خليل هنداوي - اتجاهات الأدب العالمي في العصر الحاضر وكيف يتجه أدبنا

أيها السادة في هذه الجلسة أحدثكم حديثاً أراد البعض أن يكون جديداً، أو أنا نفسي كنت ولا أزال اطلب الجديد وأُلح في طلبه وأردد بيت الشاعر الزهاوي:

سئمت كل قديم ... حتى سئمت حياتي
إن كان عندك شيء ... من الجديد فهاتِ

ولكن أنى لي أن أعرف حدود هذا الجديد الذي تريدونه وأريده؟ وأنى لي أن أعرف الرجل الذي يستطيع أن يدلني على الجديد الذي يبغيه؟ إنني ما فكرت يوماً في هذا الجديد إلا ذكرت قول حكيم الجامعة: (لا جديد تحت الشمس) ومع هذا أراني كلما استقبلت هذه الشمس وما تحتها رأيت شيئاً جديداً، وما أضيق الحياة لو بقيت حدودها ماثلة لا تتزحزح كما تراها العين!

إني محدثكم حديثاً أرجو ألا تقيسوه بمقياس الجديد، لأننا لا نملك مقاييس صحيحة تفرق بين الجديد والقديم، فقد تعثرون في هذا الحديث على قديم وجديد. وليس هذا كل ما يهمني، وإنما همي أن أوجه عقولكم إلى (نصيب الأدب في حياة الأمم الحاضرة وحياتنا) ومتى ذكر الأدب هرعت وراءه صفوف من الذكريات لا تعد، أو احتشدت حوله جحافل من حياة الناس لا تحصى، لأن حديث الأدب هو حديث الحياة، ومتى كان حديث الحياة تافهاً؟ ومتى كان حديث الحياة يرويه رجل أو يحكم فيه رجل؟

قد يقول البعض: ولم اخترت هذا الحديث الذي إن خص بعضنا فلن يرضي عنه الجل؟ وما هو نصيب الأدب في الحياة الحاضرة حتى تحدثنا عن اتجاهاته وعهدنا الحاضر عهد علم ومادة، لا عهد بضائع كلامية؟ إنني لا أرى رأي من يقول باندحار سلطان الأدب، لأن الأدب، أو قولوا الفن، ليس بشيء غريب عن كياننا، ولا بعنقاء مغرب نحلق وراءها ونريد صيدها، ولا بثوب نرتديه ونطرحه متى نشاء. وأنى لنا أن نهمل الأدب إذا كان الأدب جوهراً كامناً في صميم أنفسنا، أو إذا كانت الحاجة إليه حاجة نفسية تأتي من داخل النفس لا من خارجها؟ ويقول البعض: ونحن لا نجحد قيمة الأدب ولكنا لا نجد فيه الهوة تنفي سأمنا وتملأ فراغنا حين ننتهي من جدنا، نتخذه مسلياً لا قائداً يتصرف بأمورنا، ولكن هذا الأدب قد يكون ضرباً من اللهو يتفكر به قوم قل جدهم ولكن ليس الأدب كله. وكيف يكون الأدب الذي يمثل حياة الناس ويصور هناءهم وشقاءهم، وحيرتهم وطمأنينتهم، ثم يأتي المجتمع يحاول أن يهدم هنا، ويبني هناك، كيف يكون هذا الأدب لهواً تلهون به في فراغكم وهو الأدب الذي ينفذ إلى النفس فيجردها من خرقها الرثة وينشئ لها حياة جديدة وجواً جديداً؟ وإذا كانت رسالة العلم، أن تقرب وسائل الحياة، وتنوع أسباب الرفاه والراحة فان رسالة الأدب من حياة الأمة رسالة تثقيف الروح وتهذيب النفس وصقل العقل. رسالة تنزل منها منزلة الإيمان، رسالة لا يستطيع العلم أن يقوم بها وحده. وما وحّد علم بين أبناء وطن واحد، ولكن الأدب وحد ويوحِّد!

أما حاسة الارتياح إلى الأدب والفن أو حاسة تذوقهما فهي حاسة جذورها بعيدة القرار في النفوس. هذه الحاسة تدفعنا بالرغم منا، وبدون وعي منا إلى أن نطلب الموسيقى مثلاً لأن نفوسنا تحن إليها، وإلى أن نغتبط بمطالعة قصة أو إنشاد قصيدة تمثل نفوسنا برغم المادة التي ترين على قلوبنا. هذه الحاجة هي ميزان أذواقنا وميولنا، لاشيء يقدر على إخمادها، والذهاب بها. ناهيك بأن كثيراً من هذه الأنواع الفنية والأدبية ما تتصل أسبابه مباشرة بأسباب حياتنا الاجتماعية، وان الأديب الذي لا يشعر بهذه الحاجة التي تسوقه إلى الكتابة لا يستطيع أن يبدع شيئاً، أو الفنان الذي لا يحس هذا الدافع في نفسه لا يقدر أن ينشئ شيئاً!

كانت المقاييس التي توجه الأدب والفن أيها السادة مقاييس فنية تستلزم صدقها ودقتها من الأدب والفن نفسها. عودوا مثلاً إلى الأدب الفرنسي وانظروا كيف يدرسه الطلاب على مقاييس فنية صرفة، أما اليوم فقد تبدلت المقاييس وأخذت مقاييس المبادئ الاجتماعية والسياسية تطغى عليه. وبحسب هذه المقاييس تغيرت اتجاهات الأدب والفن، وتطورت غاياتهما في الجيل الحاضر. وتعليل ذلك أن الأدب كان يحيا منكمشاً بنفسه يصف الجمال للجمال، ويرسم الفن للفن، ويقنع بأن يطل على الحياة إطلالاً، ويعمل على إكبار شأن الفرد ويجعل الأديب نفسه قلب الوجود تتلاقى فيه الأشياء أكثر مما يتوزع في الأشياء. وأما اليوم فقد خرج إلى الحياة، وإلى المجتمع وإلى السياسة. فأصبحنا ندرس الأدب على هذه الطريقة.

من الأدب الأدب الذي لا غاية له إلا نفسه. يتغنى الشاعر مثلا لأنه يريد أن يغني لنفسه ويسمع ألحان نفسه؛ ومن الأدب الذي نزل إلى المجتمع وخبر خلائق الناس وعالج الحياة؛ ومن الأدب الذي تفيأ ظل الدولة والسياسة والأحزاب. أما الأدب الأول ففي إمكاننا أن ندعوه (الأدب الأرستقراطي) لأن الأديب فيه لا يعمل إلا لنفسه، أو لفئة نزره العدد تعجب به، فهو من نفسه في عالم واسع المدد منفصل عن هذا الوجود، والأدب الثاني ندعوه (الأدب الديموقراطي) يعنى بالطبقة الوسطى ويعالج مسائلها ويصور آلامها ويقلب وجوه حياتها؛ والأدب الثالث ندعوه (أدب الأزمة) تخلقه أزمة اجتماعية كأدب الثورة الفرنسية، وأدب الثورة البلشفية الحمراء، أو تبدعه أزمة سياسية كأدب الحرب العظمى الذي صور فضائع الحرب وجوها المكفهر، وأدب الفاشية الإيطالية، والهتلرية النازية. أو تخلقه أزمة عصبية أو دينية أو اقتصادية. وقد يقوم أدب على غير هذا الغرار يتجرد من كل هذه العوامل الضيقة، عوامل الزمان والمكان، أدب شامل إنساني يعانق الإنسانية من أقصاها إلى أقصاها على اختلاف شعوبها ونزعاتها. ولكن حدث هذا الأدب يقوى في أيام البلاء ويخفف من أيام الهناء، لأن الشقاء يقرب الضعيف من الضعيف! حتى إذا استراح الاثنان عادا إلى نزاعهما الذي لا ينتهي.

ومن ذا لا يتأمل في أدب اليوم ولا يجده ميدان صراع في كل بقعة من بقاع الحضارة؟ فأدب الأمم الديمقراطية يذود عن الديمقراطية ويدافع عن حرية الفرد بما في وسعه أن يدافع، لأنه يعلم أن تقييد الأدب هو نوع من القضاء على حريته التي لا يحيا إلا بها. هذه الحرية يتباهى بها لأنه يراها مستمدة من حرية الحياة التي لا تضيق، وأدب الأمم الدكتاتورية يصول صولة أربابها ويفرض على الناس نفسه، فبينما نرى في الأدب الديمقراطي كل فرد يفكر وحده تفكيره الخاص، له استقلاله وذاته وعالمه واعتقاده، نرى في الأدب الدكتاتوري أن الفرد الواحد يفكر تفكير الأمة كلها، وأن الأمة كلها تفكر تفكير هذا الفرد. وخير ممثل للأدب الحر المدرسة الأدبية الفرنسية التي لا تزال تحترم مبدأ ثورتها الذي أعلن حرية الفرد وزاد عنها. ولعل الوضع السياسي الذي خرجت به من الحرب العظمى أيد هذا الأدب، ولم يزج بها في أحضان الآداب الأخرى التي ولدتها الأزمات المختلفة. وفي هذه المدرسة تجد ألوان الأدب والتفكير متآلفة على اختلافها، فيها الأدب الفردي والأدب الاجتماعي والأدب الإنساني والأدب الشعبي والأدب الشيوعي، ولكن هذا لا يجعلنا نقول: إن مقاييس أدبها وفنها لم تختلف، فلقد تبدلت المقاييس الفنية، وكاد يحل محلها مقاييس تتبع النظريات السياسية والاجتماعية، ولكن محمدة هذه المدرسة أنها وسعت كل هذه الألوان المتقاربة، وهذه المبادئ المتنافرة، وتقبلتها كلها باسم الديمقراطية. . .

إن أدب الأمم الدكتاتورية يسعى كما توجهه الدكتاتورية، ضيق الفسحة، قريب الغاية، سليب الحرية، لأن أصحابها جعلوا منه وسيلة للدعاية المحلية، ويسيطروا على كل ما يتفرع من الأدب والفن كالمسرح والسينما. وأول من بشر بأدب (الدعاية) الأديب الروسي (بليكانوف) الذي كان يقول في مطلع هذا القرن (إن كل أثر فني مرتبط بحياة الشعب السياسية) وقد شاعت هذه النظرية في مؤتمر (فولنا) الذي انعقد في (روما) سنة 1934 للبحث في أدب المسرح وفنه، فقال فيه أحد مخرجي السوفييت: (إن أدب التمثيل بحاجة إلى الاقتراب من الشعب، وملامسة روحه) وقال فيه أحد فناني الألمان: (إن السياسة الممثلة يجب أن تتمثل في أدب التمثيل لأن السياسة اليوم هي روح حياة الشعوب).

وفي روسيا بعد هدوء ثورتها الاجتماعية أدرك أقطابها قيمة الفن، فسخروا كل أنواع الأدب والفن لنشر دعاياتهم ومبادئهم. وعن السينما يقول (لينين) إنها الفن الأول للثورة. . . لأنها تصور الآلام الاجتماعية التي كانت ظهور الناس تلتوي تحتها، وتهيئ النفوس لحياة أعدل ومثل أعلى. وفي المؤتمر الأخير الذي عقده أدباء الروس قال أديبهم الكبير (مكسيم غوركي): (إن الدولة اليوم يجب أن يقودها ألوف من أرباب الثقافة الكاملين. وهذه وسيلة ضرورية لترد على الشعب العامل وسيلة إنماء عقله وبراعته ومواهبه التي هي حق من حقوقه المسلوبة في جميع أنحاء العالم. هذه الغاية التي تتحقق بالعمل - تحتم علينا - نحن الأدباء - أن نكون مسئولين عن عملنا وسلوكنا الاجتماعي وهو عمل لا يحيل منا أدباء واقعيين، وقضاة على الناس ونقاداً للحياة فحسب. وإنما هو عمل يعطينا الحق بإنشاء حياة جديدة وتطور جديد. ومثل هذا الحق يوجب على كل أديب أن يشعر بمسئوليته الخطرة في هذه المرحلة).

هذا ما يقوله (مكسيم غوركي) اشهر أدباء الروس والأديب الأكثر إنسانية في أكبر مقاطعة غذت الآداب بالأدب الإنساني، لأن تيار (الدعاية) قذف به إلى حيث يريد! وهكذا ارتدى الأدب رداءاً محلياً حتى غدا الأدب في روسيا أدباً روسياً والفن فناً روسياً! وكذلك الأمر في (الفاشية) فأنها عملت بهذا المذهب القائل (إن الموضوع الأدبي يجب أن يستمد من قلب الأمة لا من المحيط الخارج عنها) وأصبحت تريد من الفن أن يخدم الدولة. . .

أما الهتلرية الجرمانية فقد أرادت أن تتفوق في هذا الباب، فسخرت العلم الذي لا يسخر للدلالة على أصالة الجنس الجرماني وطهارته من أخلاط العناصر وقد طغت أيّما طغيان على حقول الأدب والفن. يقول ممثلها في أحد مواقفه: (إن كل ما نعجب به اليوم من علم وفن واختراع إن هو إلا وليد فئة قليلة من الشعوب. وربما كانت هذه الفئة تنسلها سلالة واحدة ومن هذه السلالة تنحدر الثقافة الإنسانية. . . لتتوار هذه الفئة، فكل جمال الحياة يتوارى معها. . . أريد أثراً جرمانياً يبقي اثر الجرمانية فيه بعد ملايين السنين) وقد أيد هذه النظرية أحد رجالها بقوله (أنا نريد فناً حقيقياً، فناً جرمانياً يستمد روعته من قلب الإبداع الفني، فناً يدخل إلى أعماق نفوسنا ويهزها هزاً!) ويقول وزير دعايتها (في اللحظة التي تسطر فيها السياسة رواية شعب ما، حيث يتلاشى عالم وينشأ عالم، حيث تزول قيم عتيقة وتقوم قيم جديدة، لا يجدر برجل الأدب والفن ولا يحق له أن يقول: هذا شيء لا يهمني ولا يعنيني. . . ونحن، رجال السياسة - إزاء هذه الحركة، رجال فن لأننا نهيئ شعباً. ولست أدعو إلى أن يكون الأدب عسكرياً، وإنما يجب على الأدب أن يخلق ويصور العلاقات المرتبطة بهذه الحركة الانقلابية. . . يجب على الأديب أن يجر نفسه إلى الزوبعة التي تعصف في وطنه. يمشي تحت عجاجتها ولا يقف شاهداً على الربوة! إننا نحكم على الفن والأدب بالنسبة إلى تأثيرها في الشعب. وكل ما خالف هذا لا نرضاه. . .)

(البقية في العدد القادم)

خليل هنداوي


مجلة الرسالة - العدد 215
بتاريخ: 16 - 08 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى