الشيخ محمد أمين علي: خطيب جامع السيدة الزهراء في بلدة الصويري سورية حمص.. حاورته: أليسار عمران

محمد أمين علي: خطيب جامع السيدة الزهراء في بلدة الصويري.. سورية حمص



مؤلفاتي : كتاب رؤية إسلامية .. كتاب مشروعية القتال في الإسلام(الحرب العادلة) .. مسائل فقهية منتخبة ... مقالات في مجلات متنوعة
لأول مرّةٍ أتوقف عند جمال عمقٍ عارفٍ،أسأله كما أسأل البحر فيفيضُ باللؤلؤ،طفلٌ مع الأطفال، وشابّ مع الشباب،بمثابة الأب الروحي لجميع الطوائف،يذخر بهمة ونشاط ابن العشرين،يضيف المعنى للوجود، لقد كتب لي الأجوبة على الورق بخط يده المباركة ،بعمر مافوق السبعين وبذاكرة تفيض بالجمال والحضور
توجب علي أن أنزل حلقات حوارنا على دفعات نظراً لاستفاضة الجواب حتى بعد الاختصار

س١:حدثوني كثيراً عن قلبك الذي اتسع، ليحوّل شغافه إلى رداءٍ يقبضُ على جمر الفتنة،يدعوك الراهب والقسيس والشيخ لتخطب بالنيابة عما يريد قلبه أن يقوله على الملأ
والسؤال:ترى ماهي معوقات الحوار الديني في البلدان العربية ،وكيف انطفأ جمر الفتنة بين يديك بالمحبة
ج١:إن ما أكتبه ،لم يكتب لأولئك الذين تشربوا العنف وتمذهبو به،
وتربوا عليه ومارسوه ومضوا فيه،بل كُتب لمن لاتزال لديه القدرة على الإصغاء والمراجعة،والحوار وسماع الطرف الآخر،وتأمل الأحداث وإعادة النظر في التاريخ والتجارب، والقدرة على ممارسة النقد الذاتي، وأعلم أنني لست فوق النقد الذاتي ولادون الخطأ
إن مانسعى إليه هو البحث عن آلية نهوض بأدوات الحوار الفكري
العربي الإسلامي ، وتأسيس مناخ مناسب، لتأصيل خطاب ثقافي فكري قادر على الوقوف في وجه التحديات المفروضة، وفرز أدوات تستطيع ممارسة دورها الحضاري الانساني
ففي ظل بناءٍ تناصريّ لا تلاقحيّ كان يقوم المجتمع الإسلامي
والذي تشكل منذ الانقسام العلني حين رفع السلاح من خلاله في حسم الخلافة واغتصاب الدولة بالسيف والدم من جهة ،
والتزوير والتحريف والتقويل من جهة أخرى وانتصرت أطراف على أخرى لطبيعة المرحلة والظروف ونجاحها في استثمار السبل الممكنة في تثبيت نفسها،كي تكون الدولة لها من هنا كان لابد من تأسيس الجانب الثقافي في الخطاب الديني، كي يضمن الشارع الذي يشكل الناس،فمررت السلطة مايناسبها،ومنعت وطاردت كل مايسيء لوجودها،أويحاول أن يقوض أركان حكمها
فثارثت الخلافات وتمت الاغتيالات وقطعت رقاب،وجزّت رؤوس فوق مذبحة الخلافة أومحاولة التصدي لها
هذا الخطاب الإسلامي، الذي تسارع وتنامى في المجتمعات المغلقة ،والذي أعد من أجل الاستعباد
الاستعباد بالفترة الاولى كان استعباداً داخلياً محلياً
أما استعباد المرحلة الثانية، فاخذ شكلاً آخر بحيث تدخلت قوى خارجية ناهبة فالمستبد القادم وجد بين يديه،أدوات جاهزة للتفريخ مسبقة الصنع من أجل حلب الناس وتغييبها،فكان من نتائج ذلك الاستبداد العثماني،هذه الفترة الزمنيه الهائلة
أن أدوات الاستعباد ،والتذليل كانت موجودة ومتكاملة تركها الخليفه خلفه،وأهم مافي هذه الأدوات من خطورة،أنها كانت نتاج كتاب الله وسنة رسوله كما يزعم(الكم البشري)
لقد تشكل لدينا وعيٌ معرفي، يكاد يكون بجملته وعياً وهميا،خارج حدود الزمان والمكان
وكما نعرف أن التقدم والتخلف ،مرتبطان بجانب حياتي مهم تعيشه الشعوب،ألا وهو النتاج الذي تشكل عبر التاريخ، وقد يكون هذا النتاج مكتسباً،أو يكون تفاعلا ذاتيا وفرزاً محلياً ،وأمتنا العربية الإسلامية ، توافرت لديها أدوات الواعين،ولم تستطع أن تستثمرها فوعينا المعرفي جاء عن طريق مجموعة حضارات كانت قائمة قبل الحضارة العربية الإسلامية فقدكانت شعوب تلك الحضارات قد أنتجت معارف متقدمة بالنسبة لزمانها،فأخذ العرب جزءً كبيراً من تلك المعارف، لكنهم لم يقاطعوها عمودياً،
فيما بعد مع ماتم إنجازه ذاتياً أومحلياً،وذلك من خلال الخطاب الثقافي والسياسي والاسلامي،الذي فرزه الخطاب الالهي من خلال التنزيل الحكيم ،وممارسة الرسول الكريم(ص) في المدينة
المنورة والذي لم يصلنا على حقيقته ،فالعرب تفاعلوا مع فن العمارة وطوروه،وبرعوا في الكيمياء والطب والهندسة،وكانت لهم بصمات في فنون التجارة ،حيث عاشوا أبعادها الكاملة، كما برعوا في فن الزخرفة والقتال وجميع فنون الحرب،وكل هذا خلال الفترة التي كان التراث الديني يفرض خطاباً قمعياً جبريا،يقود الانسان العربي المسلم إلى أنفاقٍ من الظلمة والاستسلام والثبات
وعموما هذا ليس الخطاب الحقيقي الذي مارسه الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
ونضيف أن المرحلة الحالية التي تمر بها الأمة هي من أكثر المراحل التاريخية تشتتاً وتمزقاً،وأهم أسباب التخلف لهذا الكم البشري
بالاضافة إلى أسباب التآمر الخارجي ،مما جعلها في محرق المطامع بالنسبة لقوى العالم ، فوجب التركيز على الموروث الفكري، والذاكرة التاريخية اللذان يُعدان من أهم المعوقات في عملية الحوار، كون الحاضر ضروريا لاحتواء المشاكل التي يواجهها المجتمع ،وضروريا لإحلال السلام بين أطيافه، بدلاً من منطق الحرب والهيمنة، التي تقوم في ظلها مسائل كالتوازن والأنصاف وتوفير التعايش بين الشعوب والتغلب على لغة التعصب و الكراهية
إن الاختلاف مظهر طبيعي في المجتمع الانساني،وهذا الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد الذي لابد أن يستدعي الخلاف ويقتضيه ،وكما تكون هذه الظاهرة بين الأفراد تكون على الجماعات، وماينسحب على الجماعات ينسحب على الحضارات
وهنا تكمن أهمية الحوار فهو يعكس الواقع الحضاري والثقافي للأمم والشعوب،حيث تعلو مرتبته وقيمته، وفقاً للقيمة الانسانية
لهذه الحضارة أوتلك
وكما أن الحوار وتبادل الآراء،أي جو النقد الذاتي، هو زوجية الفكر،
سلاحنا الامضى هو المحبة، فالمحبة إذا ماتربعت في القلب تخرج العجائب وتبث انفاسها في شغافه ونياطه
العليل يبرأ، والقصي يدنو والقاسي يلين، والقبيح يجمل

على أوتار الكون الخمسة، تتراقص سمفونية الأسئلة قراراً وجواباً
س2 : تهتم بالفنّ وبالعلم ، وتُداعب الأطفال أيضاً . القلب الكبير ، كيف وفّقت بين الشجر والورد والوتر بصلاةٍ كونيّة تؤذن في آذان المخلصين ، الله محبّة ؟
ج 2: يقف الإنسان ، وسط عالَم يزهو بالإبداع ! فإذا تطلَّع إلى السماء ، رأى حديقة النجوم المعلَّقة في الفضاء ، تجري في إبداع يبهر العقول ، ويسلب الألباب !.
وإذا نظر المرء إلى الأرض ، وما عليها من زينة ، ازدحمت المناظر الفاتنة في عينيه ، وتلاحقت الصور أمامه وكلها تشير إلى عظمة بديع السماوات والأرض . وانظروا إلى هذه القطعة ، من لوحة الطبيعة :
كان الليل غارقاً في السكون . وكانت النجوم تبعث تحيتها من خلال ضوئها ، الفستقي الأزرق .. أمّا القمر : فكان يرش نوره الفضي ، فويق الحقول المنبسطة ، أمام الطبيعة ، كسجادة عجمية
فتنتعش الأزهار ، وتهفو الفراشات فوق الرحيق !. وكانت الطبيعة ترتدي ثوب الفجر ، كي تستعد لبعث الصبح من نومه العميق !. وفجأة ارتفع صياح الديكة ، ليشقّ سكون الليل فيعلن قدوم الفجر يتلوه الصباح .
ومرّت دقائق معدودة ، كان الصبح بعدها ، يتنفّس تنفساً عميقاً ، في محاولة لاحتواء الشمس ، القادمة من المشرق إلى المغرب .
وأطلَّت الشمس بوجهها المشبع بالحمرة ، من وراء الجبال ، تبسط ضوئها ، فوق الحقول والوهاد ، فترتدي الطبيعة ثوب النهار الدافئ !.
وتحركت الكائنات الحيّة في طلب رزقها !.
والطير صافات ويقبضن ، تجوب السماء ، زرافات ، زرافات ، تشقّ الجو بصدورها ، وهي في رحلة البحث عن الطعام .
وكما في السماء ، كذلك في الأرض ، فهذه الكائنات الحيّة ، تموج في العمل ، ومنها حركة العمل !.
وكذلك السمك في الماء .. إنه يسبح في أحضان الماء ، وهو يعيش ضمن نظام جماعي ، من من أروع ما يكون .
وبعد ذلك لا يفوتنك الإنسان نفسه . إنّ سجل الإبداع في جسم الإنسان ، يبدأ ، ولا ينتهي ، لأنه يفوق التصور ، والخيال !. انظر إلى سلسلة الأحماض الأحماض الآمينية ، وإلى انفراد كل واحد منّا بالتموجات الصوتية ، وخطوط الأصابع ، وذبذبات الخط ، وتموجات الشعر . وانظر إلى خريطة الدماغ .. وهل بعد هذا الإبداع ، إبداع ؟!.
أقف خاشعاً في حضرة الفنّان الأكبر . عشقت الفنّ وكل ما أبدعته أيدي الفنانين .
وقد تعلَّمت من الإسلام ، أنّ الكلمة هي أرقى أنواع الفنون الإنسانية قاطبة ، فقد جاءت صياغة كتاب الله صياغة كلامية أي على شكل أرقى الفنون . واهتمام الإسلام بالشعر والقصة وكل فنون الكلمة الأخرى واضح . ولكنه انتقد ظاهرة عدم الإلتزام في الشعر والأدب ، فقال:(والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُون . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وأَنٌَهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ . إلَّا الَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..)/الشعراء 224-227/ .
فالإسلام استنكر ظاهرة عدم الالتزام من الشعراء ، أي انتقد الشعر غير الملتزم والذي يؤدي بدوره إلى ظاهرة الارتزاق بالشعر (الشعراء المرتزقة) .كما اهتم الإسلام بالنحت ووقف منه موقفاً إيجابياً . ولم يحرِّم النحت كفنّ وإنما حرَّم وحذَّرَ من الرجس (الاختلاط في الأمور) لكي لا يظن الناس أنّ المنحوت فيه ضرر ونفع (وهذا باطل)
. والمسلمون لم يهدموا المنشآت والتماثيل مثل : أبي الهول وأبي سنبل والكرنك وآثار بابل والشام ... ولو هدم العرب المسلمون هذه التماثيل لدخلوا التاريخ كشعب همجي مهدِّم للحضارات .. واعتبر الإسلام فنّ الرسم من الفطرة الإنسانية ، فالأساس الإباحة وليس التحريم ، والمصوِّر من أسماء الله الحسنى .
كما اهتم الإسلام بالصوت الجميل والموسيقى اهتماماً كبيراً . وعندما قَدِم النبي(ص) مهاجراً إلى المدينة استقبله الأنصار في يثرب بالأغاني والغناء الجماعي وضرب الدفوف . لذا فإنّ الموقف الذي يمنع الغناء يعتبر موقفاً غير إسلامي . والفنون هي من الدِّين الإسلامي .
أمّا طلب العلم والاستزادة منه ، لأنّ العلم صفة من صفات الله تبارك وتعالى .وبه يمضي الإنسان بعيداً في درس ما هو متناهٍ في الصغر ، وما هو في ضخامة الحجم أبعد من متناول الخيال . وبالعلم يسخِّر الإنسان هذا الكون لخدمته . وبالعلم يُعرف الله ويُعبد .. والبشر لا يتأنسن إلّا بالعلم أولاً وبالأخلاق ثانياً (علم +أخلاق=إنسان) .
ويوم تقرأ الطبيعة بوعي ، ندرك أنّ لكلّ ما يؤلف الكون الأكبر شأناً في كلّ ما نعمل ونشتهي ونفكِّر . فما انطلق في الكون صوتٌ إلّا كان نوطة في ترنيمة الحياة العامة . ولا فكرٌ إلّا كان خيطاً في نسيج الفكر الكوني . فكيف للإنسان أن يقيم فاصلاً بينه وبين الشجر والورد ، والأعشاب والأثمار ، والجبال والبحور ؛ وبين ما يبصره وما لا يبصره وكلها شريكة في حياته ؟ وما دام النظام الذي يسيّر الإنسان والكون هونظام واحد ، فإنّ كل الكائنات تشاركنا في صلاة كونيّة ، أخذاً من الذرة والخلية ، مروراً بالجبال والأشجار والطيور ، وإنتهاءاً بالكواكب والمجرّات . إنها تؤدي صلاة الجماعة في موكب كونيّ واحد !.
حقّاً إنها لصورة رائعة لهذا الكون وهو يقيم صلاته .. كون كله مصلّ ، في طاعة لله لا يعرف المعصية ، تسيّره قوانين كونية وطبيعية ، هذه القوانين تمثِّل إرادة الله في الخَلْق . أمّا الإنسان فهو المخلوق الوحيد الذي خُيِّر بين الطاعة والمعصية . ولأنّ الإنسان ابن الطبيعة ، فعليه أن يعود إلى طاعة الله ، منسجماً مع الطبيعة ، في حركة واحدة .
ولمّا كان الإنسان هو أتمّ صورة لله في الأرض ، ولكنها صورة ما تزال في طور التظهير . وأنّ الناس كل الناس تجمعهم شركة الإنسانية في الأرض والسماء والحياة والموت . وقد زوَّدهم الله بالفكر والخيال والوجدان . كان حريّ بهذا الإنسان أن يضع لنفسه الكمال الإنساني هدفاً ، وأن يتمكن من الوصول إلى قلب الجمال والحريّة والحق ، إلى الله . وأعظم ناموس لتحقيق إنسانية الإنسان من جهة ، وانسجامه مع الطبيعة والكون من جهة أخرى ،هو المحبّة
. هذه المحبة هي الألفة التي تربط كل مافي الكون . والإنسان يحتاج إلى المحبة ، احتياج الوردة إلى النور ! ويوم تموت المحبة ، يموت عطاء الإنسان وتنطفىء كرامته ! لأنه مثل الوردة التي لا تنمو ولا تتفتح إلّا في الشمس والهواء . والمحبة بالنسبة للإنسان ، هي الشمس والماء ، والهواء . هي المحبة تجلو بصائرنا وأبصارنا ، وبها تستقيم الحياة ، ويتحقق السلام ، ونُخرج العجائب
. وما أبلغ قول يوحنا الإنجيلي في إحدى رسائله : (الله محبة . مَن أقام في المحبة ، أقام في الله ، وأقام الله فيه) فأنتم متى غمرت قلوبكم المحبة ، ارتشفتم السعادة من ينبوع حُبّ الآخرين . واطمأننتم كما تطمئن أنفسكم لسحر الطفولة ، وتستسلم لها استسلام الرضيع للنوم على صدر أمّه . وتَنفَّستم الحرية عبيراً منعشاً . وشَعَّ من قلوبكم نور السلام إلى العالَم كله .
وختاماً ، تذوّقتُ جمالات الطبيعة والفنون . واستضأتُ بنور العلم . وتعشَّقتُ سحر الطفولة . فتعلَّمتُ منها حُسْن تجاوز العقبات والمشاكل ببراءة وصفاء ونقاء الأطفال .

س3_ : ما هي الشروط التي يجب أن يخضع لها كل رجالات الدِّين بحق ، كي يأمن الناس مسح الأدمغة ، و قبول المسلَّمات دون أي نقاش ؟
لقد كانت مهمّة الدِّين ، هي التبشير بالإنسان الجديد . حيث توجّه الدِّين و من خلال العلم و التربية الميدانية القائمة على تنمية دوافع الرّدع الداخلية ، و وضع ( كوابح ) العنف عنده ، لإيجاد حالة السَّلام الداخلية ، الذي إن تحقّق شعَّ منه السلام الحقيقي و الكامل ، و الدائم على الكون .
فالدِّين يسعى إذن ،إلى صياغة اجتماعية للإنسان ، بتربية حديثة قائمة على العلم و الأخلاق ، من أجل الوصول بالنَّفس إلى حالة ( العدل ) ، التي هي القانون الأسمى في الوجود ، و الذي قامت به السماوات و الأرض .
و في اللحظة التي نمسك فيها البوصلة الداخلية ، و هي تعمل نظيفة بَرَّاقة ، و العدل الداخلي قد تأسس ، تدخل النفس الإنسانية ، مرحلة النّفس المطمئنة ،في عالم السعادة ، و التي أبرز صفاتها ( السلام ) ، السلام مع النفس ، و الكون و المحيط ... فمن جنَّة السعادة ، و من كَنْز النَّفس المطمئنة ، يَشعُّ نور السلام إلى العالمَ كله . ولا غرابة . فالله أحد أسمائه السلام ، و الجنَّة هي دار السلام ، و الله يدعو إلى دار السلام ، و تحيّة أهل الجَنّة هي السلام ، و تحية الملائكة للرُّسل هي السلام ، و حياة كلمة الله و روحه عيسى بن مريم (ع) بدأت و خُتمت بالسلام . و الإسلام هو السلام الشامل و الدائم ، طالما كان مصدره الأبدية ، و علاقة الإنسان بأخيه الإنسان يجب أن تقوم على السلام ، و تحية المؤمنين هي السلام عليكم و رحمة الله و بركاته . و للوصول إلى تماسك الجماعة الداخلية فالسلام هو الطريق :
( يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُو ادْخُلُوا في السِّلْمِ كَافَّةً .. ) /البقرة ٢٠٨/
( ألَا أدلُّكُم على شَيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبتُمْ ، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ ) /حديث نبوي/ .
وقد حَدَّد الله تبارك و تعالى سُبُل الدعوة إليه بقوله تعالى : ( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ و المَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ، و جَادِلْهُم بالتي هي أَحْسَنُ .. ) /النحل ١٢٥/ .
و الحكمة : هي الجمع بين العلم المفيد و العمل بمضامينه . و المقصود هنا بالعلم ، هو مجموعة القواعد و الأسس التي أثبتت التجربة و الوقت صدقها في حقل معيّن من حقول المعرفة . ( و العلم هو إدراك القوانين التي تحكم الأشياء في حركتها و مقاديرها و علاقتها بعضها ببعض) . و لئن عرَّفنا العلم بأنه مجموعة النواميس و الحقائق و القواعد التي أجمع عليها المختصّون في باب معيّن من أبواب المعرفة ، و التي أثبت العقل و المنطق و الحواسّ و التجربة و الزمن صحّتُها ، فلا يقع تحت هذا التعريف إلّا العلوم الطبيعية الماديّة ، كالفيزياء والكيمياء و الطب و الفلك و غيرها ... و أمّا العلوم الإنسانية ، كعلم القانون و علم الأخلاق ، و علم الاجتماع ، و علم النَّفْس و غيرها كالشريعة و ... فلا تُعد علوماً بالمعنى التحديدي للعلم ، و إنما هي ( علوم رخوة ) حتى لو درجت العادة أن يُطلق عليها اسم ( علوم ) . و بمعنى آخر ، العلم هو صورة لشيء موجود حقيقة في الواقع . و ما يُسمى بالعلوم الرخوة ، لا وجود لها في الواقع الموضوعي ،و إنما وجودها في أذهاننا فقط ، بمعنى إذا أنتفى الإنسان تنتفي هذه العلوم . و بالتالي هي ليست صورة لشيء موجود في الواقع ، أي ليست علماً . و هذه العلوم مختلف عليها بين الأفراد و الشعوب .
و الموعظة الحسنة : هي الدعوة المنظَّمة على أسس منهجية منطقية سليمة . و من سُبُل الدعوة : اعتماد الجدلية المنطقية العلمية في الحوار ( الجدل ) مع الآخر ...
هذه هي سُبُل الدعوة إلى الله : بالعلم و العمل ، و الموعظة الحسنة ، و الحوار .
فالإيمان الصحيح الثابت هو حصيلة عملية فكرية منطقية علمية قبل أن يصبح مسألة وجدانية شعورية . و على كل داعية أن يعتمد المنطق في توجّهه إلى الفرد المكلَّف ، و الدليل العلمي الماديّ و هو يحاوره في وجود الله و صِدق التنزيل . و هكذا دعوة تحتاج لعلماء متخصصين في مختلف العلوم المادية ، من المؤمنين ، ولا تحتاج أبداً للتهديد بالساطور و النار . و من حَمَل سيفاً في سبيل نشر دعوة الله ، فقد فسق عن أمر الله . لأن مشيئة الله اقتضت حرية الاختيار : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَآمَنَ مَن في الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ ) /يونس ٩٩/ .
( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَّلِفِينَ . إلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ، وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ .. ) /هود ١١٨/ . ( لَا إِكْرَاهَ في الدِّين .. ) /البقرة٢٥٦/ .
فالله ليس ضعيفاً بحاجة لمن يقاتل من أجله ، و لم يعط صكّاً لأحد في هذا العالَم ، أن يؤدِّب أو يسيطر على الناس بالنيابة عنه . لاحظ كيف خاطب الله نبيّه المصطفى محمد (ص) قائلاً : ( مَا على الرَّسُولِ إلَّا البَلَاغُ ) /المائدة٩٩/ . ( قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) /الأنعام ٦٦/ . ( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) /الشورى ٦/ . ( وَمَا أنا عَلَيكُم بِحَفِيظٍ ) /الأنعام ١٠٤/ . ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِر ) / الغاشية ٢٢/ . وهو النبي المُرسَل من قِبل الله تعالى . و أريد أن أشير هنا ، إلى الهامانات من رجال الدِّين - الذين من أجل إحكام قبضتهم على أعناق الناس في كل نواحي حياتهم العامة و الخاصة - اتخذوا ستاراً شرعياً يخفون وراءه مزاعمهم في الوصاية على وجدان الناس و عقولهم ،تارة تحت عنوان الحفاظ على الدِّين ، وتارة بحجّة أنهم ورثة الأنبياء ، و تارة بأنهم أولياء الله .
و كأنه عندهم صكّ تعيين إلهي سمّاهم الله تعالى بموجبه أوصياء على دينه ، و حرّاساً على جسور العلاقة بينه وبين عباده ، و تراجمة لأوامره و نواهيه ، و مفسرين لآياته و أحكامه ، كما لو كانوا شعباً مختاراً آخر فضَّله الله تكوينياً عن باقي الخلق . إنَّ الممارسات الشاذة لهؤلاء جعلت من حكمة الإسلام مرادفة للإرهاب و العنف . و هؤلاء لا ينطبق عليهم تسمية رجال دين ، لأنّ رجال الدِّين هم رجال العلم حصراً .
فالإسلام في جوهره علم و عقل و منطق و التزام . و كيف يتعارض الإسلام مع العلم و أوَّل آية في التنزيل الحكيم هي أمرٌ بالعلم ( اقْرَأْ بِاسْم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) /العلق ١/ . و الاستزادة منه أمر آخر ( وَقُل رَّبِّ زِدْني عِلماً ) /طه ١١٤/ . و الذي حمل الأمانة و بلَّغها إلى الناس ، الحبيب المصطفى (ع) ، وصف نفسه بالمعلِّم بقوله : ( إنما بُعِثتُ مُعَلِّماً ) . وهل خاطب القرآن الكريم إلّا قوماً يعلمون و يفقهون و يعقلون و يتفكرون ؟
هكذا دعوة إيمانية برهانية تحتاج لعلماء متخصصين في مختلف العلوم المادية ، من المؤمنين ليشرحو لنا كلٌّ في حقل اختصاصه الآيات القرآنية المتعلِّقة بالخَلْق ( الوجود ) من كتاب الله . نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى دعاة متفقهين في مختلف فروع العلوم المادية التي تطرّق إليها القرآن الكريم و التي رسمت الخطوط الرئيسية لهذه العلوم و لم تفصّلها ، و لا يستطيع شرحها ، إلّا كل متخصّص في علم معيّن لذلك . فنحن بحاجة :
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ليشرحوا لنا قانون الكمّ و الكيف الذي سمح للإنسان بمعرفة الطبيعة عن طريق التقليم ( التمييز ) ( الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمْ ) / العلق ٤/ . و أن أي تغيّر كمي في الأشياء يتبعه تغيّر كيفي وظيفي : كآية ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى . الَّذي خَلَقَ فَسَوَّى . و الّذي قَدَّرَ فَهَدَى ) /الأعلى ١-٣/ . و القَدَر هو وجود الأشياء بكمها و كيفها معاً . أي أنّ وجوداً كمياً و كيفياً معاً يؤدي إلى هداية الشيء للقيام بوظيفته .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ليشرحوا لنا كيف بدأ الله الخَلْق ( فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ) /العنكبوت ٢٠/ . و كيف أصبح الوجود قابلاً للإبصار حيث قال سبحانه : ( والفَجْرِ . وَ لَيَالٍ عَشْرٍ . و الشَّفْعِ و الوَتْرِ ) /الفجر ١-٣/ . حيث أنّ الفجر هو الإنفجار الكوني الأول ، و ( لَيَالٍ عَشْرٍ ) معناه أنّ المادة مَرَّت بعشر مراحل للتطور حتى أصبحت شفافة للضوء ، و أتبعها بقوله تعالى : ( و الشَّفْعِ و الوَتْرِ ) حيث أنّ أوّل عنصر تكوَّن في هذا الوجود هو الهيدروجين ( مولِّد الماء ) ، و فيه الشفع في النواة و الوتر في المدار . أي بعد هذه المراحل العشر أصبح الوجود قابلاً للإبصار لذا قال سبحانه : ( الحَمْدُ للهِ الَّذي خَلَقَ السَّمَواتِ و الأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ و النُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) /الأنعام ١/ .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ليشرحوا لنا قوانين جدل الكون . كقانون صراع المتناقضات الداخلي في الشيء الواحد . وهو ما يسمى بالحركة الجدلية الداخلية و التي أطلق عليها في بعض الترجمات مصطلح النفي و نفي النفي . و قد أطلق عليها القرآن مصطلح التسبيح : ( سَبَّحَ للهِ مَا في السَّمَواتِ وَ مَا في الأَرْضِ ) /الحشر ١/ . و قوله : ( وَإِن مِّن شَيءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) /الإسراء ٤٤/ و قوله تعالى : ( يُسَبِّحُ للهِ مَا في السَّمَواتِ وَ مَا في الأَرْضِ ) /الجمعة ١ - التغابن ١/ . وكيف أنّ صراع العنصرين المتناقضين داخلياً ، الموجودين في كل شيء يؤدي إلى تغيّر شكل الشيء باستمرار . و يتجلّى في هلاك شكل ذلك الشيء وظهور شكل آخر . و في هذا الصراع يكمن السر في التطور و التغيّر المستمرين في هذا الكون ما دام قائماً .
و قانون الجدل الخارجي بين شيئين ( قانون التكيّف ) ، حيث يظهر جليّاً أنّ العلاقة التقابلية بين زوجين هي علاقة خارجية بين شيئين تقوم على التأثير و التأثّر المتبادل بينهما . و قانون جدل الأضداد في ظواهر الطبيعة .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الفيزياء و الأحوال الجوية لنفهم عظمة و معجزة و إعجاز القرآن في عشرات الآيات الكريمة ، أمثال : (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً و هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) /الأنبياء ٣٢/ . (و السَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) /الطارق ١١/ .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم طبقات الأرض و المحيطات لنفهم بالعمق الأبعاد العلمية الإعجازية في قوله تعالى : ( و الأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْع ) /الطارق ١٢/ . ( و الأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) /الشمس ٦/ . ( و البَحْرِ المَسْجُورِ ) / الطور ٦ / . ( وَ بَنَيْنَا فَوقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) /النبأ ١٢/ .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الفلك ليشرحوا لنا ما معنى ( مواقع النجوم ) و ليبيّنوا عظمة القسم ( فَلَا أُقْسِمُ بِمواقِعِ النُّجُومِ ) /الواقعة ٧٥/ . و لماذا (و إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) /الواقعة ٧٦/ . و كذلك المعنى الإعجازي العلمي في ما يقرب من مئة آية كريمة تطرقت إلى علم الفلك .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في علم الأجنّة و الوراثة و وظائف الأعضاء ليشرحوا لنا معنى الآيات التي تخصّ علم الأجنّة و الوراثة ، و هي عشرات الآيات كآية : ( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِن مَّاءٍ دافق . يَخْرُجُ مِن بينِ الصُّلْبِ و التَّرائِبِ ) / الطارق ٥-٧/ . ( وَ لَقَد خَلَقْنا الإنسانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ) /المؤمنون ١٢/ .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في علم التغذية و الطب الوقائي ، ليشرحوا لنا لماذا حرَّم الله الميتة و الدَّم و لحم الخنزير و اللواط و العلاقات الجنسية الآثمة ...
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في دراسة السلالات البشرية لنفهم عمق و بُعد المرمى في الآيات الكريمة : ( وَمِن آياتِهِ أن خَلَقكُم مِّن تُراب ..) /الروم ٢٠/ .
( هَلْ أَتَى على الإِنسانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لم يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ) / الإنسان ١/ .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في علم الحيوان ، ليشرحوا لنا علمياً طريقة عيش و تخاطب كل دابّة و طائر و كيف أنهم كما أثبت علم دراسة الحيوان ، أمم أمثالنا ( وَمَا مِن دَابَّةٍ في الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلَّا أُمَمٌ أمثالُكُمْ ) /الأنعام ٣٨/ .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في الطب النفسي ، ليشرحوا لنا أسباب وعلاج الأمراض ذات المنشأ النفسي كقوله تعالى : ( و ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فهو كَظِيمٌ ) /يوسف ٨٤/ .
- نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في علم الإحصاء ،ليشرحوا لنا معنا قوله تعالى : ( و أحصينا كلَّ شيءٍ عدداً ) ...
- نحن بحاجة لباحثين في علم التاريخ و الآثار ...
- نحن بحاجة لمختصين أكفاءمن المؤمنين ، في القانون الدولي ، و المدني و الجزائي و الأحوال الشخصية ليستخلصوا من حدود الله في الرسالة المحمدية ، عظمة الأحكام التي جاء بها الإسلام .
فالقرآن خاطب كل العلماء و في جميع حقول الاختصاصات العلمية و حضّهم على تدبّر و تفهّم آياته الكريمة . فهؤلاء العلماء هم من عناهم القرآن الكريم ( بأهل الذِكْر ) أي أهل الاختصاص و لهم الحق كل الحق بتأويل آيات القرآن الكريم و تفسير الرسالة ، كل في حقل اختصاصه . و هؤلاء هم رجال الدِّين حقاً .
وهكذا سيجد المسلم و كل من أراد الإيمان اليقيني بالقرآن الكريم ، البرهان القاطع و الدليل الثابت ، الذي يتناسب مع مستوى علمه و ثقافته .
و هكذا ينتج عن ذلك فكر إسلامي معاصر يحمل كلَّ مقوّمات المعاصرة شكلاً و مضموناً دون الخروج عن المقوّمات الأساسية للعقيدة الإسلامية في أبسط أشكالها و هي الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر . و هكذا نبتعد عن مواقف التشنّج و السذاجة و ضيق الأفق و تكفير الآخر .... و بهذا يتحقق المعنى الحرفي للدِّين ، الذي هو انسجام الإنسان بفكره و عقله مع قوانين الكون و نظام الطبيعة .

س4_هل حان وقت الثورة الحقيقية على العقل العربي ، الذي يبدو أنّ فهمه لرسالة الله بشكلٍ خاطئ قد ولّد الحروب وسالت الدماء وازداد البلاء بالبلاد وكيف تكون خطوات الثورة بحيث يبدأ الناس خطوات متتالية على مسافة من الماضي والحاضر والمستقبل ؟
ج4_إنّ ثقافة أي أُمَّة ليست سوى اللسان المترجم لما هي عليه في الجوانب العلميّة وما يُثمره ذلك في الجوانب الأخرى . وأنه متى ضَعفت هذه الجوانب فلا يُنتظَر للجانب الثقافي وحده أن يقوى على الظهور والإنتشار . فإذا كان الأمر كذلك ، فإنه سيكون من طبائع الأشياء ألَّا يكون لِذي عَوَز سيادة وظهور . ونظراً لفقدان أو افتقار الثقافة العربية للجوانب العلميّة ، فقد صارت مَرفأ للإستيراد لا للتصدير ، وسُوقاً للإستقبال لا للإرسال . ولا يخفى على أحد أنّ العالَم العربي وثقافته يستحمَّان بالعنف ، فالعنف ( بلاسما ) ثقافية ، نستحمُّ بها جميعاً ، وهي أزمة ثقافية أحد تجلياتها سياسي ، والسياسي هو حفيد المُثقَّف . وقد أَظهرت الحرب الحاليّة المُدَمِّرة في بلداننا في شهادةٍ مُعلَنةٍ مُضْمَرَة عن عمق الأزمة الثقافية العربية .
فأين تكمن مواضيع الاعتلال وعدم الاقتدار التي تشكِّل ظاهرة التخلُّف والفَوَات التاريخي عند العرب ؟
العرب لم يكونوا أهل فلسفة أو أهل علوم كلام أو أهل رياضيات ، في زمن بعثة الرسول مجمد(ص) . فكان دورهم أنهم تفاعلوا بكل بساطة مع التنزيل الحكيم ، ففهموا بما بلغهم من أوامر ونواه ، طبقاً لمداركهم وإشكالياتهم الاجتماعية بمختلف صورها القبلية والعشائرية والسياسية والاقتصادية . والتنزيل الحكيم ضمّ بين دفتيه نبوّة محمد (ص) كنبيّ ، ورسالته كرسول . وآيات النبوّة تشرح نواميس الكون وقوانينه وتحتمل التصديق والتكذيب ، وآيات الرسالة تشرح الأحكام والأوامر والنواهي وتحتمل الطاعة والمعصية والرسالة ذاتية ( ومعنى ذلك : أي لا وجود موضوعي لها خارج الوعي الإنساني ، إنما لها وجود في أذهاننا فقط . فإذا فَنيَ الإنسان ولم يبق هناك جنس إنساني فتذهب معه الرسالة التي تحتوي الصلاة والصوم والحج والزكاة وبرّ الوالدين واجتناب شرب الخمر والميسر وتحريم الربا والظلم ، والعدل وكل القيم الإنسانية الفردية والاجتماعية . ولهذا لم يطلق لفظة الحقّ على الرسالة (أم الكتاب) لأنها قواعد سلوك إنساني وليست قوانين وجود موضوعي ( قرآن ) ، أي لا وجود لها في الواقع . وبها أصبح محمد (ص) رسولاً . وهي ليست كلمات الله ولا من نواميس الوجود .
لأنّ كلمات الله هي عين الموجودات وهي حق _ أي لها وجود موضوعي أدركنا ذلك أم لم ندركه ، كالشمس والقمر والأرض والنجوم والكواكب والشجر والحجر والبشر والبحار والكائنات الحيّة ... وهذه كلمات الله وهي عين الموجودات . والرسالة مناط التكليف وفيها القضاء _أي الاختيار الإنساني _ أي أنّ الإنسان يقضي فيها بنعم أو لا ، وله ملء الخيار فيها ((لا إكراه في الدِّين ))
/ البقرة ٢٥٦/ .
أمّا آيات النبوّة ، فهي الآيات المتشابهات التي تخضع لثبات النَّص وحركة المحتوى ، فهي تحمل مطلق الحقيقة في صياغتها ونسبية الفهم من الناس ( أي المطلق في المحتوى والنسبية في الفهم ) . وهذه النسبية إمّا فلسفية أو علميّة أو تاريخية أو مجرَّدة . ويمكن إعادة قراءتها في ضوء الأرضية المعرفية على مر العصور والدهور . وأمّا آيات الرسالة فهي المحكمات ، وهي صالحة لكل زمان ومكان باعتبارها آيات حدودية (أي لها حدّ أدنى وحدّ أعلى ، وليست حديّة _ ورد حكم حَدِّي في الزنا فقط ) ، وحنيفية ( متغيّرة متطورة ) ، قادرة على التطابق بمرونة مع متغيرات الزمان والمكان ، أي أنها قابلة للاجتهاد وللمطابقة مع الظروف الموضوعية المستجدة في المجتمعات الإنسانية ، لذا فلا يكون الاجتهاد إلّا في النص ، أمّا خارج النَّص فافعل ماتشاء
.
لقد اهتم العرب بفهم الرسالة اهتماماً شديداً وأعطوها كل وقتهم وجهدهم وجاهدوا في نشرها بين الأمم ، ولكنهم لم يهتموا بفهم النبوّة (القرآن) . لأنّ النبوّة بحاجة إلى تفرغ ووضع حضاري معيّن وبحث علمي .
إنّ الخطيئة القاتلة التي يرتكبها المسلمون اليوم أنهم لا يفرِّقون بين حقيقة الوجود (النبوّة ) وبين قواعد السلوك الإنساني (الرسالة ) . هذا الموضوع يعتبر من أهم النقاط خطورة وتعقيداً في العقيدة الإسلامية إن لم يكن أهمها على الإطلاق .
إنّ سوء فهم هذا الموضوع جعل المسلمين أناساً متحجِّرين ضيقي الأفق ، وضاع العقل نهائياً وضاع مفهوم القضاء والقدر والحريّة الإنسانية ومفهوم الثواب والعقاب (( المسؤولية )) والجبر والاختيار والتقرير المسبق لعمر الإنسان ورزقه وعمله ...
*فما هي النبوّة ؟*
النبوّة ، من ((نبأ)) أي أخبر ، وهي أنباء عن الخَلْق ( الوجود الكوني ) . وهي مجموعة المواضيع التي تحتوي على المعلومات الكونية والتاريخية ((الحق والباطل )) والتي أخبرنا الله عنها في الكتاب . وعليه فالكتاب ( المصحف ) يحوي كتابين رئيسيين :
*الكتاب الأول 😘 النبوّة ، ويشتمل على بيان حقيقة الوجود الموضوعي ، ويفرِّق بين الحق والباطل ، أي الحقيقة والوهم . وآياتها تشكِّل أكثر من 85% من آيات المصحف الشريف .
فالنبوة علوم . من هنا قال النبي (ص) : ((العلماء ورثة الأنبياء )) .
*الكتاب الثاني 😘 كتاب الرسالة : ويشتمل على قواعد السلوك الإنساني الواعي ، ويفرِّق بين الحلال والحرام . وهو مجموعة الآيات المحكمات . أي العبادات والمعاملات والأخلاق .
والنبوة هي العقيدة وهي القرآن . وسمّي قرآناً لأنّ القرآن لغة جاء من (( قرأ )) وعلى قول بعضهم من (( قرن )) وكلاهما يعني الجمع والمقارنة . والأساس في اللسان العربي هو فعل (( قَرَن )) . ومن هنا جاء معنى القراءة عند العرب وهو العملية التعليمية ، لأنها لا تكون إلّا بالمقارنة أي مقارنة الأشياء بعضها ببعض ، لذلك لا تقول العرب قراءة إلَّا على العلم كقولهم (( قرأت العلم على فلان )) . وسمّي قرآناً لأنه قرن القانون العام للوجود مع القانون الخاص ومع خط سير التاريخ الإنساني ( القانون العام : هو القوانين العامة الناظمة للوجود كله ابتداء من خَلْق الكون حتى نهاية الكون _ الساعة _ وهي : القوّة الكهرومغناطيسية والقوّة النووية القويّة والقوّة النووية الضعيفة والقوة الجاذبة .. ) و( القانون الخاص : أحداث وقوانين الطبيعة الجزئية وظواهرها وأفعال الإنسان بعد وقوعها . وهو مناط التصرف والمعرفة
ويعمل ضمن القانون العام وهو كلام الله المُحْدَث . مثل : تصريف الرياح واختلاف الألوان وهبة الذكور والإناث والزلازل والطوفان وهي قابلة للتصريف ، وغير مكتوبة سلفاً على أي إنسان وغير قديمة ) . لذا قال تعالى عن القرآن : (( وَقُرآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ على النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ )) /الإسراء١٠٦/ . قال : (( على النَّاسِ )) ولم يقل على الذين اتقوا ، فكلما زادت معاهد البحث العلمي وزاد عدد المتفرغين لهذا البحث وزاد عدد الاختصاصات زاد فهم الناس للقرآن . هذه الشروط لم تكن متوفرة في عهد النبي(ص) ، وهذه الظاهرة وردت في سورة الفرقان بقوله تعالى : (( وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هَذا القُرآنَ مَهْجُوراً )) / الفرقان ٣٠ / . فقوم الرسول هم العرب ، كل العرب . لاحظ قوله تعالى : (( إِنَّ قَومي )) إذ لم يقل : (( إنَّ الذين كفروا من قومي . ولو عنى المسلمين لقال : ( أُمّتي ) لأنّ العرب قومه والمسلمين أُمَّته . هذه الآية تنطبق على العرب بما فيهم الصحابة والخلفاء الراشدين . لأنّ القرآن كان معظمه _ إن لم يكن كله _ غيباً بالنسبة لهم ، ولم يُؤَوَّل أَيّةُ آيةً في زمانهم ولم تكن أرضيتهم العلميّة تسمح لهم بالتأويل _ لأنَّ القرآن يُؤَوَّل ولا يُفَسَّر _ بينما الرسالة تُفَسَّر ولا تُؤَوّل .
فالقرآن علم بالحقيقة الموضوعية (( الوجود خارج الوعي الإنساني )) وفيه قوانين الوجود وقوانين التاريخ . ولهذا فإنّ القرآن ليس له أسباب نزول ، وقد أُنزِلَ دفعة واحدة عربياً إلى مدركات الملائكة المكلفين بهذا الأمر ، وذلك في شهر رمضان ، وفي ليلة القدر ، وبعد ذلك تَنَزَّلَ على قلب الرسول (ص) على مدى ثلاث وعشرين عاماً . فالنبوة ( القرآن ) حقيقة موضوعية مطلقة في وجودها ، وفهم هذه الحقيقة لا يخضع إلّا لقواعد البحث العلمي الموضوعي ، وعلى رأسها الفلسفة وكل العلوم الموضوعية من كوسمولوجيا وفيزياء وكيمياء وأصل الكون والبيولوجيا وسائر العلوم الطبيعية ...
من هنا فالقرآن ( النبوّة ) ليس مناط التكليف ولا يوجد فيه أي أحكام وأوامر تكليفية لأنه حقائق ، لذا فهو مناط القَدَر في قانونه العام ( القَدَر هو وجود الأشياء بكمِّها وكيفها معاً خارج الوعي الإنساني ) ، ومناط المعرفة الإنسانية في القوانين الجزئية ، ومناط المعرفة الإنسانية بالتاريخ . ولمّا كان القرآن هو كتاب الوجود المادي والتاريخي فهو لا يخضع لإجماع الأكثرية حتى ولو كانوا كلهم تُقاة ، ويخضع لقواعد البحث العلمي حتى ولو كان الناس كلهم غير تقاة . فهو لا يحتوي على الأخلاق ولا التقوى ولا الحلال ولا الحرام ولا الصلاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ولا تنطبق عليه عبارة (( هكذا أجمع الفقهاء )) و (( هكذا قال الجمهور )) . إننا في القرآن غير مقيّدين بأي شيء قاله السلف _ إننا مقيّدون فقط بقواعد البحث العلمي والتفكير الموضوعي وبالأرضية العلمية في عصرنا . إنّ الذين اهتموا بنبوّة محمد (ص) كل معاهد الأبحاث العلميّة والجامعات في العالَم ، لأنّ نبوّته هي قوانين الحقيقة الموضوعية المادية والتاريخية ( والتي من خلالها نثبت وحدانية الله تعالى ) ، وهذا ماتهتم به المعاهد والجامعات وما بحث فيه كل فلاسفة العالَم قاطبة .
فتأويل الآية القرآنية هو مطابقتها مع الحقيقة الموضوعية ، أي مطابقتها مع العقل واستنتاج قانون مجرَّد قابل للإبصار فيما بعد . لقد أدّى إغفال هذه الناحية إلى دخول الفلسفة الصوفية في تأويل القرآن ، فحوّلت العقيدة الإسلامية إلى التفكير الخرافي الوهمي . وما زلنا نعيش هذه المأساة إلى يومنا هذا ، حيث ورثنا مسلَّمات عقائدية نظن أنها قرآنية وهي لا تمتّ إلى القرآن بصلة وليست أكثر من مجرّد أوهام .
لذا علينا إعادة النظر بالمسلَّمات التي نظن أنها إسلامية وهي ليست كذلك .
هذه المسلَّمات التي توجهنا ضمن عقلنا الباطن والتي صيغت عليها عقلياتنا الظاهرة ، ولا يمكن أن تُحل هذه المشكلة إلَّا إذا أعدنا النظر في الأطر العقائدية التي ورثناها . ويجب أن تتم إعادة النظر هذه قبل إعادة النظر في الأطر الفقهية التشريعية ، لأنّ حل المشكلة العقائدية يؤدي بشكل آلي إلى حل الأزمة الفقهية . إذ لا أمل لنا في الخروج من أزمة تخلفنا دون حل هذا الإشكال . وعندما نتحدث عن العقيدة فإنما نتحدث عن النبوّة أو القرآن . فنحن إذا تعاملنا مع التنزيل الحكيم على هذا الأساس ، استطعنا حل المشكلات المعضلة في الإسلام ، كإشكالية الفقه في التشريع ، والإشكالية الفلسفية في علم الكلام . إننا بحاجة إلى فلسفة إسلامية معاصرة ترقى إلى كل الطروحات الفلسفية المعاصرة أولاً ، وبحاجة إلى فقه معاصر ثانياً ، وإلى ارتقاء في مجال التشريع لا في مجال الشعائر ثالثاً ، وبهذا تنحل إشكالية الحريّة والدولة والمجتمع والتقدم والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني . ولا يغرنك ما نراه ونسمعه اليوم ، ويطلقون عليه شعار الصحوة الإسلامية ، فهو مؤشر صريح على استمرار الغفوة . لأنّ أي صحوة وأي ثورة ثقافية لا بدّ أن تبدأ بصحوة وثورة في الفكر ، تغيِّر المفاهيم وتعيد صياغتها ، وتدعو إلى ترك المفاهيم التي عاشت ضمن خبرات زائلة . فأين بُعْد الصيرورة عند كل الحركات السياسية في الوطن العربي والعالَم الإسلامي ، وهل أرست منطلقاتها النظرية الفكرية في تأسيس الدولة المدنية وضمان الحريات الفردية والعامة ضمن صيرورة جديدة ؟
إنَّ ثقافتنا ذات بُعدين ، لا تحوي بُعْد الصيرورة ، فهي ثقافة مغلقة بالضرورة ، لأنها تتبنى ثقافة أشخاص عاشوا في التاريخ ، فتتجسّد فيها عبادة الفرد وتختزل الإنسانية في شخص أو في جماعة أو في جيل . والإنسان الذي يحمل مثل هذه الثقافة ، إنسان مستبد بالضرورة . إذ لا يمكن لثقافة من هذا النوع أن تستمر إلَّا بالقوّة وبالعنف وبالإكراه ، لأنها تنفي الصيرورة التاريخية وتغيّب العقل وتصادره . وهذا هو الإرث الهام الذي نراه عائقاً في وجه أيّ تقدم أو نهوض عربي إسلامي فاعل . وليس باستطاعة الأمّة أن تعبِّر عن ذاتها من خلاله ، أو تنهض ، أو ترتِّب مواقفها في وجه الضغوطات الداخلية والخارجية .
ونحن ندعو اليوم لقراءة معاصرة للتنزيل الحكيم ، واعين أنّ الماضين في دروب الآبائية سيكيلون التهم ، ويمضون إلى أبعد من ذلك ، فيكفِّرون التطور والمتطورين ، ويطالبون لتحقيق صلاحية الرسالة ، بإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء ، وبعودة الناس إلى صورتهم التي كانوا عليها في القرن السابع ناسين أن سيرورة التاريخ لا تتوقف .ويمكن أن نشير إلى أنّ مواقع الاعتلال وعم الاقتدار ، تكمن في جُملة من العوامل التي تشكِّل _ مجتمعةً _ ظاهرة التخلُّف والفوات التاريخيين ، ومن أهم هذه العوامل :
ضعف الروابط الداخلية ( بسبب هشاشة التفكير الديني وتكفير الآخر ) ، والتبعيّة العلميّة والتكنولوجية والاقتصادية ، والإنغلاق والتغني الخطابي بالتراث وبالماضي العظيم
.
ونحن اليوم قادرون على الخَلْق والإبداع والمواجهة متى صار هذا الأمر الجليل موضع الهَمَّ والاهتمام من قِبَل الأجهزة التشريعية والتنفيذية في أي بلد عربي ، وذلك باتخاذ مجموعة إجراءات أهمها : ربط الوصول إلى غاية معيّنة من التقدم في العلم والتقنيّة بمدة زمنية محدّدة . وتخصيص المال الكافي بإعتبار العلم هو الاستثمار الحقيقي الذي يحدِّد ملامح المستقبل . وإشعار القائمين على دوائر البحث العلمي في الجامعات ومراكز البحوث وما يماثلها بالتقدير المعنوي والاجتماعي من قِبَل الدولة والمجتمع .
*الخلاصة
الانتقال من حالة العجز إلى حالة القدرة ، فإنّ مناطه الاستحقاق والجدارة ، وما سبيل الجدارة واستحقاق الحق ، كالاستقلال الوطني بمعناه الفعلي ، والاستقلال الاقتصادي ، والرّقي العقلي والثقافي والعلمي ، إلّا التحضّر . وأمّا التحضّر ، فَسُرّه في عمليةٍ اجتماعيةٍ شاملة عمادها التربية ووسائلها تنمية القُدُرات العقلية وإعمال العقل في السياسة ، والإندماج في تاريخٍ كونيٍّ للحداثة لا مَفَرّ لنا منه إن كان لنا أن نتخطّى الأزمات المتتالية التي تعصف بمجتمعاتنا ونُظمنا السياسية وكياننا القومي . فالقدرة العلمية هي الأُمُّ الوَلُودُ لكلِّ الجوانب المؤدية إلى القوّة ، وبالتالي الانتشار . ولا يُنتظَرُ من أُمَّةٍ لا تملك هذه القدرة ، بل ولا تحاسب نفسها على فقدِها أن يكون لثقافتها ظهور أو انتشار .
وعندما نتحدث عن العلم ، ندرك أن العلم إمام العقل ، ولا عقل بلا علم . وإنّ الدِّين الحق ، يجعل للعقل الكلمة الفاصلة العليا في معرفة الحقّ ..
وما دام في مجتمعاتنا ، أعلام في الفكر والعلم والأدب والثقافة ، يكبر الأمل بالقدرة على تغيير الواقع السياسي الذي عُزل عنه الإنسان العربي المسلم في المراحل السابقة ، وأن يزرعوا في وجدان هذا الإنسان من جديد بذور الوعي السياسي باعتباره مسؤولاً عن كل الواقع السياسي الذي يعيشه . أنت من يصنع واقعك ، فإن كان واقعاً سيئاً فالسوء جاء منك ، وإن كان واقعاً حسناً هو أيضاً منك ، ولذلك لابدّ أن يتحمَّل الإنسان مسؤولية وجوده متّحداً مع وجود الآخرين ، بحيث لا يُعتبر حرّاً في أن يهين نفسه أو يذلّها ، أو يسقطها . لست حرّاً أن تكون ذليلاً ، لأنك لا تملك أن تذل ما كرّمه الله . صحيح أنّ الله أعطاك الحريّة ، ولكنه سبحانه لم يعطك الحريّة في أن تخرج من إنسانيتك ومن عمق نفسك ، واحترامك لوجودك في ذاتك ، كما هو في ذات الآخرين .
علينا أن نعلم أنّ الواقع في الخارج هو صورة الواقع في الداخل . غيِّر نفسك تغيِّر حركتك في الواقع ،تغيِّر الواقع من خلال حركتك . غيِّر نفسك تغيِّر التاريخ باعتبار أنّ التاريخ هو صورة إنسانيتك التي تنطلق من عمق فكرك وتصوراتك وانطباعاتك وانفتاحك على الواقع .
*وبالختام ،* وفي هذا الزمن الرديء ، وفي ظل خطاب يحاول ضغط العالَم واختصار التاريخ ، وحذف معادلة التطوّر البشريّ .. يبقى تشكيل مناخ مناسب من أجل نهوض عربيّ إسلاميّ مشرق ، بحاجة إلى زمن ليس ببعيد . وليس هناك يأساً في المسألة ، ما دامت دائرة النور تتّسع ..

س٥: مقولة للإمام علي كرم الله تقول[بشر المؤمن في قلبه، وبشر اللئيم في وجهه، ومقولة[ابتسم ولو القلب يقطر دماً]
ماذا تحدثنا فضيلتك عن تلك الأقوال!!؟
Cج٥_ : هذه المقولة المنسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب (ع) ، لا أعرف لها إسناد ، ولا أعرف المصدر . لكنها دعوة رائعة إلى التبسّم الذي يعبِّر على نحو مباشر عن سعادة بوجود من يبتسم له و يظهر دفء المشاعر ، كما يولِّد الألفة و الوئام بين الناس .
و الإمام علي (ع) ، يصف المؤمن بقوله : (( المُؤْمِنُ بِشْرُهُ في وَجْهِهِ ، وَ حُزْنُهُ في قَلْبِهِ ، أَوْسَعُ شَيءٍ صَدْراً .. )) /نهج البلاغة - الحكم ص٥٤١ - طباعة إيران/ .
فالابتسامة و الاستبشار و البشاشة أمور مطلوبة من أجل تلطيف و تهيئة المناخ لانفراج الأسارير ، و حُسن سماع الآخر لك ، و تبادل الأفكار . فالناس ليسوا في حاجة إلى مكدرات إضافية ، لأن العبوس تجاه الآخر ، هو شكوى . و الشكوى مهما يكن نوعها ، هي اعتراف علني بضعف الشاكي و جهله تجاه ما يشكو ، و باستسلامه الباطني للانخذال و القنوط . ولو كانت له الثقة بالتغلُّب على ما يشكوه ، ولو في المستقبل البعيد ، لما شكا .

س٦ : في قلب كلّ إمامٍ عظيم رسالة يريدها أن تصل للجميع بكل طوائفهم و بكل بلدان العالم ... ماهي رسالة الشيخ العالم محمد أمين علي ؟
ج٦_هي أُمنية طويت عليها جوارحي منذ أن انفتح قلبي للنور . و هي أن ينفض مجتمعنا العربي عنه خبال الأجيال ، و يفلت من شباك الدعاوات الخسيسة و المهاترات السخيفة التي تبثّ سمومها في الأرض بغير انقطاع . ومن الطقوس الجافّة و التقاليد البالية ، و يعودَ فيرتفع مشعل الهداية في العالم ، و يسلك به الطريق المؤدّي من الموت إلى الحياة ، ومن العبودية إلى الحريّة ، ومن الحرب إلى السلم ..
أن نبدأ بصحوة وثورة في الفكر تغيِّر المفاهيم و تُعيد صياغتها . و ندعو إلى ترك المفاهيم التي عاشت ضمن خبرات زائلة . فمجتمعاتنا لا زالت مجتمعات مُسَطَّحة ذات بُعدين ، بُعد الكينونة لأنها موجودة فعلاً ، و بُعد السيرورة لأنها ما زالت موجودة تاريخياً . أمّا بُعد الصيرورة عندها فمفقود ، فقدت معه الغائية في الحياة الدنيا ، و أصبحت مجتمعات ضعيفة ذليلة ، تستمد قواها من نقاط تطور لحضارات أخرى تسير على محور البُعْد الثالث .
رسالتي هي رسالة إنسانية ، جناحاها المحبّة و السلام . رسالة الأخوّة و الشراكة في هذا العالم . و كل دِين لا يجعل للعقل الكلمة الفاصلة العليا في معرفة الحق ، لا نرضى به ديناً . و إنما رسالة الدِّين ، هي تمهيد السبيل للإنسان للتغلُّب على الحيوان ، بالإنعتاق من ربقة الغريزة ، و الإفلات من عقال البهيميّة . ثم النهوض بالإنسان إلى التشبّه بالإله حيث العلم ، و الأخلاق ، و الحرية ، و الجمال ، و الإخاء ، و المساواة ، و الحبّ و السلام .
هكذا علَّمنا أنبياؤنا ، و بمثل ذلك بشَّرونا .




1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى