مفهوم “ الشعرية “ في النقد الأدبي الحديث , ليس سوى صياغة جديدة لمصطلح “ عمود الشعر “ .
لكن هذه الصياغة لا تتوقّف عند حدود الاختلاف الشكلي بيــن المصطلحيـن , بل تتعـدّى ذلك إلى اختلاف كل منهما عن الآخر في الجوهر والدلالة . فإذا كان “ عمود الشعر “ يتحدّد بالقوانين السبعة التي صاغها المرزوقي فإن “ الشعرية “ تكسر صرامة تلك القوانين التي تفرض على النص من خارجه لتواصل الكشف عن قوانينها في جملة العلاقات الداخلية للنّص والتي تشكّل بنيته السطحية والعميقة وتجعل منه نصّا شعريا متمايزا , عبر تمايز شبكة دلالاته اللفظية والنحوية والبلاغية والإيقاعية, وما تولّده من رؤى واستبصارات . فالشعرية بهذا المعنى “ كما يشير د . صلاح فضل: “ لاتتوقّف على جودة الاستثمار اللغوي , بل على التحوّلات النوعية للدلالة التي تمثّل نواتها الجوهرية ». إنّ الموضوع الرئيس للشعرية كما يقول جاكبسون : “ هو أن نجيب قبل كل شيء عن السؤال : ما الذي يجعل من رسالة كلامية عملا أدبيا “ أي ما الذي يجعل من نصّ ما نصّا شعريا دون سواه ؟ . وهل تتحقّق “ الشعرية “ في النّص عبر الإيقاع أم عبر الانزياحات الدلالية في الألفاظ والتراكيب , أم عبر البنية الداخلية القائمة على التشاكل والتباين وعلاقات الحضور والغياب , أم عبر رمزية اللعب بالكلمات وتوزيعها الخطّي على البياض , أم عبر تفاعل ذلك كلّه في فضاء النّص مضافا إليه وظيفية الإيصال في العلاقة مع المتلقي ؟ .
قد لا نصل من حيث المبدأ إلى إجابة قاطعة في هذا المجال , لأن “ الشعريّة “ كما قدّمنا لا تتحدّد بقوانين معيّنة , فهي تنتج قوانينها باستمرار عبر كل نصّ جديد , ولا قوانين نهائية ما دام الشعر نصّا مفتوحا ولا نهائيا , أي في كلّ نصّ , وربما في كلّ قراءة جديدة له , ستكون هناك فاعلية معيّنة تكشف عن شعريته , وعن العناصر التي تتحقّق من خلالها هذه الشعرية . ومن هنا ستكون أطروحة كمال أبو ديب في أن “ الشعرية “ تتحقّق فيما يسميه بـ “ الفجوة : مسافة التوتّر “ أطروحة مهمّة بل وأساسية في مقاربة الخطاب الشعري الحديث , لكنّها لن تكون الوحيدة أو النهائية لأن الشعر في جريانه المستمر , وتحوّلاته الدائمة , كالحياة , يستعصي على القوانين والقوالب مهما حقّقت من شمولية في استقرائها واستنتاجها . قضايا «الشعرية » الحديثة : تعاود “ الشعرية “ الحديثة طرح القضايا التي سبق للقدماء أن تناولوها في إطار تحديدهم لـ “ عمود الشعر “ لكنها تطرحها من زاوية أخرى , وفهم مختلف , ولعل الموازنة بين النظرتين تتيح لنا وعيا أعمق بهذه القضايا التي تتمحور حول : معنى الشعر ولغة الشعر . 1 ـ معنى الشعر : تجمع الآراء النقدية في الماضي على تعريف الشعر من خلال خاصية انفراده بالوزن , فنرى قدامة يقول : “ الشعر كلام موزون مقفى يدل على معنى “. وقد أشار كل من الجاحظ وابن سينا وابن خلدون إلى اقتران الشعر بالتخييل أو بالتصوير إلا أنّهم اشترطوا فيه أيضا خاصية الوزن. أما “ الشعرية “ الحديثة فتنحو إلى استبعاد الوزن والمعنى لتحلّ مكانهما الرؤيا والإيقاع . فنرى أدونيس يقول : “ لعل خير ما نعرّف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا , والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة , هي إذن تغيّر في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها “. والمقصود بالرؤيا هنا هو المعرفة القائمة على تجربة باطنية , شخصية وحدسية أي ميتافيزيقيـة , لا تتأسس على أفكار وإنما على اختبار شخصي للعالم عبر محرق الذات . واستنادا إلى هذا المفهوم فإن القصيدة كما يرى أدونيس لا تشرح العالم أو تفسّره , أو تنقله , أو تكتشفه , وإنما تعيد خلقه من جديد على محك تجربة الشاعر . وكأن أدونيس يكرّر هنا ما قاله رامبو ذات يوم : على الشاعر أن يكون رائيا . أما فيما يتعلّق بالوزن والإيقاع فإن الناقد الأميركي استوفر يميز بينهما فيرى أن الشعر إيقاعي والإيقاع فيه أمر لازم بخلاف الوزن , لأن الإيقاع هو حركة الأصوات الداخلية التي لا تعتمد على تقطيعات البحر أو التفاعيل العروضية . وتعمّق خالدة سعيد هذا الفهم للإيقاع بشيء من التفصيل فتقول : “والإيقاع لا يقتصر على الصوت . إنه النظام الذي يتوالى أو يتناوب بموجبه مؤثّر ما (صوتي أو شكلي) أو جو ما( حسيّ, فكري , سحري , روحي ) وهو كذلك صيغة للعلاقات القائمة على (التناغم , التعارض , التوازي , التداخل). فهو إذن نظام أمواج صوتية ومعنوية وشكلية “. لقد بنى كل من أدونيس وخالدة سعيد ويوسف الخال وغيرهم من حركة مجلة “ شعر “ هذا التصور للرؤيا والإيقاع عبر تأثرهم بالنتاج الشعري والنقدي الغربي وهو تصور ينطبق على ما يسمى بالقصيدة التموزية أو السيابية التي عبّرت كما يشير محمد جمال باروت عن المنعطف الجذري للشعر العربي في تحوله من الخطابة إلى الرؤيا , ومن الموضوع إلى التجربة , ومن التقريرية إلى الحدس , ومن التسلسل العقلي والمنطقي إلى وحدة التجربة , ومن الوزن والقافية إلى الإيقاع. وقبل أن يستقر هذا التصور بدأ هو الآخر يهتز أمام الاتجاهات الحديثة في قصيدة النثر والتي تنحو باتجاه ما سمي بـ “ جماليات نثر الحياة “ التي تتناقض كليا مع مفهوم القصيدة التموزية أو القصيدة الرؤيا . وما زالت الاجتهادات قائمة في التنظير النقدي لحركة الحداثة الشعرية التي وصف “ بارت “ شعرها في بعض مظاهره بأنه : ممارسة ذهنية ولعبة مجانية مليئة بالرعب لأنه “ نزهة على تخوم الهذيان “. 2 ـ لغة الشعر : يتّضح موقف القدماء من لغة الشعر عبر تأكيدهم ضرورة المقاربة في التشبيه , ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومشاكلة اللفظ للمعنى . وهذا يفسّر رفضهم للغموض والتعقيد في شعر أبي تمام واستحسانهم للسهولة والوضوح في شعر البحتري . وقد أشار الآمدي صراحة إلى ذلك : “ وليس الشعر عند أهل العلم إلا حسن التأتي , وقرب المأخذ , واختيار الكلام , ووضع الألفاظ في مواضعها , وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه , المستعمل في مثله , وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه“. مثل هذا الفهم المحدود للغة الشعر لم يعد واردا في “ الشعرية “ الحديثة , التي تجعل من الغموض والإيحاء والخروج عن المألوف , والتفرّد في الاستعمال, شروطا جوهرية لتمييز لغة الشعر من لغة النثر . يرى جاكبسون أن كل كلمة من كلمات اللغة الشعرية هي كلمة منحرفة بالقياس إلى اللغة اليومية أي أنها تحمل دلالة جديدة وغير مألوفة . وهذا ما يشير إليه د. صلاح فضل بقوله : “ إن اللغة الشعرية ليست غريبة عن الاستعمال الجيد فحسب , بل هي ضده , لأن جوهرها يتمثّل في انتهاك قواعد اللغة» . بينما يؤكد باختين واستوفر وفاليري فردية اللغة , حيث من الضرورة أن تنشأ مع كل شاعر لغته الخاصة به . وتكاد تجمع معظم الآراء على ضرورة الغموض في العمل الشعري , ولكن ليس ذلك الغموض الذي يصل حد الإبهام والتعمية , بل الغموض المشع كعروق الماس في الصخر , وهذا ما يدعو إليه د . محمد غنيمي هلال بقوله : “ حياة الألفاظ الطويلة , وما تبلور فيها من مأثور أدبي وتاريخي وأسطوري يكسبها تلك المقدرة الرمزية الإيحائية , والغموض والتعقيد مما يزيد عظمة اللفظ أو الرمز . والتناقض بين الصور والرموز لا يعني فسادها , بل على العكس ربما أكسبها قوة “ . ويضيف الناقد يوسف اليوسف “ إن الشعر العظيم يلوّح بمضامينه تلويحا , يخفي قسما من فحواه , ويلمّح بالآخر , تماما كما يفعل الحلم الذي يخاطبنا بصور العلو “ . أما أدونيس فيصل إلى حدّ المغالاة بقوله : “ الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة , ولذلك هو قوام الشعر“. ونصل مع كمال أبو ديب إلى نهاية المطاف في رأيه الذي يقول فيه : “ النص الشعري المتميز هو باستمرار نص من الاحتمالات والإمكانيات , لا نص تقريري, نص يمتلك أبعادا لا تتكشّف أبدا , وأبعادا تتكشّف خطوة خطوة , لأنه جوهريا نص ينبني على فجوة : مسافة توتر بين بنيته السطحية وبنيته العميقة , بين اللغة الاستعارية والكنائية , ولغة التقرير المباشر “ . بقي أن نتوقف عند إشكالية المفردة الشعرية لنشير إلى أنه بدءا من الجرجاني ووصولا إلى دي سوسير وبارت وتادييه وأدونيس , جرى التأكيد على أنه ما من كلمة شعرية بذاتها أكثر من غيرها . فالألفاظ عند الجرجاني : “ لا تتفاضل من حيث هي كلمة مفردة» وهذا ما يؤكده تادييه بقوله : «لا وجود للكلمة خارج العبارة , وبالنسبة ( للوسط اللساني ) فإن الكلمة كالحرباء , وكذلك فإنه لا وجود للمفردات الشعرية ». أما الآن وبعد الاطلاع على أسلوبية بالي bally بدأ النقد يتجه إلى دراسة بعض المفردات التي يمكن أن تكون شعرية أكثر من غيرها خاصة الكلمات الموسومة بمثيرات عامة , أو المشحونة بطاقة دلالية كالرموز مثلا , ومنها : (تموز, عشتار , الفينيق .. الخ .
د. بشرى تاكفراست
لكن هذه الصياغة لا تتوقّف عند حدود الاختلاف الشكلي بيــن المصطلحيـن , بل تتعـدّى ذلك إلى اختلاف كل منهما عن الآخر في الجوهر والدلالة . فإذا كان “ عمود الشعر “ يتحدّد بالقوانين السبعة التي صاغها المرزوقي فإن “ الشعرية “ تكسر صرامة تلك القوانين التي تفرض على النص من خارجه لتواصل الكشف عن قوانينها في جملة العلاقات الداخلية للنّص والتي تشكّل بنيته السطحية والعميقة وتجعل منه نصّا شعريا متمايزا , عبر تمايز شبكة دلالاته اللفظية والنحوية والبلاغية والإيقاعية, وما تولّده من رؤى واستبصارات . فالشعرية بهذا المعنى “ كما يشير د . صلاح فضل: “ لاتتوقّف على جودة الاستثمار اللغوي , بل على التحوّلات النوعية للدلالة التي تمثّل نواتها الجوهرية ». إنّ الموضوع الرئيس للشعرية كما يقول جاكبسون : “ هو أن نجيب قبل كل شيء عن السؤال : ما الذي يجعل من رسالة كلامية عملا أدبيا “ أي ما الذي يجعل من نصّ ما نصّا شعريا دون سواه ؟ . وهل تتحقّق “ الشعرية “ في النّص عبر الإيقاع أم عبر الانزياحات الدلالية في الألفاظ والتراكيب , أم عبر البنية الداخلية القائمة على التشاكل والتباين وعلاقات الحضور والغياب , أم عبر رمزية اللعب بالكلمات وتوزيعها الخطّي على البياض , أم عبر تفاعل ذلك كلّه في فضاء النّص مضافا إليه وظيفية الإيصال في العلاقة مع المتلقي ؟ .
قد لا نصل من حيث المبدأ إلى إجابة قاطعة في هذا المجال , لأن “ الشعريّة “ كما قدّمنا لا تتحدّد بقوانين معيّنة , فهي تنتج قوانينها باستمرار عبر كل نصّ جديد , ولا قوانين نهائية ما دام الشعر نصّا مفتوحا ولا نهائيا , أي في كلّ نصّ , وربما في كلّ قراءة جديدة له , ستكون هناك فاعلية معيّنة تكشف عن شعريته , وعن العناصر التي تتحقّق من خلالها هذه الشعرية . ومن هنا ستكون أطروحة كمال أبو ديب في أن “ الشعرية “ تتحقّق فيما يسميه بـ “ الفجوة : مسافة التوتّر “ أطروحة مهمّة بل وأساسية في مقاربة الخطاب الشعري الحديث , لكنّها لن تكون الوحيدة أو النهائية لأن الشعر في جريانه المستمر , وتحوّلاته الدائمة , كالحياة , يستعصي على القوانين والقوالب مهما حقّقت من شمولية في استقرائها واستنتاجها . قضايا «الشعرية » الحديثة : تعاود “ الشعرية “ الحديثة طرح القضايا التي سبق للقدماء أن تناولوها في إطار تحديدهم لـ “ عمود الشعر “ لكنها تطرحها من زاوية أخرى , وفهم مختلف , ولعل الموازنة بين النظرتين تتيح لنا وعيا أعمق بهذه القضايا التي تتمحور حول : معنى الشعر ولغة الشعر . 1 ـ معنى الشعر : تجمع الآراء النقدية في الماضي على تعريف الشعر من خلال خاصية انفراده بالوزن , فنرى قدامة يقول : “ الشعر كلام موزون مقفى يدل على معنى “. وقد أشار كل من الجاحظ وابن سينا وابن خلدون إلى اقتران الشعر بالتخييل أو بالتصوير إلا أنّهم اشترطوا فيه أيضا خاصية الوزن. أما “ الشعرية “ الحديثة فتنحو إلى استبعاد الوزن والمعنى لتحلّ مكانهما الرؤيا والإيقاع . فنرى أدونيس يقول : “ لعل خير ما نعرّف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا , والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة , هي إذن تغيّر في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها “. والمقصود بالرؤيا هنا هو المعرفة القائمة على تجربة باطنية , شخصية وحدسية أي ميتافيزيقيـة , لا تتأسس على أفكار وإنما على اختبار شخصي للعالم عبر محرق الذات . واستنادا إلى هذا المفهوم فإن القصيدة كما يرى أدونيس لا تشرح العالم أو تفسّره , أو تنقله , أو تكتشفه , وإنما تعيد خلقه من جديد على محك تجربة الشاعر . وكأن أدونيس يكرّر هنا ما قاله رامبو ذات يوم : على الشاعر أن يكون رائيا . أما فيما يتعلّق بالوزن والإيقاع فإن الناقد الأميركي استوفر يميز بينهما فيرى أن الشعر إيقاعي والإيقاع فيه أمر لازم بخلاف الوزن , لأن الإيقاع هو حركة الأصوات الداخلية التي لا تعتمد على تقطيعات البحر أو التفاعيل العروضية . وتعمّق خالدة سعيد هذا الفهم للإيقاع بشيء من التفصيل فتقول : “والإيقاع لا يقتصر على الصوت . إنه النظام الذي يتوالى أو يتناوب بموجبه مؤثّر ما (صوتي أو شكلي) أو جو ما( حسيّ, فكري , سحري , روحي ) وهو كذلك صيغة للعلاقات القائمة على (التناغم , التعارض , التوازي , التداخل). فهو إذن نظام أمواج صوتية ومعنوية وشكلية “. لقد بنى كل من أدونيس وخالدة سعيد ويوسف الخال وغيرهم من حركة مجلة “ شعر “ هذا التصور للرؤيا والإيقاع عبر تأثرهم بالنتاج الشعري والنقدي الغربي وهو تصور ينطبق على ما يسمى بالقصيدة التموزية أو السيابية التي عبّرت كما يشير محمد جمال باروت عن المنعطف الجذري للشعر العربي في تحوله من الخطابة إلى الرؤيا , ومن الموضوع إلى التجربة , ومن التقريرية إلى الحدس , ومن التسلسل العقلي والمنطقي إلى وحدة التجربة , ومن الوزن والقافية إلى الإيقاع. وقبل أن يستقر هذا التصور بدأ هو الآخر يهتز أمام الاتجاهات الحديثة في قصيدة النثر والتي تنحو باتجاه ما سمي بـ “ جماليات نثر الحياة “ التي تتناقض كليا مع مفهوم القصيدة التموزية أو القصيدة الرؤيا . وما زالت الاجتهادات قائمة في التنظير النقدي لحركة الحداثة الشعرية التي وصف “ بارت “ شعرها في بعض مظاهره بأنه : ممارسة ذهنية ولعبة مجانية مليئة بالرعب لأنه “ نزهة على تخوم الهذيان “. 2 ـ لغة الشعر : يتّضح موقف القدماء من لغة الشعر عبر تأكيدهم ضرورة المقاربة في التشبيه , ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومشاكلة اللفظ للمعنى . وهذا يفسّر رفضهم للغموض والتعقيد في شعر أبي تمام واستحسانهم للسهولة والوضوح في شعر البحتري . وقد أشار الآمدي صراحة إلى ذلك : “ وليس الشعر عند أهل العلم إلا حسن التأتي , وقرب المأخذ , واختيار الكلام , ووضع الألفاظ في مواضعها , وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه , المستعمل في مثله , وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه“. مثل هذا الفهم المحدود للغة الشعر لم يعد واردا في “ الشعرية “ الحديثة , التي تجعل من الغموض والإيحاء والخروج عن المألوف , والتفرّد في الاستعمال, شروطا جوهرية لتمييز لغة الشعر من لغة النثر . يرى جاكبسون أن كل كلمة من كلمات اللغة الشعرية هي كلمة منحرفة بالقياس إلى اللغة اليومية أي أنها تحمل دلالة جديدة وغير مألوفة . وهذا ما يشير إليه د. صلاح فضل بقوله : “ إن اللغة الشعرية ليست غريبة عن الاستعمال الجيد فحسب , بل هي ضده , لأن جوهرها يتمثّل في انتهاك قواعد اللغة» . بينما يؤكد باختين واستوفر وفاليري فردية اللغة , حيث من الضرورة أن تنشأ مع كل شاعر لغته الخاصة به . وتكاد تجمع معظم الآراء على ضرورة الغموض في العمل الشعري , ولكن ليس ذلك الغموض الذي يصل حد الإبهام والتعمية , بل الغموض المشع كعروق الماس في الصخر , وهذا ما يدعو إليه د . محمد غنيمي هلال بقوله : “ حياة الألفاظ الطويلة , وما تبلور فيها من مأثور أدبي وتاريخي وأسطوري يكسبها تلك المقدرة الرمزية الإيحائية , والغموض والتعقيد مما يزيد عظمة اللفظ أو الرمز . والتناقض بين الصور والرموز لا يعني فسادها , بل على العكس ربما أكسبها قوة “ . ويضيف الناقد يوسف اليوسف “ إن الشعر العظيم يلوّح بمضامينه تلويحا , يخفي قسما من فحواه , ويلمّح بالآخر , تماما كما يفعل الحلم الذي يخاطبنا بصور العلو “ . أما أدونيس فيصل إلى حدّ المغالاة بقوله : “ الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة , ولذلك هو قوام الشعر“. ونصل مع كمال أبو ديب إلى نهاية المطاف في رأيه الذي يقول فيه : “ النص الشعري المتميز هو باستمرار نص من الاحتمالات والإمكانيات , لا نص تقريري, نص يمتلك أبعادا لا تتكشّف أبدا , وأبعادا تتكشّف خطوة خطوة , لأنه جوهريا نص ينبني على فجوة : مسافة توتر بين بنيته السطحية وبنيته العميقة , بين اللغة الاستعارية والكنائية , ولغة التقرير المباشر “ . بقي أن نتوقف عند إشكالية المفردة الشعرية لنشير إلى أنه بدءا من الجرجاني ووصولا إلى دي سوسير وبارت وتادييه وأدونيس , جرى التأكيد على أنه ما من كلمة شعرية بذاتها أكثر من غيرها . فالألفاظ عند الجرجاني : “ لا تتفاضل من حيث هي كلمة مفردة» وهذا ما يؤكده تادييه بقوله : «لا وجود للكلمة خارج العبارة , وبالنسبة ( للوسط اللساني ) فإن الكلمة كالحرباء , وكذلك فإنه لا وجود للمفردات الشعرية ». أما الآن وبعد الاطلاع على أسلوبية بالي bally بدأ النقد يتجه إلى دراسة بعض المفردات التي يمكن أن تكون شعرية أكثر من غيرها خاصة الكلمات الموسومة بمثيرات عامة , أو المشحونة بطاقة دلالية كالرموز مثلا , ومنها : (تموز, عشتار , الفينيق .. الخ .
د. بشرى تاكفراست