يعتبر الفردوسي، أبو القاسم: "329 – 411 هـ، 933 – 1020 م" (1) أعظم رواد الشعر الحماسي الفارسي، وتعتبر الشاهنامة التي نظم فيها تاريخ وأمجاد وأساطير الفرس، منذ فجر تاريخهم، أعظم ملحمة كتبها شاعر شرقي، وأضخم ما ظهر في العصر الوسيط من ملامح في العالم.
بدأ الفردوسي نظم ملحمته العظيمة، التي تقع في حوالي ستين ألف بيت من الشعر، في العهد الساماني، وانتهى من نظمها في العهد الغزنوي، أيام السلطان محمود، واستغرق نظمها حوالي خمسة وعشرين عاما (2).
ولا نزعم أننا سنحيط في هذه العجالة بشاهنامة الفردوسي أو بشخصيته بحثا وتحليلا، وإنما نجد أننا مضطرون إلى سوق حديث جد مقتضب عن الملحمة وصاحبها، عن موضوعها والبواعث التي حفزت الشاعر على نظمها، وهدفنا من ذلك يقتصر على تحديد الإطار الخاص بالمشهد الذي ننقله، فما هو الباعث الأساسي الذي وجه الفردوسي إلى نظم ملحمته؟ وما هو موضوع هذه الملحمة وما المادة التي استغلها فيها؟ وما هي الغاية التي كان الشاعر يرمي إليها وراء عمله الضخم؟
أما عن الموضوع فهو تاريخ الفرس، قديمه وحديثه، وأما إعداده فهي الأحداث التاريخية الفارسية منذ أقدم العصور إلى العهد الغزنوي في القرن الرابع الهجري، بالإضافة إلى كل رصيد الفرس من الأساطير والأخبار الميثولوجية.
أما الباعث والهدف، فأرى أن من اللازم للإجابة عن السؤالين أن نربط هذه الإجابة بالأحداث التاريخية، والحالة الاجتماعية والسياسية التي عايشها الشاعر.
فقد بدأ الفردوسي نظم ملحمته في العهد الساماني، وهو عهد أفلح فيه الفرس في إحياء مجد أمتهم، فحققوا الاستقلال في الحكم، وبعثوا الشخصية الفارسية بأن ارتدوا إلى اللغة الفارسية كلغة رسمية في شؤون الإدارة والفكر والفن كلها، وهو حلم ظل يراودهم منذ الفتح الإسلامي، ولكنهم غلبوا على أمرهم طبلة عصور ازدهار الحكم العربي، سواء تحت الأمويين أو العباسيين، وليس يخاف ما خاض الفرس من معارك عرقية، مستغلين في ذلك جميع مناحي النشاط الفكري والحضاري، في المنافحة عن حضارتهم العرقية، والافتخار بأصالتها، وهو أمر حفظته لنا كتب الأدب والتاريخ والسير في كلتا اللغتين، العربية والفارسية، تحت اسم "الشعوبية" وقد كان السامانيون من أشد الفرس تعصبا لعرقهم وحضارتهم ولغتهم لدرجة أن جدهم سامان ظل يحتفظ بديانته الفارسية في ظل الإسلام، حتى وهو عامل على بلخ من طرف "أسد بن عبد الله القشري" أمير خراسان في العهد الأموي المتأخر، ولم يسلم إلا على يد المأمون العباسي عندما كان واليا لأبيه على خرسان.
عن هذا الرجل تنحدر الأسرة السامانية التي استجدت مجد الفرس واستحيت لغتهم، وبعثت شخصيتهم، فانبعث معها تحمسهم واعتزازهم واحتدت عصبيتهم، فكان طبيعيا أن يبدأ الفردوسي نظم ملحمته في ظل هذه الدولة، تمشيا مع الحماس المتهيج في أمته، وسعيا منه في الإسهام في بناء مجد أجداده انطلاقا من تذكير أحفادهم بهم، فخلد هذه الأمجاد في هالة من التقديس والإجلال، التحمت فيها الحقيقة التاريخية بالأساطير الميثولوجية عبر أربعة آلاف سنة من تاريخ الفرس، ولعل غزارة المادة التاريخية، وغنى الميثولوجيا الفارسية، قد تضافرت مع عبقرية الشاعر وقدرته على التعبير، وتضافر معها إيمانه الحار بعظمة أمته، وشعوره بأنه يؤدي بنظم ملحمته واجبا وطنيا نحو أمته التي بخستها "العنصرية" العربية حقوقها، وحاولت "طمس" معالمها حينما "استعمرت" العربية إدارتهم وحضارتهم وفكرهم.
أصل من هذا إلى أن أبرز حافز للفردوسي كان "شعوبيته" (3)، وقد انتبه القدامى انقسم لهذا مضوا على أن الفردوسي "نظم ملحمته في ستين ألف بيت، وتحرى فيها إلا يذكر لفظا من أصل عربي".
هذا بالرغم من أن بعض الباحثين ينفون هذه الغاية عن الفردوسي، وينصون على أن ألفاظا كثيرة من أصل عربي قد تسربت إلى نص الشاهنامة، ويقررون أن غاية الفردوسي من علمه الضخم كانت هي الجائزة التي كان يقدر أن تكون كبيرة تسمح له بتجهيز ابنته (الوحيدة) وإذا كان معنى (تجهيز ابنته الوحيدة) إعداد جهاز عرسها فإن سؤالين اثنين يلحان على: كم كان عمر الفتاة عندما فكر الأب في تجهيزها وبدأ ينظم؟ وكم يصير عمرها بعد أن يقضي الشاعر خمسة وعشرين سنة في النظم؟
- * -
كان أمل الفردوسي أن يرفع ملحمته إلى الملك السامان، المعتز بفارسيته والمتعصب بها، لكن الأسرة السامانية سقطت، وخلفتها الأسرة الغزنوية، قبل أن يتم الشاعر ملحمته، والأسرة الغزنوية من أصل غير فارسي، ومحمود (4) الغزنوي لم يكن يهتم كثيرا للشعر، بالإضافة إلى أن الحسدة حقروا عمل الفردوسي عنده، وأوغروا قلبه عليه بأن ذكروه بتشبعه ورافضته، فلم ينل الفردوسي إلا 20 ألف درهم جزاء عمله الضخم، واحتدمت مراره الخفية في صدره "فدخل حماما وشرب فقاعا ثم قسم الدراهم بين الحمامي والفقاعي" وفر خوفا من بطش محمود الغزنوني، على أن محمودا ندم فيما بعد، وأراد أن يجازي الشاعر العظيم، فبعث إليه بستين ألف دينار، "دينار عن كل بيت"، لكن الجائزة لم تصل إلى الشاعر، فقد دخلت هي من بوابة، وجنازته تخرج من بوابة أخرى"، ودفن الفردوسي خارج مدينة طوس، حيث توفي، وقد امتنعت ابنته عن قبول جائزة أبيها فأنشئ بها "رباط" بين مرو ونيسابور حسب ما ترويه بعض المصادر.
والمشهد هو خاتمة القصة المشهورة تحت عنوان "قصة رستم وسهراب".
وتتلخص القصة في أن "رستم" بطل فارسي له قيمة في تاريخ الدولة الساماتية، ينحدر أصله من سامان، وأبوه "درزال" أيضا كان من الأبطال المرموقين.
خرج "رستم" يريد الصيد فأضاع حصانه وظل يتعقب أثره إلى أن صار إلى مدينة تركية على حدود إيران، نزل ضيفا على ملكها، وكانت لهذا الملك ابنة معجبة ببطولة "رسم" وشجاعته، فتعلقت به، وسعت إليه، فتزوجها خفية، ثم رحل إلى بلده بعد أن عثر على فرسه.
ومضت الأيام فوضعت الأميرة التركية طفلها "سهراب" ثمرة لقائها مع "رستم"، وورث الابن بطولة وشجاعة أبيه، فما أن اكتمل عوده حتى أخذ يحارب الملوك بحثا عن أبيه الذي أفاضت أمه في وصف بطولته، وكان ملك إيران أول ملك يقصد "سهراب" إلى منازلته، وغرضه البحث عن أبيه في إيران، ويسمع ملك إيران بغزو "سهراب" لأراضيه فيكلف "رستم" بإمارة جيش لرد الهجوم.
ويلتقي البطلان، كل منهما يجهل حقيقة الآخر، وينسى سهراب أن يظهر العلامة التي أعطته أمه إياه كوسيلة ليتعرف "رستم" بواسطتها على والده.
ويتقابل البطلان يومين دون أن يهزم أي منهما، وفي اليوم الثالث يقترح (سهراب) الصلح، لكن (رستم) يرفض، ويستأنف القتال فينهزم (رستم)، لكن (سهراب) يتردد في قتله، ويفلت (رستم) بحيله، وفي كرة ثانية ينهزم (سهراب) فيتق رستم صدر ابنه بخنجره.
هذا ملخص القصة، والمشهد الذي نعربه هو المشهد الأخير،خاتمة القصة حين تنقل جثة (سهراب) وعدته إلى أمه، وتخبر بأن قاتل ابنها هو (رستم) وليس يعلم أحد غيرها أن (رستم) هو والد (سهراب).
وقبل تقديم المشهد أحب أن أشير إلى أن تعريبه تم سنة 1967، تحت إشراف، وبإيعاز من الدكتور عبد اللطيف السعداني، أستاذ اللغة الفارسية في جامعة محمد الخامس:
وأخبر الأم: "سهراب البطل
بسيف رستم أبيــه انقتـــل"
فأعولت وقدت ما ترتــدي
على فقيدهـا، فلــم يرشـــد
تنسخ تارة دمــوع الدمــاء
وتارة كانت تعاني الغمــاء
لوت على الضفيرة الأثملا
واقتلعته، شعرها المرســلا
وهي تهتف: يا روحي الظمي
إليك رأسي في الثرى والدم
عيناي كانتا بكــــل ممــــر
عن رستم وابني ترعان الخبر
ما كنت أنتظر من مخبري:
"رستم غال ابنه بالخنجــــر"
أما أثار العطف في الوالد
بالقامة القرعاء والساعــــد
كم ذقت في تربيته من سهر،
ونلت فيه كل حلــو ومــــر
ها هو ذا في دمه قد غرق
تلف جسمه الطهور الخرق
من ذا الذي يكون لي مؤنسا
ويسعف القلب بليل الأسى؟
والهفتي لمقلة في الثرى
وملكها أغلى قصور الورى
يا بطلي، نزحت ترجو أباك،
فنالك القبر بعــز صبــــاك
من قبل أن يستل من غمده
خنجره، صبــه في كبـــــده
علامي للأب لم تنجـــــل
لو أنــــه رآهـــا لم أتكـــــل
أعطتك أمك دليل الأب
علام لم تبـــده؟... لم أكــذب
قولها، وأظفر مرسلــه
تفترس الخد لفـــرط الولـــه
أنينها والدم في خدهـــا
أبكى جموع الناس من وجدها
وسقطت على الثرى في ألم
كميت أو مشتــك لـــوث دم
واستيقظت فعاد طيف ابنها
يثير ما نهتـــه من حزنـــها
ضمت حصانه إلى صدرها
والناس يعجبون من أمرها
تلثمه في الرأس والناظر
ودمها يجــري على الحافــز
وعانقت لباسه الملكي
تخال أن على أبنها تتكـــي
وجمع عدته في ركام:
قوسه والدرع وأغلى حسام
وسرجه وترسه واللجام،
وجعلت تنطحه في احتــدام
والتفعت بتوبه الأزرق
فدمه عليـــه طــهر بقـــي
وعاشت من بعد "سهراب" سنة
تبكيه، ما ذاقت بليل سنـــة
ثم قضت، من بعد، من حزنها
وسمت الروح للقيـا ابنهـــا
- * -
أعطاك نويته يوما أبـــوك
لا عجب اليوم إذا غيبـــوك
السر خلف الكون لن يظهرا
يا أعمى لا تطلبه بين الثرى
أضعت عمرك أدراج الرياح
والسر سيستحيل فيه انفتاح
فاربا بنفسك عن حب الدنى
فهي لا تساوي هذا الضنى
محمد عبد الله بن دفعــــة
بيـــــن العلـــم والعمـــــــل
قال ميمون بن مهران: لو أن أقصر كم علما عمل بما يعلم لدخل الجنة، ما منكم إلا من يعلم أن الصلاة خير من تركها، والأمانة خير من الخيانة، والصدق خير من الكذب، والوفاء بالعهد خير من نقضه، والصلة خير من القطيعة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1) اعتمدنا في هذه العجالة على الموسعة العربية الميسرة، وعلى كتاب "الأدب الفارسي" تأليف الدكتور محمد محمدي، أستاذ الأدب العربي بجامعة طهران، وخاصة الفصل الخاص بالفردوسي (من صفحة 214 إلى صفحة 228) وهو أصلا محاضرة ألقاها الدكتور على أكبر فياض عميد كلية الآداب بجامعة مشهد، وذلك في جامعة القاهرة.
وأخيرا على المحاضرة التي ألقاها الدكتور عبد اللطيف السعداني بكلية الآداب.
2) من غريب الصدفة أن المستشرق الألماني نودلكه استغرق خمسا وعشرين سنة في نقل الشاهنامة إلى اللغة الألمانية، (محاضرة الدكتور السعداني).
3) رأي خاص في باعث (الشاهنامة) ربما كان مغامرة، لكن النصوص التي وقفت عليها تؤيده.
4) إليه رفع الفردوسي "الشاهنامة" لكن ضآلة المكافأة جعلته يهجوه بمائة بيت من الشعر لكن "شهريار" ملك طبرستان أقنعه بمحو الهجاء وتنبأ له بأن السلطان محمودا سوف يندم ويجازيه الجزاء الذي يستحقه.
دعوة الحق
136 العدد
بدأ الفردوسي نظم ملحمته العظيمة، التي تقع في حوالي ستين ألف بيت من الشعر، في العهد الساماني، وانتهى من نظمها في العهد الغزنوي، أيام السلطان محمود، واستغرق نظمها حوالي خمسة وعشرين عاما (2).
ولا نزعم أننا سنحيط في هذه العجالة بشاهنامة الفردوسي أو بشخصيته بحثا وتحليلا، وإنما نجد أننا مضطرون إلى سوق حديث جد مقتضب عن الملحمة وصاحبها، عن موضوعها والبواعث التي حفزت الشاعر على نظمها، وهدفنا من ذلك يقتصر على تحديد الإطار الخاص بالمشهد الذي ننقله، فما هو الباعث الأساسي الذي وجه الفردوسي إلى نظم ملحمته؟ وما هو موضوع هذه الملحمة وما المادة التي استغلها فيها؟ وما هي الغاية التي كان الشاعر يرمي إليها وراء عمله الضخم؟
أما عن الموضوع فهو تاريخ الفرس، قديمه وحديثه، وأما إعداده فهي الأحداث التاريخية الفارسية منذ أقدم العصور إلى العهد الغزنوي في القرن الرابع الهجري، بالإضافة إلى كل رصيد الفرس من الأساطير والأخبار الميثولوجية.
أما الباعث والهدف، فأرى أن من اللازم للإجابة عن السؤالين أن نربط هذه الإجابة بالأحداث التاريخية، والحالة الاجتماعية والسياسية التي عايشها الشاعر.
فقد بدأ الفردوسي نظم ملحمته في العهد الساماني، وهو عهد أفلح فيه الفرس في إحياء مجد أمتهم، فحققوا الاستقلال في الحكم، وبعثوا الشخصية الفارسية بأن ارتدوا إلى اللغة الفارسية كلغة رسمية في شؤون الإدارة والفكر والفن كلها، وهو حلم ظل يراودهم منذ الفتح الإسلامي، ولكنهم غلبوا على أمرهم طبلة عصور ازدهار الحكم العربي، سواء تحت الأمويين أو العباسيين، وليس يخاف ما خاض الفرس من معارك عرقية، مستغلين في ذلك جميع مناحي النشاط الفكري والحضاري، في المنافحة عن حضارتهم العرقية، والافتخار بأصالتها، وهو أمر حفظته لنا كتب الأدب والتاريخ والسير في كلتا اللغتين، العربية والفارسية، تحت اسم "الشعوبية" وقد كان السامانيون من أشد الفرس تعصبا لعرقهم وحضارتهم ولغتهم لدرجة أن جدهم سامان ظل يحتفظ بديانته الفارسية في ظل الإسلام، حتى وهو عامل على بلخ من طرف "أسد بن عبد الله القشري" أمير خراسان في العهد الأموي المتأخر، ولم يسلم إلا على يد المأمون العباسي عندما كان واليا لأبيه على خرسان.
عن هذا الرجل تنحدر الأسرة السامانية التي استجدت مجد الفرس واستحيت لغتهم، وبعثت شخصيتهم، فانبعث معها تحمسهم واعتزازهم واحتدت عصبيتهم، فكان طبيعيا أن يبدأ الفردوسي نظم ملحمته في ظل هذه الدولة، تمشيا مع الحماس المتهيج في أمته، وسعيا منه في الإسهام في بناء مجد أجداده انطلاقا من تذكير أحفادهم بهم، فخلد هذه الأمجاد في هالة من التقديس والإجلال، التحمت فيها الحقيقة التاريخية بالأساطير الميثولوجية عبر أربعة آلاف سنة من تاريخ الفرس، ولعل غزارة المادة التاريخية، وغنى الميثولوجيا الفارسية، قد تضافرت مع عبقرية الشاعر وقدرته على التعبير، وتضافر معها إيمانه الحار بعظمة أمته، وشعوره بأنه يؤدي بنظم ملحمته واجبا وطنيا نحو أمته التي بخستها "العنصرية" العربية حقوقها، وحاولت "طمس" معالمها حينما "استعمرت" العربية إدارتهم وحضارتهم وفكرهم.
أصل من هذا إلى أن أبرز حافز للفردوسي كان "شعوبيته" (3)، وقد انتبه القدامى انقسم لهذا مضوا على أن الفردوسي "نظم ملحمته في ستين ألف بيت، وتحرى فيها إلا يذكر لفظا من أصل عربي".
هذا بالرغم من أن بعض الباحثين ينفون هذه الغاية عن الفردوسي، وينصون على أن ألفاظا كثيرة من أصل عربي قد تسربت إلى نص الشاهنامة، ويقررون أن غاية الفردوسي من علمه الضخم كانت هي الجائزة التي كان يقدر أن تكون كبيرة تسمح له بتجهيز ابنته (الوحيدة) وإذا كان معنى (تجهيز ابنته الوحيدة) إعداد جهاز عرسها فإن سؤالين اثنين يلحان على: كم كان عمر الفتاة عندما فكر الأب في تجهيزها وبدأ ينظم؟ وكم يصير عمرها بعد أن يقضي الشاعر خمسة وعشرين سنة في النظم؟
- * -
كان أمل الفردوسي أن يرفع ملحمته إلى الملك السامان، المعتز بفارسيته والمتعصب بها، لكن الأسرة السامانية سقطت، وخلفتها الأسرة الغزنوية، قبل أن يتم الشاعر ملحمته، والأسرة الغزنوية من أصل غير فارسي، ومحمود (4) الغزنوي لم يكن يهتم كثيرا للشعر، بالإضافة إلى أن الحسدة حقروا عمل الفردوسي عنده، وأوغروا قلبه عليه بأن ذكروه بتشبعه ورافضته، فلم ينل الفردوسي إلا 20 ألف درهم جزاء عمله الضخم، واحتدمت مراره الخفية في صدره "فدخل حماما وشرب فقاعا ثم قسم الدراهم بين الحمامي والفقاعي" وفر خوفا من بطش محمود الغزنوني، على أن محمودا ندم فيما بعد، وأراد أن يجازي الشاعر العظيم، فبعث إليه بستين ألف دينار، "دينار عن كل بيت"، لكن الجائزة لم تصل إلى الشاعر، فقد دخلت هي من بوابة، وجنازته تخرج من بوابة أخرى"، ودفن الفردوسي خارج مدينة طوس، حيث توفي، وقد امتنعت ابنته عن قبول جائزة أبيها فأنشئ بها "رباط" بين مرو ونيسابور حسب ما ترويه بعض المصادر.
والمشهد هو خاتمة القصة المشهورة تحت عنوان "قصة رستم وسهراب".
وتتلخص القصة في أن "رستم" بطل فارسي له قيمة في تاريخ الدولة الساماتية، ينحدر أصله من سامان، وأبوه "درزال" أيضا كان من الأبطال المرموقين.
خرج "رستم" يريد الصيد فأضاع حصانه وظل يتعقب أثره إلى أن صار إلى مدينة تركية على حدود إيران، نزل ضيفا على ملكها، وكانت لهذا الملك ابنة معجبة ببطولة "رسم" وشجاعته، فتعلقت به، وسعت إليه، فتزوجها خفية، ثم رحل إلى بلده بعد أن عثر على فرسه.
ومضت الأيام فوضعت الأميرة التركية طفلها "سهراب" ثمرة لقائها مع "رستم"، وورث الابن بطولة وشجاعة أبيه، فما أن اكتمل عوده حتى أخذ يحارب الملوك بحثا عن أبيه الذي أفاضت أمه في وصف بطولته، وكان ملك إيران أول ملك يقصد "سهراب" إلى منازلته، وغرضه البحث عن أبيه في إيران، ويسمع ملك إيران بغزو "سهراب" لأراضيه فيكلف "رستم" بإمارة جيش لرد الهجوم.
ويلتقي البطلان، كل منهما يجهل حقيقة الآخر، وينسى سهراب أن يظهر العلامة التي أعطته أمه إياه كوسيلة ليتعرف "رستم" بواسطتها على والده.
ويتقابل البطلان يومين دون أن يهزم أي منهما، وفي اليوم الثالث يقترح (سهراب) الصلح، لكن (رستم) يرفض، ويستأنف القتال فينهزم (رستم)، لكن (سهراب) يتردد في قتله، ويفلت (رستم) بحيله، وفي كرة ثانية ينهزم (سهراب) فيتق رستم صدر ابنه بخنجره.
هذا ملخص القصة، والمشهد الذي نعربه هو المشهد الأخير،خاتمة القصة حين تنقل جثة (سهراب) وعدته إلى أمه، وتخبر بأن قاتل ابنها هو (رستم) وليس يعلم أحد غيرها أن (رستم) هو والد (سهراب).
وقبل تقديم المشهد أحب أن أشير إلى أن تعريبه تم سنة 1967، تحت إشراف، وبإيعاز من الدكتور عبد اللطيف السعداني، أستاذ اللغة الفارسية في جامعة محمد الخامس:
وأخبر الأم: "سهراب البطل
بسيف رستم أبيــه انقتـــل"
فأعولت وقدت ما ترتــدي
على فقيدهـا، فلــم يرشـــد
تنسخ تارة دمــوع الدمــاء
وتارة كانت تعاني الغمــاء
لوت على الضفيرة الأثملا
واقتلعته، شعرها المرســلا
وهي تهتف: يا روحي الظمي
إليك رأسي في الثرى والدم
عيناي كانتا بكــــل ممــــر
عن رستم وابني ترعان الخبر
ما كنت أنتظر من مخبري:
"رستم غال ابنه بالخنجــــر"
أما أثار العطف في الوالد
بالقامة القرعاء والساعــــد
كم ذقت في تربيته من سهر،
ونلت فيه كل حلــو ومــــر
ها هو ذا في دمه قد غرق
تلف جسمه الطهور الخرق
من ذا الذي يكون لي مؤنسا
ويسعف القلب بليل الأسى؟
والهفتي لمقلة في الثرى
وملكها أغلى قصور الورى
يا بطلي، نزحت ترجو أباك،
فنالك القبر بعــز صبــــاك
من قبل أن يستل من غمده
خنجره، صبــه في كبـــــده
علامي للأب لم تنجـــــل
لو أنــــه رآهـــا لم أتكـــــل
أعطتك أمك دليل الأب
علام لم تبـــده؟... لم أكــذب
قولها، وأظفر مرسلــه
تفترس الخد لفـــرط الولـــه
أنينها والدم في خدهـــا
أبكى جموع الناس من وجدها
وسقطت على الثرى في ألم
كميت أو مشتــك لـــوث دم
واستيقظت فعاد طيف ابنها
يثير ما نهتـــه من حزنـــها
ضمت حصانه إلى صدرها
والناس يعجبون من أمرها
تلثمه في الرأس والناظر
ودمها يجــري على الحافــز
وعانقت لباسه الملكي
تخال أن على أبنها تتكـــي
وجمع عدته في ركام:
قوسه والدرع وأغلى حسام
وسرجه وترسه واللجام،
وجعلت تنطحه في احتــدام
والتفعت بتوبه الأزرق
فدمه عليـــه طــهر بقـــي
وعاشت من بعد "سهراب" سنة
تبكيه، ما ذاقت بليل سنـــة
ثم قضت، من بعد، من حزنها
وسمت الروح للقيـا ابنهـــا
- * -
أعطاك نويته يوما أبـــوك
لا عجب اليوم إذا غيبـــوك
السر خلف الكون لن يظهرا
يا أعمى لا تطلبه بين الثرى
أضعت عمرك أدراج الرياح
والسر سيستحيل فيه انفتاح
فاربا بنفسك عن حب الدنى
فهي لا تساوي هذا الضنى
محمد عبد الله بن دفعــــة
بيـــــن العلـــم والعمـــــــل
قال ميمون بن مهران: لو أن أقصر كم علما عمل بما يعلم لدخل الجنة، ما منكم إلا من يعلم أن الصلاة خير من تركها، والأمانة خير من الخيانة، والصدق خير من الكذب، والوفاء بالعهد خير من نقضه، والصلة خير من القطيعة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1) اعتمدنا في هذه العجالة على الموسعة العربية الميسرة، وعلى كتاب "الأدب الفارسي" تأليف الدكتور محمد محمدي، أستاذ الأدب العربي بجامعة طهران، وخاصة الفصل الخاص بالفردوسي (من صفحة 214 إلى صفحة 228) وهو أصلا محاضرة ألقاها الدكتور على أكبر فياض عميد كلية الآداب بجامعة مشهد، وذلك في جامعة القاهرة.
وأخيرا على المحاضرة التي ألقاها الدكتور عبد اللطيف السعداني بكلية الآداب.
2) من غريب الصدفة أن المستشرق الألماني نودلكه استغرق خمسا وعشرين سنة في نقل الشاهنامة إلى اللغة الألمانية، (محاضرة الدكتور السعداني).
3) رأي خاص في باعث (الشاهنامة) ربما كان مغامرة، لكن النصوص التي وقفت عليها تؤيده.
4) إليه رفع الفردوسي "الشاهنامة" لكن ضآلة المكافأة جعلته يهجوه بمائة بيت من الشعر لكن "شهريار" ملك طبرستان أقنعه بمحو الهجاء وتنبأ له بأن السلطان محمودا سوف يندم ويجازيه الجزاء الذي يستحقه.
دعوة الحق
136 العدد