عبدالمجيد يوسف - الأخذ عند ابن الأثير

...أمّا ابن الأثير فقد اهتمّ في المثل السّائر بآليات توليد الأدبيّة في النّصوص ووضع لذلك تصوّرات عدّة، وميّز بين المُبتدِع والمُسترِق. والمُلفت لديه أنّه أدرج في إطار الابتداع قسما يعود فيه صاحبه إلى النّاجز من النّصوص (وأرفعها في نظره القرآن ) للأخذ منها و تحويل سياقاتها. و من هذه السّبل المولّدة للأدبيّة التّضمين الذي هو عنده ضربان : الأوّل هو ما عناه ابن منظور و عناه غيره من الترابط بين البيتين و الثاني هو " أن يُضمّن الشّاعرُ شعرَه و النّاثرُ نثره كلامًا لغيره قصد الاستعانة على إتمام المراد و تأكيد معناه، ولو لم يذكر ذلك التّضمين لكان المعنى صحيحا لا يحتاج إلى إتمام" .
فالملاحظ عند ابن الأثير هو إشارته إلى استجلاب نصّ غائب قصد إيداعه في نصّ ماثل أو لاحق ولم يعتن بالكيفيّة التي يقع بها الإيداع و لا بطبيعة النّصّ المجلوب، لكنّه اعتنى بوجوهٍ من مُمارسة التّعالق بين النّصوص ليست بارزة عند غيره، فهو قد تجاوز جنس الشّعر إلى النّثر وهو ما يقرّب الظّاهرة من الإطلاق دون التّقيّد بالنّظْم كما هو الأمر لدى أصحاب الموازنات والنّقّاد البلاغيّين ممّا ينمّ عن مفهوم موسّع للأدب يشمل الأجناس النّثريّة التي يَلحقها ما يلحق النّظم من أساليب التّنميق والصّنعة.... ويستخلص من الشّاهد أيضا اهتمامُ ابن الأثير بالتّضمين باعتباره فِعلَ كتابة يتحسّس المُنشِئُ بمقتضاه نصيبَ ما كتب من الأدبيّة ويطمح إلى تجاوز الحاصل من ذلك فيستعين بمُنجَز غيره. فمن ناحية تبدو عمليّة التّضمين ناتجة عن فِعلٍ تقييميّ واع بالعمل الذّاتيّ وليس طفرة من طفرات الذّاكرة المتسرّبة من المقروء إلى المكتوب، ومن ناحية ثانية لا يبدو من قول ابن الأثير أيّ تقييم أخلاقيّ مناهض للعمليّة، فالتّنافذ بين النّصوص وأخذُ بعضها عن بعض عملٌ مشروع بل مستحبّ عنده ومنصوح به. ويُستنتج من مَثَلٍ ضربه وتمثيلٍ مَثَّله بنفسه من استشهاده بالقرآن في مكاتباته واقتباسه منه أنّ الكاتب يعمد إلى أمّهات النّصوص المشهود برفعتها وقيمتها البلاغيّة فيستعين بها على الإنشاء. ومن ناحية ثالثة يبيّن منزلة النّصّ المُضمّن وحدودَ اشتغاله وغايته، فهو عمل زائد عن حاجة التّبليغ، فائض على مرتبة المعنى، أيْ عن مرتبة القول الصّحيح، يطلب به المُضمِّن ما يتجاوز هذه المرتبة إلى ما فوقها وهو مرتبة القول البليغ. ولعلّ الشّاهد يسوّغ لنا القولَ بأنّ ابن الأثير يجعل التّضمين الوسيلة الوحيدة لبلوغ القولِ هذه المرتبةَ العليا من البلاغة أو ما نسمّيه اليوم بالأدبيّة مثلما يتجلّى وعيُه بوجود مرتبتيْن للكلام الأدبيّ: ما يحصُل بالإنشاء المجرّد المنسوب إلى المُنشئ وما يحصُل بتضمين المُنشئ قولـَه شيئا من نصوص مشهود بمنزلتها الرّفيعة.
ولعلّ المعالجة الضّافية والتّناول الواسع للظّاهرة المدروسة هو ما نجده في كتاب العمدة لابن رشيق القيروانيّ حيث أفرد للتّضمين بابا خاصّا ولم يدرسه ضمن السّرقات بل أقصاه منها صراحة. والسّبب فيه أنّ التّضمين عنده معلَن صاحبُه، منسوبٌ إلى كاتبه وأنّه يؤخذ على علاّته دون تصرّف. فالتّضمين عنده مرادف للشّاهد. فتصرّفات المُضمِّن لا تمسّ البنية التّركيبيّة للنّصّ الوافد إلاّ بالاجتزاء كتضمين قسيم من بيت، أو تقديم وتأخير كتقديم العجز على الصّدر. أمّا التّصرّف الأوسع فهو في تحويل السّياق، كنقل البيت من الهجاء إلى الغزل أو من الغزل إلى الهجاء الماجن .
فهذا شكل من التّضمين لا يتجاوز مفهومه عمليّة الإيداع والاحتواء أيْ أنّه يتوقّف في حدود المدلول المباشر للّفظ ولا يرقى إلى مستوى اصطلاحيّ، وعلى هذا فإنّ التّضمين عند ابن رشيق لا يدخل تحت طائلة المصادرة القائلة بأنّه ملفوظ غير معلن مزروع في ملفوظ آخر.
لكنّ ما يدخل تحت طائلة هذه المصادرة بدرجة واضحة هو ما أثبته أبن رشيق في العمدة في باب السّرقات ونسبَه إلى أستاذه عبد الكريم النّهشلي تعريفٌ للسّرق مطابقٌ لما نقصده اليوم اصطلاحا بالتّضمين فقال: "قالوا: السّرق في الشّعر ما نُقل معناه دون لفظه و أُبْعِدَ في أخذه " فالتّعالق الذي ندعوه تضمينا و عيّنه النهشلي و ابن رشيق بالسّرق ممارسة تتعلّق بالبُنى الدّلاليّة دون اللّفظيّة، وهو أمر يجعلها أقرب إلى النّقد الفيلولوجيّ منه إلى اهتمامات فرع من البلاغة هو البديع .....




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى