د. خالد محمد عبدالغني - نقاد رواية "البدلة البيضاء للسيد الرئيس" لعلي لفتة سعيد

تلخص لنا نهال القويسني الرواية بقولها :" إن الرواية تقدم نموذجًا لشخصٍ منذ طفولته وصباه حتي تمام نضجه ورجولته . ومنذ بداية قراءتي للكتاب شعرت أن الكاتب قد أقدم على مغامرةٍ كبيرة، حين اختار أن يجيئ السرد على لسان طفلٍ صغير يتيم، حيث أوكل إليه مهمّة السارد العليم. وقد استغرق هذا السرد نصف حجم الرواية تقريبا. ، حيث تجري الأحداث ووصف الشخصيات والأماكن بعيون ووجدان ومشاعر طفل صغير. وما أدراك ما وجدان الطفل، يرى العالم من حوله بعيون براءته وإدراكه الفطري، ومخاوفه وتوجّساته. كل ذلك مع ألم اليتم وفقد الأم نتيجة المرض العضال، الناتج عن الفقر وسوء الأحوال المعيشية. ببراءته الطفولية يعاني من قسوة زوجة الأب، وضيق الحال وقلة حيلة الوالد، الذي يحنو عليه ويتولّاه بالرعاية قدر استطاعته، بعد عودته من عمله الشاق الذي أثر على صحته وحياته. ويلفت نظر القارئ تلك المقاطع التي تشير إلى صور الزعماء بالبدلة البيضاء على حائط مدخل الدار، ومحاولة الأب تلقين ابنه نظرة فخيمة للزعماء تقترب من التأليه. وهنا ننتبه إلى نظرة البسطاء للزعماء والقادة، ومدى قناعتهم بالقدرة الفائقة لهؤلاء على القيادة وحسن تسيير الأمور، وكأنهم من طينةٍ غير باقي البشر، ويقدرون على ما لا يقدر عليه الآخرين. طفل مقهور صامت طوال الوقت بناء على نصيحة والده، (أليس هذا حال معظم مواطني إقليمنا) يضع رأسه بين ركبتيه ويبكي لساعات طويلة، او يتأمّل السفن والمراكب ويتمنّى السفر على ظهر إحداها، ويتنسّم الهواء على شاطئ الفرات. لا أحد يشعر به أو يهتم بأمره. مقهور بظروفه التي وجد نفسه فيها، بيتمه الذي كُتِبَ عليه، بفقر والده وضيق الحال وصعوبة الحياة.
ويشير حسن الموسوي في قراءته بقوله :" بداية سوف ادخل لقراءتي النقدية لهذه الرواية عن طريق العنوان ( البدلة البيضاء للسيد الرئيس )، فالعنوان هو عتبة نصية او نص موازي وهو المدخل الى المتن السردي، و يعرف العنوان ( على انه مجموع العلامات اللسانية ، كلمات مفردة ، جمل، التي يمكن ان تدرج على رأس نص لتحدده و تدل على محتواه العام و تعرف الجمهور بقراءته) و يتألف العنوان في هذه الرواية من مقطعين هما : البدلة البيضاء، و البياض هنا يعني النقاء ولعل هذا ما ينقص مدلول بطل الرواية الذي عاش في بيئة لا نقاء فيها وهو بحاجة لهذا النقاء من اجل مواجهة المجتمع الذي بدء يحتقره نتيجة السلوك المنحرف لزوجة ابيه و التي كانت تتردد على الأسواق كثيرا و تقيم علاقات غير شرعية مع العديد من الرجال في السوق و في مطحنة المدينة و عدم قدرة الأب الذي يعمل في معامل الطابوق و المغلوب على أمره في السيطرة على زوجته الشهوانية . السيد الرئيس و هو رمز للسلطة و القوة ، هنا تبلورت شخصية مدلول الباحث عن النقاء و السلطة لمواجهة قهر المجتمع و نظرته الدونية له و من ثم الإندفاع نحو العاصمة بغداد من اجل طي صفحة الماضي في مدينة لا يعرفه فيها أحد و من ثم الحصول على القوة و السلطة .
ثم يقول عبدالنبي فرج عن البدلة البيضاء للسيد الرئيس :"في هذه الرواية الشخوص تقف على الحافة، وكأن ليس لدية قدرة على دفع ثمن التورّط العميق، فهم ليسوا أحياء ولا أموات، ليسوا فاسدين تماما، ولكن لا يتمتّعون بالنزاهة، فزوجة الأب الذي تعيش حياة البؤس مع زوج لا ترغب فيه وفيه رائحة القذرة وتريد أن تستمتع بالحياة لا تتطوّر في علاقة جنسية كاملة ولكن تسمح بكلمات الغزل والنظرات والتحرّش البسيط. أم ساهي عاد زوجها بقدم مقطوعة وعاجزا جنسيا ثم يموت بعد ذلك ليتركها وهي فائرة ولديها رغبات جنسية مجنونة، ورغم ذلك لا تتورّط في علاقات خارج المنزل، تظل طوال الوقت منشغلة بالجنس والكلام الجنسي، ثم تجد ملاذها في استغلال الراوي الطفل جنسيا بشكلٍ سطحي وتتلصص عليه في الحمام. والراوي نفسه يعمل في دولاب الدولة الفاسد باعتباره ترس صغير مجد، ولكن تظل هناك دائما منطقة لا يستطيع تجاوزها.
ويعتبر حمدي العطار هذه الرواية التي تحمل اشتغالات نقدية متنوعة وعميقة تمكن الروائي من بناء شخصية قلقة تمثل ما مر فيه العراق في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وتوفق كثيرا في بناء المشهد السردي المتنوع الايقاع لتأتي الخاتمة قمة في الابداع (صار الحنين يجرني ، ولا أعلم أن كان هروبا أم محاولة لغسل الذنوب…وبعد أن شاهدت الشباب وهم يحرقون جدارية صدام. وثمة هلع واحتدام وتدافع، حتى أن حقيبتي الصغيرة تمزق غطاؤها وكادت تسقط من كتفي. صعدت على كتف أحد الشباب من الجيل الجديد، وهتفت: ( بالروح بالدم نفديك يا عراق).
في حين يقول أحـــمَـــد الـمُــــؤذّن :"الرواية شاهـدة على عـصرها كعمل روائي وثــق لمختلف تحولات المجتمع العراقي إبان الحرب العراقية الإيرانية، مرورًا بحرب غـزو الكويت وما تلاها من أحـداث عاصفـة مع اطباق الحصار الدولي بما يتناسب والأجندات الأمريكية التي أرادت آنذاك تدمير مستقبل العراق وهو ما تـم فعـلا، الجميع يعرف بقية التفاصيل وما حصل، لذا فإن الكاتب، وضع في المتـن إشارات تدلل على تدهـور اللحمـة الاجتماعيـة والإنسانية داخل بنية المجتمع العراقي الذي صار يدفع أثمان باهضة من مستقبله وحاضره وأمـنه ورفاهيته وقد أكتوى بديكتاتورية حــزب البعث التي زجت بالعراق في الجحيم حيث تحولت محافظات الجنوب لخزان بشري لا ينضب وبمثابة وقــود للحـرب.
وتقول عبير العطار الحرب صنعت خللًا في تركيبة السكان فترمّلت النساء مبكّرًا جدا والأطفال كثر، صاروا أيتامًا وقهرت نفوسهم منذ حداثة العمر، فماذا تصنع إذن النساء بشبابهن إذا ما غاب الرجال للعمل المقيت أو غيبهم الموت من الحرب أو رجعوا بعاهات لا شفاء منها؟ المبدع في روايته جلّ همّه العراق والشعب العراقي وما آلت إليه النفوس التي أثقلت كاهلها الحروب حتى وإن غاب مدلول بطل العمل أكثر من عشرين عاما.. وقد عاد شخصًا آخر تعلّم كيف يكون الاقتراب من السلطة ويضع كلمات خاله في ذاكرته باستمرار: "لا تكن في موضع من يعض اليد، كن معهم لتكون في موقعك الأعلى"
وتقول فاتن فروق عبدالمنعم :" صورة الرئيس صدام حسين معلقة ببدلته البيضاء، وضعها والد مدلول في مدخل البيت، الرئيس بالبدلة البيضاء وصدر والد مدلول أحرقه النفط الأسود، الرجل يرتدي البدلة البيضاء في الاحتفالات الخاصة جدا مما يدل على الانفصام الكامل بين صدام حسين وشعبه الذي أحرقه النفط الأسود، الكاتب يريد أن يقول أن البترول سبب نكبة العراق أو قل أنه سبب نكبة العرب كلهم، أحرقهم وأفسدهم، وأنشأ حياة رأسمالية طاحنة أحالتهم إلى كائنات تتراوح بين كائنات حية معذبة وتروس تحترق آيلة للإنهيار في أي وقت، في ظل ديكتاتورية صدام حسين وحزب البعث الذي خلف شعب خائف سواء انتمى للحزب وبلغ مرقى القمة فهو محاصر بالخوف أينما كان، القمة في هذا الحزب تعني أن يكون الفرد مراقب طول الوقت، أو لم ينتم إلى الحزب هو أيضا في خطر ماحق. مدلول يقولون عنه في الحي الذي يسكنه أنه ابن الخطيئة تربّى بين قحبتين، زوجة أبيه التي تخاف على نفسها من والده المصاب بالسلّ، وصديقتها أم ساهي الخياطة التي تذهب لتبتاع احتياجاتها من صيهود فيكتفي منها بالتعري ليرى منها ما يجعله يعطيها مشترواتها بنصف السعر وأحيانا مجانا، كأنهما يتخلّصان من الرمضاء بالنار فينتهيا إلى لا شيء يذكر أو بلوغ فعل مادي يشبع الأجساد الجائعة.
وترى عبير عبدالله أنها رواية مؤلمة كطلقة نار في قلب ضمير الإنسانية، صدق موجع على قلة صفحاتها الـ 155 تنير الطريق لمن يريد أن يفهم ويعي ويدرك أو يصدم من يقرأها للمرة الأولى بحقيقة الحياة وخبايا بعض النفوس . يحكي على لسان السارد العليم أو على لسان البطل مدلول طفلا ورجلا مكتمل الرجول في الثلاثين من عمره تقريبًا . يهتم بالمتلقي ويخاطبه، وكأنه يحكي له ببراءة وخفة دم تارةً وتارة أخرى بوجع حكيم عرك الحياة وفهمها بما صنع هو من أجله ، ويدور بينهما حوار ص 76 / 75 (أحاول جاهدًا أمامكم أن أرتب خطواتي وفقرات ذكرياتي، لأني أعلم أن بعضكم سيترك الحكاية ويمسك بشيء هنا أو هناك ويقول لم أفهم شيئًا أو أنك تتعمد طريقة الحكي المتقافزة، اسمعوا ما أقوله وعليكم ربط التفاصيل التي ترونها مناسبة لكم في معرفة الغايات). استخدام الرمز ص 76 (صورة البدلة البيضاء التي أحملها معي أينما أذهب، تلبية لما أوصاني به أبي). وهي صورة غلاف الكتاب التي يتخذها أملا وهدفًا وإشارة أيضًا لتأييد الكبار وأنه على العهد معهم لشدة خوفه. وهذا أدى إلى أن تلتقط له الصورة التي غيرت حياته وزادت مراتبه، وفيها تظهر شدة انحنائه وتذلله الواضح للرئيس صدام حسين.



1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى