د. محمد عبدالله القواسمة - حادثة الخزان في رواية غسان د. محمد عبدالله القواسمة

لا شك في أن الذين قرأوا رواية غسان كنفاني الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية بتفجير سيارته عام 1972" رجال في الشمس1963 " سواء أكانوا من القراء العاديين، أم من النقاد، أم من الباحثين توقفوا عند حادثة الخزان التي انتهت بها أحداث الرواية. فقد دخلت الشخصيات الرئيسية الثلاث في خزان الشاحنة انصياعًا لرأي السائق أبي الخيزران حتى يستطيعوا أن يجتازوا الحدود إلى البصرة في طريقهم إلى الكويت بحثًا عن العمل، وهربًا من الوضع المأساوي الذي انتهوا إليه بعد خروجهم من فلسطين، واغتصاب العصابات الصهيونية أرضهم عام 1948.

يموت الثلاثة في الخزان اختناقًا تحت أشعة الشمس اللاهبة، وأبو الخيزران يثرثر مع شرطة الحدود ليشغلهم عن الانتباه إلى من في الخزان، وعندما يعود إليهم يتردد صوته وهو يلقي جثثهم بالقرب من مكب القمامة: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟

يذهب كثير من الدارسين للرواية إلى أن سؤال غسان كنفاني الاستنكاري على لسان أبي الخيزران للشخصيات الثلاث: أبي قيس، ومروان، وأسعد بأنه جاء لتحريض الفلسطينيين على المقاومة والقتال ومواجهة الأعداء من أجل استرجاع فلسطين، ولإدانة تركها ومحاولة بعضهم إيجاد حل لمشكلته، بالانتقال إلى بلد آخر، حتى ولو كان عن طريق التهريب.

أرى من المستبعد أن يحمّل غسان كنفاني سؤال أبي الخيزران تلك المعاني؛ فأبو الخيزران حتى لو سمع دق الثلاثة على الخزان فإنه لن ينقذهم، وسيتركهم إلى الموت كأي قائد طاغ وفاسد. فالرجل، كما تصوره الرواية، وكما دل عليه عنوانها فاقد الرجولة، طري العود والموقف كالخيزران، لا يهمه غير مصلحته وعلاقته القوية بالشرطة في نقطة التفتيش الحدودية، وفي تاريخه أنه عمل قبل عام 1948 مع الجيش البريطاني، ولم يساعد المجاهدين الفلسطينيين على مقاومة العصابات الصهيونية. فما تساؤله هذا غير نوع من تحميل الضحية مسؤولية نهايتها، والتبرؤ مما حدث.

والحقيقة أن حادثة الخزان، هي الحدث المركزي في الرواية وهو الذي منحها القوة والأهمية، وفيه تركزت الرموز التي حملت المعاني والأفكار التي رغب غسان كنفاني في إظهارها بما يتصل بالقضية الفلسطينية والإنسان الفلسطيني. لكن لا يغيب عن بالنا أن الرواية عامة لا تتكون دلالتها من خلال عنصر واحد من عناصرها بل إن جميع العناصر تساهم في تقديم هذه الدلالة، ثم إن رواية "رجال في الشمس" شأنها شأن كل أدب عظيم يصلح لكل زمان ومكان بانفتاحه على دلالات كثيرة.

إن غسان كنفاني ببصيرته الثاقبة وخياله الخصب، يُصور من خلال حادثة الخزان الحالة التي انتهت إليها القضية الفلسطينية عام 1948م بضياع فلسطين وتشتت معظم أهلها، ثم ينبئ من خلال الحادثة نفسها بما آلت إليه القضية في مرحلة ما بعد أوسلو التي انتهت بسيطرة إسرائيل على الضفة الغربية والتحكم في قطاع غزة. ولا يكتفي بذلك بل يرسم بأسلوب روائي مدهش طريق الخلاص من المأزق الخطير مأزق أوسلو أو الخزان الذي وضعت فيه القضية الفلسطينية ولم تخرج منه.

إنه إذ يأسى للذين ارتضوا بمحض إرادتهم أن يدخلوا الخزان بناء على رأي رجل مثل أبي الخيزران فإنه يرى بأن على الفلسطينيين رفض قيادة مثل هذا الرجل ومقاومتها؛ لأنها تقودهم إلى الهاوية. كما أن من الخطأ ترك الوطن وتلمس الحرية والخلاص بالخروج منه.

هكذا فإن حادثة الخزان في رواية غسان تُقرأ بأنها تصوير ليس لما حدث للقضية الفلسطينية عام 1948فحسب بل أيضًا لما حدث لها إثر أوسلو عام 1993م. وهي تُظهر بأن الخلاص يكمن في مواجهة الظروف التي أدت إلى خزان أوسلو. وهي أي المواجهة ليست بمستحيلة على شعب يسعى نحو الشمس لا شمس الصحراء الحارقة، بل شمس الحرية الدافئة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى