حقيقة واقعة في العاجل القريب. ولعلك تذكر أننا قرأنا في الرسالة ذات أسبوع بحثا هاما عن الفقه الروماني وعلاقته بالفقه الإسلامي لكاتب مصري، ثم أعجبنا أن نجد الردود تتدفق على الرسالة من سنغافورة ودمشق وحضرموت والعراق دائرة حول هذا الموضوع، فكأن الرسالة قد أهابت بكل باحث في شتى الأمم الإسلامية، أن يلقي دلوه في الدلاء، فتقدم هؤلاء الأفاضل مسرعين. فإذا ما رأينا اليوم أبناء الأمم الإسلامية متكاتفين متساندين، فيجب أن نذكر الرسالة الحبيبة وكفاحها المجيد!
ثم دارت الأيام ومضت بنا الدراسة الثانوية إلى الدراسة العالية بكلية اللغة العربية، وسمعنا أساتذتنا يلقون علينا الدروس العلمية في تاريخ الأدب والنقد وفقه اللغة والنحو والعروض، فكنا نجد من يسمو بعقولنا - في محاضراته وأبحاثه - إلى أفق رفيع، ومن يعكف على مراجعه القديمة ليقدم خلاصتها دون أن يلم بما تمخضت عنه الأبحاث الأدبية في العصر الحديث. وكنا لا نفتأ نواجه هذا النوع من الأساتذة بما اكتسبناه من الرسالة وغيرها من نقد وتحليل، غير عابثين بعد ذلك بما يكون من تبرم وضيق. ولعلك تذكر بالخير شيخ أساتذة الأدب بالكلية، وسيد علمائها الأستاذ الكبير أحمد شفيع السيد فقد كان يذكر لنا الرسالة دائما بين مصادره العديدة في تاريخ الأدب العربي، وقد ينقل بعض أبحاثها الأدبية عن الشعراء الأقدمين معقبا بما يعن له من نقد أو توجيه. وكنا نسمع محاضراته في شوق وإعجاب يزيدان عن الوصف. وحين أدرك اهتمامنا بالرسالة، غمرنا بوده، وذلل لنا كثيرا من العقاب فصرنا لا ندري أنتقدم إليه بالشكر، أم إلى مجلة الرسالة التي تربط بين قلوب المتأدبين من أساتذة وطلاب برباط وثيق.
ولن أفادتنا الرسالة فائدة تامة في الدراسة العالية بالكلية، فقد كان هذا أمرا نتوقعه لما بين أبحاث المجلة ودروس الكلية من ارتباط، بل من يدري؟ ربما تكون الرسالة هي التي وجهتنا إلى كلية اللغة دون أن نشعر، لما غرسته في نفوسنا من حب للأدب وهيام بتاريخه ورسائله. ولكن الذي لم نكن نتوقعه بحال، أن نجد الرسالة الغراء تأخذ بأيدينا في معهد التربية العالي للمعلمين وتعيننا على استكناه مسائل التربية الحديثة، وتفهم علم النفس بما نشرته من أبحاث في هذين العلمين وأذكر جيدا أني جعلت الرسالة بين مصادري العلمية حين كتبت مقالاتي في امتحان الدبلوم فقد اعتمدت على ما كتبه الدكتور عبد العزيز عبد المجيد والدكتور فضل أبو بكر في الذكاء والطفولة بأعداد الرسالة، لأن الزيات الحصيف كان - ولا يزال - يولي الأبحاث الغربية الحديثة، ومن بينها علم النفس والتربية، عناية فائقة لينأى بالفكر العربي عن جموده وقيوده، ويطلق أمامه الباحات الرحيبة للسير، والأجواء الفسيحة للتحليق. ونحن الآن وقد جاوزنا التعلم إلى التعليم، وانتقلنا إلى تدريس اللغة العربية بالمدارس الثانوية نجد تلاميذنا في حاجة ماسة إلى مجلة أدبية تقيم الألسنة المعوجة، وتشد التفكير الواهن، وترفع الخيال الهابط، ولن تكون هذه المجلة غير الرسالة، فقد نجحت تجربتنا معها - ومع الآلاف من قرائها - أتم نجاح، وكانت نعم الناصر المعين
ولقد أطلت الحديث عن الرسالة في الأدب والثقافة، وتركت أثارها في الأخلاق والسلوك، وما أظنك تجهله، فقد انتشرت المجلات الخليعة التي تتملق الغرائز، ووقفت الرسالة أمام التيار الجارف تدعو إلى المثل العليا والأخلاق القومية، وتشن الحرب على التخنث والمجون، وقد حاربت الأدب المكشوف محاربة منتصر، فدحضت حجة هؤلاء الذين لا يرون في الأدب والشعر غير الحديث عن الفضائح والمخزيات، متشبعين بما تذيعه الصحف الملوثة عن الفضائح بودلير وفلوبير وجيد ولورنس! وكأن هؤلاء لم يرزقوا البيان الناصع إلا لشذوذهم الوضيع وإسفافهم الشائن، في رأي جماعة من المحررين، وقد ساهم مع الزيات في إيجاد أدب خلقي رفيع صفوة من أصدقائه وحواربيه، وعلت في سماء الرسالة صيحات الرافعي وعزام والزيات وفريد وجدي والطنطاوي وخلاف وقطب وإضرابهم من حماة الفضيلة والأخلاق. ولا زلت أذكر أن الأستاذ الزيات قد كتب مقالا عن تاجر يحاول أن يتحلل من قيود الخلق والكرامة لينجح في تجارته، مدعيا أن الغش والنفاق هما طريق زملائه إلى الثراء. وما كاد الزيات يفضحه أمام القراء حتى انبرى عبد الوهاب عزام وأمين الخولي وعلي الطنطاوي والزيات مرة أخرى ينتصرون للفضيلة في مقالات حارة تهدي إلى طريق النجاح، وأنا - بكل صراحة - حين أعلل اندفاعي إلى جماعة الإخوان المسلمين أجد الرسالة ذات أثر غير مباشر في ذلك، فقد غرست في نفسي حب العروبة ونصرة الإسلام، وبغض الاحتلال، كما رسمت بأقلام كتابها صورا واضحة للمسلم الأبي الغيور، وقد وجدت أهداف الإخوان لا تخرج عن ذلك. بل أذكر أني حضرت ذات ليلة مجلس الأستاذ الزيات في ندوة الرسالة فسمعته يتحدث عن محاربة الاستعمار للشرق والإسلام بكل سلاح مدمر غير مشروع، ثم انتقلت عقب ذلك إلى مجلس المغفور له الأستاذ حسن البنا، فوجدت الحديث متصلا يندد بفضائح الاستعمار ومحاربة الإسلام!! وكأني لم أنتقل من مكان إلى مكان، فرحم الله المرشد الشهيد، وكتب للزيات عمرا فسيحا يسعد به الشرق والإسلام.
أرى أن الحديث عن الرسالة يذهب بي كل مذهب! حتى لأعجز أن ألم بأطرافه، فهو حديث الصبا والشباب والآمال، وحديث الخلق والعروبة والإسلام! ولو كنت معي الآن لحدثتك بما يزدحم في صدري من الخواطر عن الرسالة، ولكن القدر الذي جمعنا أثناء الدراسة في معهد واحد، وأجلسنا على مقعد واحد، قد باعد ما بيننا أثناء التدريس، فأصبحت أدعوك من مكان بعيد، راجياً لك السعادة والصفاء.
فهيهات العقيق! وكيف يدنو؟ ... وهيهات الغداة فتى العقيق.
(أبو تبج)
محمد رجب البيومي