أ. د. سمير عبدالرحمن الشميري - حليم بركات عالم ومبدع حتى أطراف أصابعه..

حليم بركات (2023-1933) من أمهر السوسيولوجيين العرب يتميز بالرصانة والرزانة عمل بكل طاقته من أجل أن يتجاوز المجتمع العربي التخلف ووطأة الفقر والقهر والتكلس والأوضاع المعطوبة والمشاهد الأليمة .
حمل على ظهره أثقال زمانه وأنغمس بصور وأمشاج الواقع وقدم دراسات راقية وعميقة عن المجتمع العربي وسماته والهوية والانتماء والاندماج الاجتماعي والبنية الاحتماعية والدولة والمجتمع ومكونات الثقافة والقيم الاجتماعية .
كان يرى أن علم الاجتماع العربي(يواجه مهمة علمية مزدوجة: مهمة التحرر من الاستشراق ، ومهمة دراسة الواقع العربي من الداخل ومن منظوره ، وفي سبيل تحقيق أهدافه العادلة لنفسه ولغيره ، إنما من منظور نقدي تحليلي ) .
1- حليم بركات عالم وروائي ومثقف :
المتحذلقون والمتفذلكون وأرهاط من الحمقى والفاشلين يلعبون بمكر ثعالبي وتسيطر على مذائق أذهانهم وسلوكياتهم روح الشطط والفهلوة ويظنون في قرارة أنفسهم أنهم مهرة في حقل السوسيولوحيا مع شيء من التغطرس الفكري والمعنوي والمسلكي .
من المضحك في حياتنا أن أناسا جبلوا على الفخفخة والتمظهرات الدعائية والأوهام السرابية ولهم حظ في الزعرة والغباء ، يتقمصون شخصيات المفكرين والمبدعين السوسيولوجيين بطريقة شوهاء .
أوليس من المضحك أن يقلد الفيل مشية ورشاقة الغزال ، أوليس من المضحك أن يقلد جاهل بعقلية بائسة ومتصلبة شخصيات العلماء والمثقفين وأساتذة الفكر السوسيولوجي (فمن قال : أنا عالم فهو جاهل )،حسب تعبير يحي بن أبي كثير .
البروفيسور/حليم بركات عالم ومفكر سوسيولوحي ومثقف وأديب وروائي ، كان واحدا من الأفذاذ و من الوجوه السوسيولوحية والأدبية المتالقة التي تركت بصمة عزيزة في جبهة الزمن ،يدور اسمه على الألسن لايدعي التفوق والكبر والسخف والعظمة والغرور ولم يكن همه المغايرة والمخالفة والصيت الكاذب مثل بعض أصحاب العقول التي ضربتها فيروسات الغباء .
في كتاباته خرج من دائرة الأساليب والأنماط المكررة وأجاد الكتابة السوسيولوجية والأدبية والإبداع النقدي والفطنة النقدية .
في كتابه الشهير " المجتمع العربي في القرن العشرين -بحث في تغير الأحوال والعلاقات" ،يقول :
(هذا الكتاب يحاول أن يسلك منهجا أسميه المنهج الاجتماعي التحليلي النقدي ،فهو بحث في طبيعة المجتمع العربي بهدف التعرف إلى مقوماته الأساسية ومؤسساته، وتنظيمه الاجتماعي في بناه التحتية والفوقية والظاهرة والخفية ٫ وثقافته بمختلف تفرعاته واتجاهاته ، وقضاياه وانشغالاته ، وتناقضاته في علاقته بنفسه والآخر وتحولاته الدائمة ٫،ومن أهم المقولات العامة التي يتوصل إليها الكتاب أن المجتمع العربي مغترب عن ذاته ويسعى جاهدا يتجاوز اغترابه وتبعيته وأزمة المجتمع المدني ) .
لا أجد حرجا في القول إني تلميذ صغير في مدرسة السوسيولوجيا ومشغوف بأبداعات حليم بركات السوسيولوجية والأدبية البعيدة عن الهشاشة والتبختر وتضخيم الذات واضطراب بوصلة التفكير والمندغمة بجلوات الفكر وإشراقات الروح ورعشة التساؤل والنابضة بالحيوية وبمنطق التفكير والتحليل والنقد السوسيولوجي النجيب الذي يكشف الأغطية عن دماملنا .
( أفكاري تنتقل من موضوع إلى موضوع ٫ تقفز كالعصافير من غصن إلى غصن دون كلل أو ملل أو تعب...غير أني لا أحسد الذين يكتبون بسرعة ،هؤلأ الذين لايأتيهم الوحي إلا باحتساء القهوة المرة ٫ وتدخين السيجارة تلو السيجارة )" هشام شرابي " .
كنت دائما استشهد بالكتابات السوسيولوجية النيرة لعالم الاجتماع حليم بركات ،ولعل أقرب مثال على ذلك ما سطرته في كتابي الموسوم ب" مجتمع كسيح ونخب متوحشة " .
كان حاضرا بين سطوري برصيده الضخم من الثقافة والفكر ، قرأت بنهم منقطع النظير كتاباته وملأت يدي .
ولا أضيف جديدًا إن قلت أنه كان ضليعا في الأدب والسوسيولوجيا ولبيبا في الجمع والتأليف والنقد والتحليل السوسيولوجي له مكانة عزيزة في عقلي وضميري .
2- مؤلفاته وبعض أطروحاته:
له مؤلفات شهيرة في حقل السوسيولوحيا أبرزها ؛
- المجتمع العربي في القرن العشرين .
- الاغتراب في الثقافة العربية .
- الهوية وأزمة الحداثة والوعي التقليدي .
- المجتمع المدني في القرن العشرين .
- حرب الخليج .
له روايات تلهج بها الألسن أشهرها :
- المدينة الملونة .
- القمم الخضراء .
- الصمت والمطر .
- عودة الطائر إلى البحر .
- طائر الحوم .
-سنة أيام .
- إنانة والنهر .
كان يعتقد حليم بركات مع د.هشام شرابي وآخرين أن المجتمع العربي يتميز بالتقليدية والمحافظة الزائدة ،وأن البيئة الاحتماعية العربية ماحقة للإبداع ومعرقلة للمبدعين ولاتؤمن بالحرية الفكرية ومترعة بالتسلط وكابحة للعلم والمعرفة تهدر طاقات الرأسمال البشري ولا تساعد الموهوبين على الإبداع والإرتقاء والتطور ،أو على حد تعبير العالم المصري أحمد زويل :
( الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء ٫ هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ٫ ونحن نحارب الناجح حتى يفشل ).
في الحداثة والاكتهال كان همه تحرير الإنسان العربي وتطوير المجتمعات العربية وتطوير التعليم والثقافة والمعرفة، تطوير الجامعات العربية، كان همه الترقي من مقام إلى مقام ، حمل قلق السؤال الفكري ، وأنتقد عقلية تسطيح الجامعة والعمل الأكاديمي وكثرة العفن في مؤسسات العلم والثقافة والمعرفة كان يدرك في صميم قلبه أن :
( الجامعات العربية ليست مهيأة للبحث أو لممارسة الحرية . أقول هذا ليس من موقع النقد ، ولكن من موقع الحرص على ضرورة إنهاء هذا الوضع لكي تتكون لنا الجامعات ومراكز الأبحاث الحرة ، فلاتستمر هذه الهجرة التي ليست هجرة شخصية ، بل هجرة عامة تحركها القوى الدافعة من الداخل إلى الخارج ) .
لقد كان محقا أ.د.حليم بركات عندما قال :
( الدولة تمكنت من الهيمنة على المجتمع بسحق أو تعطيل المجتمع المدني في البلدان العربية ) .
3- النص السوسيولوجي الجميل:
وقتي لايبيح لي في تقديم قراءة كاملة لأعمال حليم بركات وليس لدي وقت في البرهة الراهنة في الغوص العميق أو التعمق أكثر في مؤلفات البروفيسور/حليم بركات التي راقت لي .
يطيب لي أن أعلن ، أن نفسي تميل للنص السوسيولوجي العميق والجميل وتعاف النصوص الجامدة المبهمة التي لاتخترق الجاهز المعلب ، التي تكون ثقيلة على النفس والعقل ، النصوص الجرداء الخالية من الزينة والتفنن والمدبوغة بالتكلس والتكرار والشروحات الممجوجة الخالية من الجودة والمهارة والعمق العلمي والسوسيولوجي والبلاغة والكلام المحمود .
أود القول في هذا المنوال ، أن ثمة وجوه سوسيولوحية ابدعت في الاستعارة والخيال السوسيولوجي ووظفتهما في المهارات البحثية السوسيولوجية مثل :
بيير بورديو ، إرفنج جوفمان ، وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان( 2017-1925)،الذي دامج مابين النصوص السوسيولوجية والمسرحية والشعرية والأدبية وانتج نصوصا سوسيولوحية بنكهة أدبية فاخرة بعمق علمي وثراء روحي مغموسة بالبلاغة والدقة العلمية والسوسيولوجية .
وإن نسينا لن ننسى عالم الاجتماع العربي حليم بركات المرتوقة أعماله السوسيولوجية بروح الأدب والشعر والتفنن وأساليب التشويق والمهارات الذهنية والعمق الروحي وهذا ما نلمسه ببساطه في كتابه الذائع الصيت " المجتمع العربي في القرن العشرين ، بحث في تغير الأحوال والعلاقات" (يحتوي الكتاب على 1036 صفحة ) .
4- لاعين رأت ولا أذن سمعت :
أراني في حاجة للقول ، أن البروفيسور/حليم بركات كان رأسا في علم الاجتماع عمل أستاذا للسوسيولوجيا في الجامعة الأمريكية - بيروت ومن ثم أستاذا للسوسيولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية( جامعة هارفارد وجامعات أمريكية أخرى)، أبحاثه وكتبه نشرت باللغتين العربية والانجليزية ، مات فساد الصمت ( مالاعين رأت ولا أذن سمعت )، أهملته الفضائيات ووسائل الاتصال الاجتماعي ، ربما لأنه كان يقول الحقيقة وينور مضائق الأذهان ، وفي الضفة الأخرى هناك من يجندل رأس الحقيقة.
كان يؤمن أنه :
( تقع على عاتق المفكرين مسؤولية قول الحقيقة وفضح الأكاذيب ) " نعوم تشومسكي" .
( من أين يأتي النور ؟ ونحن في كل العصور حجر الطاحون
نستبدل الأغلال بالأغلال في الطابور
يبيعنا الطغاة للطغاة والملوك للملوك
لكننا نظل صامدين
نموت صامدين..
نحمل جرحانا على جباهنا وندفن الأموات
بلاتواريخ ولا أسماء
نقيم في قبورهم أحياء ) "عبدالوهاب البياتي" .
ولا أغلو إن قلت ، أنه دب الهرم في نفسي وجسدي وشعرت بألم يأكل كبدي عند سماعي خبر وفاة حليم بركات يوم الجمعة 23 يونيو 2023، لقد خلد للراحة السرمدية وترك فراغا في الفضاء السوسيولوجي والثقافي والروائي بعد أن احتل مكانة شماء في عروش قلوبنا رحمه الله وأجزل مثوبته .


أ. د.سمير عبدالرحمن الشميري - أستاذ علم الاجتماع جامعة عدن .





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى