تهدف هذه المقالة إلى بيان الأسباب، وشرح العوامل التي كانت وراء تأثير الثقافة العربية على نظيرتها الفارسية، وقد أقبلت على البحث في هذا الموضوع، في هذه المقطع التاريخي بالذات، لما تكتسي هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي من أهمية، وكذلك لما أثير ويثار، في المنابر الأدبية والأبحاث المقارنة، من نقاش وجدال حول أسباب هذا التأثير ودواعيه وكذلك تداعياته. وقد توخيت في هذا البحث المتواضع الدقة العلمية والأمانة في النقل من المظان العربية والفارسية على حد سواء.
يعتبر فتح العرب المسلمين لبلاد فارس أهم حدث عرفته هذه الأخيرة في تاريخها، لما كان له من تداعيات سياسية وثقافية متعددة الجوانب. بحيث إن تأثير الثقافة العربية في المجتمع الإيراني من بين أهم هذه التداعيات. ومما لا شك فيه أن تأثير الثقافات في بعضها البعض، وخصوصاً الثقافة الغالبة على الثقافة المغلوبة، يؤدي، على مر التاريخ، إلى تغيرات عميقة وشاملة، لدرجة يمكن أن تحل ثقافة محل أخرى، أو تختلط إحداهما بالأخرى، لتبرز ثقافة جديدة بمعالم مغايرة عن أصلها. وهذا الأمر هو الذي حدث بين الثقافتين العربية والفارسية. فبالرغم من أن إحداهما لم تلغ الأخرى، إلا أن طابع الثقافة العربية الإسلامية كان واضحاً على الثقافة الفارسية منذ الفتح الإسلامي لبلاد فارس إلى يوم الناس هذا.
لقد ساهمت عوامل عديدة في التعامل بين الثقافتين العربية والفارسية. فتاريخ التعارف بينهما قديم يعود إلى ما قبل الإسلام. حيث كانت روابط الجوار الجغرافي وعلاقات النسب وصلات سياسية وثقافية واجتماعية وراء تمازج العرب والفرس، الذي انتهى بحدوث تحول جذري مع الفتح الإسلامي لإيران وخضوعها لحاكمية العرب ردحاً من الزمن، مما كان له آثار عميقة في النفسية الفارسية.
أسباب تعلق الإيرانيين باللغة العربية وثقافتها:
لمّا دخل الاسلام إلى بلاد فارس دخل بلسان عربي مبين. ووجد الفرس الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بجور الحكام الساسانيين ومرازبتهم[1]، متشوقين غاية الشوق، لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف ورفع رايته وخدمة لغته. ومنذ ذلك الوقت انحسرت اللغة الفارسية الفهلوية[2]، وأقبل الفرس على اللغة العربية بوصفها لغة الدين الجديد، معتبرين إياها لغة الفاتح، فأولوها عنايتهم وانبروا لتعلمها وإتقانها. ويمكننا حصر أسباب هذا الاقبال فيما يلي :
تبادل الزيارات بين الوفود العربية والإيرانية، وتردد التجار العرب على بلاد فارس واستقرارهم بها، واختلاطهم بأهلها. فقد كان بعض الخطباء العرب يفدون إلى إيران قبل الإسلام وكان الإيرانيون يكرمونهم إكراماً عظيماً[3]. والأعشى، وهو أشهر من أن يُذكر، وعلى الرغم من ضعف بصره فقد كانت له قريحة نفّاذة، ومع أنه كان يعشو في رؤيته، فقد كان يقطع مسافات طويلة ويأتي إلى إيران حباً منه للإيرانيين الذين كانوا يكرمون وفادته ويشتاقون إلى الاستماع لأشعاره العربية، وقد ذكرت وفادة الأعشى لإيران في مختلف الكتب وكان لها أثران مهمان وهما : تأثر الإيرانيين باللغة العربية التي كان الأعشى ينشد بها أشعاره، وتأثر الأعشى باللغة الفارسية، حيث يشاهد بعض الكلمات الفارسية في بعض أبياته. وقد جاء إلى إيران عدة مرات بأشعاره العربية، وقالت عنه موسوعة المورد : "وفد على ملوك فارس فمدحهم، وسار شعره العذب على الألسنة"[4]، والمعروف أن الأعشى كان يفد على بلاط الساسانيين ويمدحهم وينال الجوائز منهم[5].
من ناحية أخرى يقر أحمد بن أبي يعقوب المعروف باليعقوبي في كتابه [تاريخ البلدان] بأن فارسية أهل خوزستان اختلطت كثيراً بالعربية لكثرة ارتباط أهلها بالعرب[6]. أما في المجال التجاري[7] فقد كان التجار الإيرانيون يتوافدون على الحجاز. وكان بعض منهم يعيش في اليمن.
إن اعتناق الدين الإسلامي وضرورة تعلم اللغة العربية لقراءة القرآن وأداء الصلاة والواجبات الدينية، ونشر الأحاديث بين بني جلدتهم، تعتبر من العوامل الأخرى لإقبال الفرس على اللغة العربية. إذ لا يخفى شغف الناس بهذا الدين الذي أعتقهم من ربقة العبودية لمرازبة الفرس، والتحرر من نظام المجتمع الطبقي، كما يقول آرثر كريستنسن بأن مراتب المقامات والطبقات في ذلك العهد كانت معقدة جداً ومظلمة[8]. ويتجلى ذلك في الحب الشديد للدين الجديد، والإقبال على لغته وثقافته وترك لغتهم الأم. وحبهم للقرآن الكريم ولغته كان بارزاً في قول عالم الدين والفيلسوف الإيراني الشيخ مرتضى مطهري : "سحر القرآن وجاذبيته اللفظية والمعنوية وأحكامه الخالدة للعالمين، كل هذا جعل المسلمين، على اختلاف جنسهم ولونهم، يتبنّون هذه التحفة الإلهية وينجذبون إلى لغة القرآن، وينسون لغتهم الأم، وهذا كان حال كل الأمم المعتنقة للإسلام"[9].
وكان نتيجة ذلك، أن عرفت اللغة والثقافة الفارسيتين ركوداً. إذ كانت المراسلات الإدارية وكل شؤون الخلافة التي كانت إيران جزءاً منها تحرر باللغة العربية. وكان الأمراء يُعيَّنون من قبل الخليفة على مختلف الولايات، وكانوا بالطبع عرباً، ينشرون تعاليم الاسلام في الممالك المفتوحة ويعلمون الناس لغة التنزيل. "بعد تحكم الإسلام في إيران، أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية والإدارية للإيرانيين. إذ كانت الأحكام والفرامين تصدر باللغة العربية. وراجت الكتابة باللغة العربية في ظل الخلافة الأموية، حتى كان أغلب الشعراء والكُتَّاب الإيرانيين ينظمون أشعارهم ويدونون كتبهم باللغة العربية، ويكفي أن نستشهد بالصاحب بن عباد وابن العميد"[10].
ومن العوامل الأخرى في هذا المسار تشكيل المجتمع الاسلامي القائم على دين وفكر واحد وثقافة ولغة واحدة. وهذا الأمر أدى إلى انصهار جميع العناصر غير العربية، ومن بينها الفرس، في بوتقة المجتمع الإسلامي العربي. ولقد كان لهذا التوحد فضل على الفرس في توحيد أفكارهم وعقائدهم المشتتة بين الزردشتية والمانوية والمزدكية، وجمعهم على قلب رجل واحد وعلى دين واحد. وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبد الحسين زرينكوب في كتابه (تاريخ الشعب الإيراني من نهاية العهد الساساني إلى عهد البويهيين) : "تقبل العديد من الناس بشكل تدريجي دخول الجيش المهاجم إلى بلادهم بصدر رحب، وكان هذا الجيش في أوساط بعض الطبقات بمثابة المنقذ من هيمنة النجباء وأصحاب البيوتات التي سيطرت على المجتمع الايراني منذ عهد هرمز خسرو...المنقذ من سلطة رجال الدين الزردشتي الفاسدين..."[11]. إذن، كان دخول الإسلام والاقتداء بالقرآن الكريم مقدمة لبسط سيطرة اللغة والثقافة العربيتين على بلاد فارس، حيث كانت المدينة المنورة مرجعاً وحيداً للفقه والحديث في بداية الدولة الإسلامية. ومنذ ظهور الإسلام وحتى نهاية عصر الخلفاء الراشدين سنة 41 هـ، كان القرآن الكريم الكتاب الوحيد المنتشر بين المسلمين الذين اهتموا بحفظه وجمعه واستندوا عليه في احتجاجهم. إذن، كان للعوامل التي أشرنا إليها الدور الأساس في إهمال الفرس لثقافتهم الأم في بدء الإسلام واهتمامهم في المقابل باللغة العربية وعلومها وآدابها. يقول الشيخ مرتضى مطهري في هذا الصدد : "إلى حدود نهاية القرن الرابع الهجري كانت الثقافة الإسلامية قد بسطت نفوذها الكامل في إيران، وتأسست المدارس العلمية في مناطق مختلفة، وظهر الدين الإسلامي على سائر الأديان، وهزمت مقاومة الزردشتيين في نواحي إيران كلها هزيمة نكراء، واصطبغت الثقافة الإيرانية بصبغة إسلامية. واتخذت القرارات على أساس العادات العربية ومبادئ الدين الإسلامي. وكان نتيجة ذلك، ازدياد نقل الكُتَّاب والشعراء الإيرانيين من المضامين العربية..."[12]. أما الدكتور عبد الحسين زرينكوب، المؤرخ الإيراني المعاصر فهو لا يخفي تعصبه لعرقه ولغته، وهو يقر بهزيمة الحضارة الايرانية أمام الدين الجديد، وأسلوبه ينم عن حقد دفين للعرب وللغتهم حين يقول : "كانت اللغة العربية قبل هذا العهد لغة قوم شبه متوحشين، خالية من أي لطف أو جمالية. ومع ذلك حينما ارتفع صوت القرآن والأذان في سماء إيران الشاهنشاهية، خمدت اللغة الفهلوية في مقابله ولزمت الصمت. مما حذا بلغة إيران إلى الاضمحلال في ظل بساطة الرسالة الجديدة وعظمتها. ولم تكن هذه الرسالة الجديدة سوى القرآن الذي أعجز فصحاء العرب وأسكت عمق معانيه العرب"[13]..
[1] جمع مرزبان، وهو اسم علم مذكر فارسي، ومعناه حارس الحدود، مركب من مرز (حدود البلاد)، وبان (الحارس)، ثم صارت رتبة عسكرية عالية.
[2] أورد ياقوت الحموي في معجم البلدان، في الجزء الرابع ذيل كلمة "فهلو" أن كلام الفرس قديماً كان يجري على خمسة ألسنة وهي الفهلوية (البهلوية)، والدرية، والفارسية، والخوزية، والسريانية. فأما الفهلوية فكان يجري بها كلام الملوك في مجالسهم، وهي لغة منسوبة إلى "فهلة"، وهو اسم يقع على خمسة بلدان هي : اصبهان (اصفهان)، والري، وهمذان (همدان)، وماه نهاوند، وآذربيجان (آذربايجان). كما نقل ياقوت الحموي عن ابن المقفع قوله أن بلاد الفهلويين سبعة هي : همذان، وماسبزان، وقم، وماه البصرة، وماه الكوفة، وقرميسين. وليس الري واصبهان، والقومس، وطبرستان، وخراسان، وسجستان، وكرمان، ومكران، وقزوين، والديلم، والطالقان من بلاد الفهلويين.
[3] قصص العرب (تأليف عدد من الأساتذة المصريين)، طبع دار احياء الكتب العربية، 2003 . ق، ج 1، ص 19. نقلاً عن : حسين جوبين، صداقة الفرس والعرب قبل الاسلام وأثرها في الأدب العربي، ص 5.
[4] البعلبكي، منير، موسوعة المورد، بيروت، سنة 1981 م، ج 5، ص 163.
[5] الحمامي، سيد محمد علي، المطالعات في مختلف المؤلفات، طبعة النجف الأشرف، ص 21.
[6] تاريخ مردم ايران، ساسانيان تا ديالمه، [تاريخ شعب إيران، منذ الساسانيين إلى الديالمة]، ص : 29
[7] أحمد أمين، فجر الاسلام، ص : 13-22
[8] آرثر كريستنسن، ايران در زمان ساسانيان، [إيران في عهد الساسانيين] 1989، ص 121.
[9] مرتضى مطهري، خدمات متقابل اسلام و ايران، [الخدمات المتبادلة بين الإسلام وإيران]، ص : 604.
[10] سيد جعفر سجادي، نقد تطبيقي ادبيات ايران وعرب، [النقد المقارن للأدب الإيراني والعربي]، ص : 255
[11] عبد الحسين زرينكوب، تاريخ مردم ايران از ﭘﺎيان ساسانيان تا آل بويه، [تاريخ الشعب الإيراني من نهاية العهد الساساني إلى عهد البويهيين]، ص : 11
[12] مرتضى مطهري، خدمات متقابل اسلام و ايران، [الخدمات المتبادلة بين الاسلام وإيران]، ص 83
[13] عبد الحسين زرينكوب، دو قرن سكوت، [قرنان من الصمت]، ص 112
د أحمد موسى
(مقالة نشرت بالعدد رقم 14، سنة 2014، من مجلة جامعة القرويين بفاس/المغرب)
يعتبر فتح العرب المسلمين لبلاد فارس أهم حدث عرفته هذه الأخيرة في تاريخها، لما كان له من تداعيات سياسية وثقافية متعددة الجوانب. بحيث إن تأثير الثقافة العربية في المجتمع الإيراني من بين أهم هذه التداعيات. ومما لا شك فيه أن تأثير الثقافات في بعضها البعض، وخصوصاً الثقافة الغالبة على الثقافة المغلوبة، يؤدي، على مر التاريخ، إلى تغيرات عميقة وشاملة، لدرجة يمكن أن تحل ثقافة محل أخرى، أو تختلط إحداهما بالأخرى، لتبرز ثقافة جديدة بمعالم مغايرة عن أصلها. وهذا الأمر هو الذي حدث بين الثقافتين العربية والفارسية. فبالرغم من أن إحداهما لم تلغ الأخرى، إلا أن طابع الثقافة العربية الإسلامية كان واضحاً على الثقافة الفارسية منذ الفتح الإسلامي لبلاد فارس إلى يوم الناس هذا.
لقد ساهمت عوامل عديدة في التعامل بين الثقافتين العربية والفارسية. فتاريخ التعارف بينهما قديم يعود إلى ما قبل الإسلام. حيث كانت روابط الجوار الجغرافي وعلاقات النسب وصلات سياسية وثقافية واجتماعية وراء تمازج العرب والفرس، الذي انتهى بحدوث تحول جذري مع الفتح الإسلامي لإيران وخضوعها لحاكمية العرب ردحاً من الزمن، مما كان له آثار عميقة في النفسية الفارسية.
أسباب تعلق الإيرانيين باللغة العربية وثقافتها:
لمّا دخل الاسلام إلى بلاد فارس دخل بلسان عربي مبين. ووجد الفرس الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بجور الحكام الساسانيين ومرازبتهم[1]، متشوقين غاية الشوق، لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف ورفع رايته وخدمة لغته. ومنذ ذلك الوقت انحسرت اللغة الفارسية الفهلوية[2]، وأقبل الفرس على اللغة العربية بوصفها لغة الدين الجديد، معتبرين إياها لغة الفاتح، فأولوها عنايتهم وانبروا لتعلمها وإتقانها. ويمكننا حصر أسباب هذا الاقبال فيما يلي :
تبادل الزيارات بين الوفود العربية والإيرانية، وتردد التجار العرب على بلاد فارس واستقرارهم بها، واختلاطهم بأهلها. فقد كان بعض الخطباء العرب يفدون إلى إيران قبل الإسلام وكان الإيرانيون يكرمونهم إكراماً عظيماً[3]. والأعشى، وهو أشهر من أن يُذكر، وعلى الرغم من ضعف بصره فقد كانت له قريحة نفّاذة، ومع أنه كان يعشو في رؤيته، فقد كان يقطع مسافات طويلة ويأتي إلى إيران حباً منه للإيرانيين الذين كانوا يكرمون وفادته ويشتاقون إلى الاستماع لأشعاره العربية، وقد ذكرت وفادة الأعشى لإيران في مختلف الكتب وكان لها أثران مهمان وهما : تأثر الإيرانيين باللغة العربية التي كان الأعشى ينشد بها أشعاره، وتأثر الأعشى باللغة الفارسية، حيث يشاهد بعض الكلمات الفارسية في بعض أبياته. وقد جاء إلى إيران عدة مرات بأشعاره العربية، وقالت عنه موسوعة المورد : "وفد على ملوك فارس فمدحهم، وسار شعره العذب على الألسنة"[4]، والمعروف أن الأعشى كان يفد على بلاط الساسانيين ويمدحهم وينال الجوائز منهم[5].
من ناحية أخرى يقر أحمد بن أبي يعقوب المعروف باليعقوبي في كتابه [تاريخ البلدان] بأن فارسية أهل خوزستان اختلطت كثيراً بالعربية لكثرة ارتباط أهلها بالعرب[6]. أما في المجال التجاري[7] فقد كان التجار الإيرانيون يتوافدون على الحجاز. وكان بعض منهم يعيش في اليمن.
إن اعتناق الدين الإسلامي وضرورة تعلم اللغة العربية لقراءة القرآن وأداء الصلاة والواجبات الدينية، ونشر الأحاديث بين بني جلدتهم، تعتبر من العوامل الأخرى لإقبال الفرس على اللغة العربية. إذ لا يخفى شغف الناس بهذا الدين الذي أعتقهم من ربقة العبودية لمرازبة الفرس، والتحرر من نظام المجتمع الطبقي، كما يقول آرثر كريستنسن بأن مراتب المقامات والطبقات في ذلك العهد كانت معقدة جداً ومظلمة[8]. ويتجلى ذلك في الحب الشديد للدين الجديد، والإقبال على لغته وثقافته وترك لغتهم الأم. وحبهم للقرآن الكريم ولغته كان بارزاً في قول عالم الدين والفيلسوف الإيراني الشيخ مرتضى مطهري : "سحر القرآن وجاذبيته اللفظية والمعنوية وأحكامه الخالدة للعالمين، كل هذا جعل المسلمين، على اختلاف جنسهم ولونهم، يتبنّون هذه التحفة الإلهية وينجذبون إلى لغة القرآن، وينسون لغتهم الأم، وهذا كان حال كل الأمم المعتنقة للإسلام"[9].
وكان نتيجة ذلك، أن عرفت اللغة والثقافة الفارسيتين ركوداً. إذ كانت المراسلات الإدارية وكل شؤون الخلافة التي كانت إيران جزءاً منها تحرر باللغة العربية. وكان الأمراء يُعيَّنون من قبل الخليفة على مختلف الولايات، وكانوا بالطبع عرباً، ينشرون تعاليم الاسلام في الممالك المفتوحة ويعلمون الناس لغة التنزيل. "بعد تحكم الإسلام في إيران، أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية والإدارية للإيرانيين. إذ كانت الأحكام والفرامين تصدر باللغة العربية. وراجت الكتابة باللغة العربية في ظل الخلافة الأموية، حتى كان أغلب الشعراء والكُتَّاب الإيرانيين ينظمون أشعارهم ويدونون كتبهم باللغة العربية، ويكفي أن نستشهد بالصاحب بن عباد وابن العميد"[10].
ومن العوامل الأخرى في هذا المسار تشكيل المجتمع الاسلامي القائم على دين وفكر واحد وثقافة ولغة واحدة. وهذا الأمر أدى إلى انصهار جميع العناصر غير العربية، ومن بينها الفرس، في بوتقة المجتمع الإسلامي العربي. ولقد كان لهذا التوحد فضل على الفرس في توحيد أفكارهم وعقائدهم المشتتة بين الزردشتية والمانوية والمزدكية، وجمعهم على قلب رجل واحد وعلى دين واحد. وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبد الحسين زرينكوب في كتابه (تاريخ الشعب الإيراني من نهاية العهد الساساني إلى عهد البويهيين) : "تقبل العديد من الناس بشكل تدريجي دخول الجيش المهاجم إلى بلادهم بصدر رحب، وكان هذا الجيش في أوساط بعض الطبقات بمثابة المنقذ من هيمنة النجباء وأصحاب البيوتات التي سيطرت على المجتمع الايراني منذ عهد هرمز خسرو...المنقذ من سلطة رجال الدين الزردشتي الفاسدين..."[11]. إذن، كان دخول الإسلام والاقتداء بالقرآن الكريم مقدمة لبسط سيطرة اللغة والثقافة العربيتين على بلاد فارس، حيث كانت المدينة المنورة مرجعاً وحيداً للفقه والحديث في بداية الدولة الإسلامية. ومنذ ظهور الإسلام وحتى نهاية عصر الخلفاء الراشدين سنة 41 هـ، كان القرآن الكريم الكتاب الوحيد المنتشر بين المسلمين الذين اهتموا بحفظه وجمعه واستندوا عليه في احتجاجهم. إذن، كان للعوامل التي أشرنا إليها الدور الأساس في إهمال الفرس لثقافتهم الأم في بدء الإسلام واهتمامهم في المقابل باللغة العربية وعلومها وآدابها. يقول الشيخ مرتضى مطهري في هذا الصدد : "إلى حدود نهاية القرن الرابع الهجري كانت الثقافة الإسلامية قد بسطت نفوذها الكامل في إيران، وتأسست المدارس العلمية في مناطق مختلفة، وظهر الدين الإسلامي على سائر الأديان، وهزمت مقاومة الزردشتيين في نواحي إيران كلها هزيمة نكراء، واصطبغت الثقافة الإيرانية بصبغة إسلامية. واتخذت القرارات على أساس العادات العربية ومبادئ الدين الإسلامي. وكان نتيجة ذلك، ازدياد نقل الكُتَّاب والشعراء الإيرانيين من المضامين العربية..."[12]. أما الدكتور عبد الحسين زرينكوب، المؤرخ الإيراني المعاصر فهو لا يخفي تعصبه لعرقه ولغته، وهو يقر بهزيمة الحضارة الايرانية أمام الدين الجديد، وأسلوبه ينم عن حقد دفين للعرب وللغتهم حين يقول : "كانت اللغة العربية قبل هذا العهد لغة قوم شبه متوحشين، خالية من أي لطف أو جمالية. ومع ذلك حينما ارتفع صوت القرآن والأذان في سماء إيران الشاهنشاهية، خمدت اللغة الفهلوية في مقابله ولزمت الصمت. مما حذا بلغة إيران إلى الاضمحلال في ظل بساطة الرسالة الجديدة وعظمتها. ولم تكن هذه الرسالة الجديدة سوى القرآن الذي أعجز فصحاء العرب وأسكت عمق معانيه العرب"[13]..
[1] جمع مرزبان، وهو اسم علم مذكر فارسي، ومعناه حارس الحدود، مركب من مرز (حدود البلاد)، وبان (الحارس)، ثم صارت رتبة عسكرية عالية.
[2] أورد ياقوت الحموي في معجم البلدان، في الجزء الرابع ذيل كلمة "فهلو" أن كلام الفرس قديماً كان يجري على خمسة ألسنة وهي الفهلوية (البهلوية)، والدرية، والفارسية، والخوزية، والسريانية. فأما الفهلوية فكان يجري بها كلام الملوك في مجالسهم، وهي لغة منسوبة إلى "فهلة"، وهو اسم يقع على خمسة بلدان هي : اصبهان (اصفهان)، والري، وهمذان (همدان)، وماه نهاوند، وآذربيجان (آذربايجان). كما نقل ياقوت الحموي عن ابن المقفع قوله أن بلاد الفهلويين سبعة هي : همذان، وماسبزان، وقم، وماه البصرة، وماه الكوفة، وقرميسين. وليس الري واصبهان، والقومس، وطبرستان، وخراسان، وسجستان، وكرمان، ومكران، وقزوين، والديلم، والطالقان من بلاد الفهلويين.
[3] قصص العرب (تأليف عدد من الأساتذة المصريين)، طبع دار احياء الكتب العربية، 2003 . ق، ج 1، ص 19. نقلاً عن : حسين جوبين، صداقة الفرس والعرب قبل الاسلام وأثرها في الأدب العربي، ص 5.
[4] البعلبكي، منير، موسوعة المورد، بيروت، سنة 1981 م، ج 5، ص 163.
[5] الحمامي، سيد محمد علي، المطالعات في مختلف المؤلفات، طبعة النجف الأشرف، ص 21.
[6] تاريخ مردم ايران، ساسانيان تا ديالمه، [تاريخ شعب إيران، منذ الساسانيين إلى الديالمة]، ص : 29
[7] أحمد أمين، فجر الاسلام، ص : 13-22
[8] آرثر كريستنسن، ايران در زمان ساسانيان، [إيران في عهد الساسانيين] 1989، ص 121.
[9] مرتضى مطهري، خدمات متقابل اسلام و ايران، [الخدمات المتبادلة بين الإسلام وإيران]، ص : 604.
[10] سيد جعفر سجادي، نقد تطبيقي ادبيات ايران وعرب، [النقد المقارن للأدب الإيراني والعربي]، ص : 255
[11] عبد الحسين زرينكوب، تاريخ مردم ايران از ﭘﺎيان ساسانيان تا آل بويه، [تاريخ الشعب الإيراني من نهاية العهد الساساني إلى عهد البويهيين]، ص : 11
[12] مرتضى مطهري، خدمات متقابل اسلام و ايران، [الخدمات المتبادلة بين الاسلام وإيران]، ص 83
[13] عبد الحسين زرينكوب، دو قرن سكوت، [قرنان من الصمت]، ص 112
د أحمد موسى
(مقالة نشرت بالعدد رقم 14، سنة 2014، من مجلة جامعة القرويين بفاس/المغرب)
دراسات وأبحاث أحمد موسى
persanaumaroc.blogspot.com