سليمان جمعة - قراءة في نص "الندم" للكاتبة الناقدة كنانة عيسى

الندم

في الأزقة الحجرية الداكنة، ُتبتلعُ آلاف الخطوات،
وحدها الظلالُ والجّدران تتنفس وقعَها المتفاوت في رّواح وغدو، ككلِّ مدينة قديمة في العالم، لجانبها الأثري نصيب من العشق لا يلتئم، ولا يعرف فقر الأجزاء الأخرى وهشاشتها،إنّه ذلك الوقت الرّصين من كل عام...قدسية تمسح الوجوه المتعبة الزرقاء بنور قد تشظى في قلوبهم ولم يلامسني حفيفه.
فليذهبوا إلى ذلك الجحيم..
أقف عند تلك الواجهة الزجاجية مثقلاً بوجبة ما كان يجب عليّ تناولها بعد إفطار دسم، ورغم ذلك أنا أرغب في المزيد منها.
لا يعلم أحد حولي، أنّ حزني أكبر من شرهي، وأنّ سخطي أقسى من انتمائي لوطن خذلناه جميعًا.
وها أنا أتلقف الصحن البلاستيكي، أنظر بشراهة لقطعة العجين المقلية والمحشوة بالشوكولاته السائلة وأبدأ بالتهام ما قدّم لي بأنفاس متقطعة لزجة، أسمع أحدهم يهمس من خلف ظهري
شره قميء
بدين أحمق
، لكن ذلك لا يثني عزيمتي عن التهام المزيد.
كثر هم سياح المكان الَمحملقين فيّ، سياح يشبهونني ، شخوص هائمة بلا أرواح ولا أفئدة، يتلذذون بقلب المدينة التي أعفتها الحرب من مرارة الإحتراق ولم تعفها من مرارة الموت والدمار والجوع، بقي نصف قطعة الحلوى ملتصقاً بالصحن البلاستيكي في يدي، رائحة الفانيلا و خبيز الحلوى تثيران فيّ الغثيان، أقف بجانب حاوية القمامة لكنّها تبتعد عني، أنظر حولي، لن أجرؤ على رميها، هذا عقابي، وأستحقه، ابتلعُ كلّ شيء بشراهةٍ، ينظر إلي الصحن الفارغ الدبق بفتاته ضاحكًا وهو لا يغادر كفيّ المتعرق، أستند بيدي على الجدار ريثما تصل سيارة مستأجرة فارهة لتقلّني لأهم فنادق المدينة المكلومة.
تحثو خلفي خطوات ضيقة بينما يغلق الشارع دوني أضواءه الخافتة، ،تشدني يدٌ بائسة صغيرة، ألتفّ للخلف، يأتيني صوتها مغلفًا بآذان حزين بعيد
-هل ستأكل هذه يا عم؟
أقدّم لها الصحن بفتاته، تمسكه ببؤس وتغادر....أراقب جسدها الناحل وثوبها المتسخ القديم، مرتحلًا مع جوقة من الأطفال المشردين الباحثين في حاويات القمامة البعيدة عن ندم يشبه ندمي.
كنانة حاتم عيسى

.......

//القراءة//

اذا ما كتب النص رؤية واضحة ترى جسده يتشكل بها واذا ما افتقدها كان صامتا يغيب في زمنيته.
فمن الطبيعي ان يفكر الانسان بمكان يحس فيه بالسلام والطمأنينة
ويجد فيه ما يشتهي
ويعيش الحب والحرية والكرامة والامان ..
هذا ما نسميه الجنة قد نتصورها لحاجتنا اليها او نؤمن بها كما تعد البشرى بها لمن آمن واستقام ..
والوطن له صفات منها
كثيرة .
لنرى الى المكان في نص "الندم " للكاتبة الناقدة السورية كنانة عيسى..
ولنرى الى البنى المعرفية التي شكلت حركة الفكرة او الحياة المقترحة للفكرة ..
البنية الاساسية هي جغرافيا "المدينة "
التي تبتلع ازقتها الخطوات وتحس وقعها بتفاوت ..
تفاوت " حال تكشف اول نافذة ندلف منها الى النص ..من وقع الخطى نعرف الفروقات الطبقية بل نعرف من ينتمي الى هذا المكان الاثري او لا ينتمي ....ذلك المكان الذي يشع قداسة فيمسح الوجوه المتعبة ..ولكنها اي القداسة صادفت نفوسا متشظية ونفوسا صلدة لا تستشعر حنانها..
وبقربها اي الآثار الصامدة على الزمن اي هي الماضي الفاعل الباني المشع يطل على بناء جديد هش .. اي ان الحاضر ليس بفاعلية وقداسة الماضي ....
السارد الذي لم يمسه الشعاع هو قد تخلى عن المكان القديم بما فيه من فاعلية راسية وعن الحاضر ايضا فهو يشبه السياح او يشبهونه اي عابر سبيل ..ينظرون باعينهم لا بافئدهم ..
اذن نراه ينتظر سياره فارهة تنقله الى فندق مكلوم مارة فوق امكنة محطمة قد نجت من الحرق ..فهو بالسيارة يزيد من عزل نفسه عن المكان ..بينما من تصدق بالحلوى لها ومن يشبهها ولجوا في الشوارع على ارضها تضمهم ويتوغلون فيها .. هو يقف متخما عند مطعم يتناول الحلوى بشراهة والفتاة بثيابها المهلهلة تقف عند حاوية القمامة .. .
هو السارد يشعر بحزن ااعمق من شراهته وبغضب اقسى من انتمائه لوطن خذله الجميع .... ..هو امام نفسها ومرضها كالشراهة والغنى وعدم التصدي للخراب هو نادم .. يرى الى نفسه بقساوة ولكنه مأخوذ بهذا السلوك الخاذل للوطن ..والآخر الذي يشاركه المكان ينظر اليه " انه قميء" من الخارج ....هو ينظر الى ذاته من الداخل .. اي ان المكان متشظ بتاريخه ماضيا وحاضرا ..اثار يقصدها السياح وابنية هشة هزيلة ..
وشعب متشظ ..اغنياء عزلوا انفسهم عن التاريخ والحاضر باعتبار وجودهم سياحة وفندق اي عند البأساء يغادرون .. هم طبقة السارد المتخمون نفوسهم يعتمل فيها الندم .. اي متشظية .
والمتشردون كتلة واحدة ولكن نفوسهم لم تعد تستشعر لطافة عشق الماضي لهم ....فبماذا حكم السارد عليهم انهم ذهبوا الى القمامة يبحثون عن ندم يشبه ندمه....مع العلم ان ال التعريف لا تناسب لانها توحي ان النص سيطرح تعريفا للندم ...فالتنكير اولى هنا من التعريف
ماذا تقول هذا البنية المعرفية ؟
ان نفسه حاوية قمامة ..عندما سمح ان يعطي الفتاة ما بقي من الحلوى وهو كان يريد مترددا ان يقذف بها الى القمامة ..فناولها لها .. ان تقاسم الطعام من رجل تخلى عن الوطن مع ناس مشردين على ارضه ..يعد مشاركة في الشعور الحزين وقسوة الحاضر ..لان الآخر الشريك المتشرد يرفض البدين القميء....
ان التشظي الجغرافي والزمني التاريخي .والشعبي والنفسي .. يحاصر الوطن والناس .. بالحرب التي دمرت الحجر والبشر ..وجعلت من الناس فئات يفرق بها الجوع والتخمة ..
كيف يفك هذا الحصار ويرمم هذا التشظي ويلتحم المكان على ماضية وحاضره . ؟
هل يكفي ندم ما ؟
ومن هم النادمون ؟ من كانوا اغنياء قد اثروا فخذلوه ام الجمع من الناس الفقراء ساكني الهشاشة ؟
هل التاريخ الثاوي في الضفة الاخرى يوحي للنادمين ان اقبلوا تعمدوا بنور عشقي وقدسيتي لقيامة تصل بين الحيين من شعب ومكان وزمان ؟
تلك هي النافذة التي تفضي الى سلام نتخيله كالجنة للجميع ..لا يدخلها الا من عمل صالحا يخوله دخولها.

سليمان جمعة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى