وارد بدر السالم - في أدب الزلازل

موضوعة الزلازل المدمرة لجغرافية المدن وحياة البشر شحيحة في سرديات الرواية والسينما والفن التشكيلي، وعموم الجماليات الفنية التي عادة ما تلتفت إلى هذه الاستثناءات في الطبيعة وتقدم صورة مقاربة لها، وفي بعض الأحيان صورة مبالغًا فيها، لتثوير الحس الإنساني للمشاهدين، إذا ما استثنينا الطابع التجاري لمثل هذه الأفلام السينمائية.
الفيلم الأميركي San Andreas، الذي أخرجه براد بايتون، قريب من حوادث الزلازل بوصفها الكارثي، متخذًا من مدينتي سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس مسرحًا كارثيًا لها بعد أن اقتحمهما زلزال مدمر بقوة أكثر من 7 درجات ريختر، وكاد يمحوهما. هذا الأثر مع قصة إنسانية فيها كثير من المغامرات والتشويق، جسّد الأدوار الصعبة فيها ممثلون ذوو بنى جسمانية تلائم هذا النوع من الأكشن الجماهيري. وإذا كان نجاح هذا الفيلم تجاريًا وجماهيريًا، فقد وقف وراءه مخرج قال بأنه يمكن للسينما أن تكون قريبة من الوقائع الدرامية التي تجتاح العالم عبر ثورات الطبيعة، وتتمكن من تجسيدها على نحوٍ تقريبي باستخدام إمكانيات السينما وتقنياتها الحديثة وقبل هذا الخيال الإخراجي الذي يتمتع به بايتون الذي مكّنه من أن يكون قريبًا من واقعة الزلزال.
قد يكون هذا مدخلًا سريعًا لسرديات الزلازل عبر السينما الأميركية، من دون الدخول إلى تفصيلات درامية ومفاجآت تصويرية ومشاهد ناجحة، في التعبير عن رعب الإنسان وهو يخوض معركته ضد الطبيعة القاسية، في قصة قد تكون حدثت، أو هي من صنع الخيال السينمائي، الذي تمكن من أن يحيط بالكارثة وتداعياتها الاجتماعية بطريقة مثيرة. لكنه في الأحوال كلها كان ساندًا متحركًا لتصوير الأوجاع البشرية في محنتها الزلزالية.

صوت الأرض... صوت الزلزال
وفي خضم تداعيات الزلازل التي ضربت سورية وتركيا، وما خلّفتها من نتائج كارثية على المستوى الإنساني من وفيات غير قليلة في كلا البلدين، ومن ثم على المستوى النفسي الذي ترك عشرات ومئات الألوف هائمين في الشوارع والجوامع، لا نملك ونحن في صدد استرجاع التاريخ المبسط لهذه الأحداث المؤلمة، إلا أن نستعيد عام 2019 من شهره السابع حينما أتى على العراق زلزال ضرب البلاد من شمالها إلى جنوبها. والاستعادة هنا صورية ووصفية، كمقاربة سريعة لما حصل في سورية وتركيا، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان بوضعٍ مستريح وهو يسمع صوت الأرض التي تتحرك وتندفع من تحته. صوت غريب وغامض لتزاحم صخور عملاقة وانشطارها تحت الأقدام. الأمر يشبه صوت حركة سرب قطارات مسرعة جدًا تبحث عن شيء لتصطدم به حتى تتوقف، وليس مهمًا ما تتركه وراءها من خراب بين الناس؛ من بنايات مهدمة ونفوس جريحة، أو ميتة، وانقلاب أرضي يزحزح كل شيء من مكانه. فالقطارات الجامحة المنطلقة بأقصى سرعة ليست لها إشارة ولا موعد، لكن أصواتها المخنوقة تثير الرعب والهلع وهي تمر من تحتنا كنذير عاصف يكتسح كل شيء أمامه.

"لا نملك ونحن في صدد استرجاع التاريخ المبسط لهذه الأحداث المؤلمة، إلا أن نستعيد عام 2019 من شهره السابع حينما أتى على العراق زلزال ضرب البلاد من شمالها إلى جنوبها"

في الأقل، هذا ما شعرنا به في محنة زلزال مرّ علينا عاصفًا ومفاجئًا؛ ولأن الكارثة تمر في ثوانٍ معدودة، فإن الأمر لا يمكن استيعابه إلا بعد وقت، حينما ترى كل شيء مهدمًا، فالخراب يوضح شكل الزلزال المدمر. والأرض تتوقف عن الاهتزاز، وتشعر بأن القطارات الجامحة اصطدمت بالمنازل والبنايات وخلّفت وراءها قتلى وجرحى وخرابًا لا نظير له.
هذا الشعور المرير نعرفه ونستوعبه أمام (زلزال القيامة) الأخير في محافظات تركيا وسورية، ومع مشاهد الموت والدمار الماثلة بوضوح، تلك التي تبعث الأسى والحزن والخوف أيضًا، تعيدنا إلى كوارث الطبيعة المستمرة التي واجهها الإنسان منذ قديم الزمان: زلازل مهلكة وفيضانات تسونامية مخيفة، وأوبئة وأمراض فتاكة، ليس آخرها كورونا. وقد تجسد بعض هذا في سرديات كثيرة من الآداب والفنون على مر التاريخ الإنساني، وأصبحت تلك المدونات والشواخص الأدبية والفنية بمنزلة المراجع والأراشيف، التي لا غنى عنها للرجوع إليها وقراءة زمنها الجغرافي والسياسي والاجتماعي وظروفها التي تحيط بها. وهو ما حدث قبل سنتين بشيوع وباء كورونا، حيث أضحى تقليب الماضي عبر الروايات والقصائد كشافًا ضروريًا لقراءة ماضي الأوبئة القاتلة. لكن اليوم يصعقنا ما حدث في تركيا وحلب واللاذقية من مشاهد مؤلمة جدًا، بشواهد الموت والخراب والدمار الشامل، فنتساءل عادة في مثل هذه الظروف غير الطبيعية التي تصيب البشر في كل مكان عن "أدب الزلازل" قديمًا وحديثًا إن كانت هذه التسمية تنفصل جزئيًا عن أدب الكوارث الطبيعية، فالزلازل المفاجئة التي تصيب البشرية وتعيق انسيابية الحياة فيها لا بد أن تكون لها مدونات من السرديات، تتعالق مع فجيعتها الإنسانية غير السرديات الجغرافية والصحية والوثائق الإعلامية في أراشيف الكوارث الطبيعية.


الزلزال اللغوي
"بعد الزلزال"... (صوفي جينجمبري أندرسون)


الزلزال كمفردة مجردة فيها نوع كبير من العنف والقسوة والقوة الاستثنائية الجبارة. ولا يمكن إنكار وقْعها النفسي على سامعها. أما وقْعها في واقع الحدث، فليس الوصف سهلًا فيه. فالزلزال الذي يذكره المعجم الوسيط هو (هِزَّة أرضيّة طبيعيّة تنشأ تحت سطح الأرض، سببُها تحرُّر الضَّغط المتراكم عبر الشُقوق الجيولوجيَّة نتيجة لنشاط بركانيّ...) وهذا يشير إلى حركة الصفائح الصخرية وخروج طاقة من تحت الأرض... اهتزازات ارتجاجية... تكسير الصخور الداخلية... تشققات في باطن الأرض واختلالات فيها... ارتفاع درجة حرارة الأرض... انفجارات بركانية... احتكاك وتمزق صفيحتين تكتونيتين... وفي هذه السرديات الجغرافية التي نبتعد كثيرًا عن معرفتها العلمية، لم نجد ما يوازيها من السرديات الأدبية التي مرت على التاريخ الإنساني. وإذا كانت الحروب العالمية والأهلية التي تحدث دائمًا هي متاع الكتّاب، لما فيها من ويلات جسيمة يمكن إيضاحها بكثير من الأساليب الكتابية والوثائقية، فإن موضوعة الزلازل، بسبب اقتحامها المفاجئ للحياة، تتعثر معها الكتابة وتتباطأ إلى حد كبير، بالرغم مما فيها من مشاهد إنسانية مريعة ومهولة.

"في تعريفات معجمية عربية، نجد بأن الزلزال هو (هول) و(بليَّة) و(مصيبة شديدة)، مما يدل على نوعه الذي يجعل من الحياة موتًا موازيًا لها بقسوته المفرطة"

وفي تعريفات معجمية عربية أخرى، نجد بأن الزلزال هو (هول) و(بليَّة) و(مصيبة شديدة)، مما يدل على نوعه الذي يجعل من الحياة موتًا موازيًا لها بقسوته المفرطة. فقد يعيدنا هذا إلى أن نستذكر زلازل التاريخ البعيد والقريب، تلك التي لها علامة فارقة في الخراب والضحايا كأقوى الزلازل المسجلة في تاريخ البشرية. ومثل هذا الرعب الكبير حدث عام 1960 في تشيلي بالقرب من مدينة فالديفيا جنوبًا، بقوة أكثر من 9 ريختر خارج نطاق القياسات الزلزالية المتعارف عليها علميًا. وكان الجيولوجيون قد كشفوا عن زلزال قديم حدث في الدولة نفسها قبل 3800 عام. هذه القوة الزلزالية، وما خلّفته من قتلى وجرحى ودمار شامل في البنى التحتية والفوقية لم تدخل في السرديات الروائية إلا بشكل بسيط، فمثل هذا الأدب مغيّب تمامًا حتى في الآداب العالمية تقريبًا، لا سيما في الدول التي تقع في مناطق الخطر الزلزالي. ونعتقد بأن هول الصدمة الناتجة لا تسعف الكتابة في تجسيد ما حدث، بسبب صدمة الحدث وسرعته وانتشار دماره بين الناس. ربما على عكس الأوبئة التي لا تشهد دمار بنية تحتية وانهيار عمارات وبيوت ومحال ومتاجر وتشقق شوارع وأرصفة. بمعنى أن فعل الزلزال أقوى من فعل المرض الذي لا يستهدف البنية التحتية في الدول والمجتمعات. فقد يكون هذا أحد الأسباب التي (تمنع) الكتابة لما فيها من مأساة عامة. وهذه ملاحظة قد لا تكون مثالية في خصوصية الكتابة السردية والشعرية لما لها من أسرار فنية وجمالية. (التركية أليف شفق تستعيد في نص حمل عنوان "صيف في المدينة" تفاصيل حقيقية لليلة كارثية حلت على إسطنبول عام 1999)، لكن يمكن للفن التشكيلي أن يكون هو الأسرع في تناول وتجسيد هذه المصيبة الإنسانية. فاللون قادر على أن يستجيب لهذه الانفعالات وليؤرخ الواقعة بواقع محض أو بتجريد خالص لشكل الألم الجماعي الذي عانى منه المحاصرون تحت الأنقاض (من القرن الثامن عشر عُرفت لوحة "بعد الزلزال" للفنانة صوفي جينجمبري أندرسون، 1884) كما يمكن للقصيدة أن تتداخل مع سردية الحدث الزلزالي. فانفعالات الشعر ليست هي انفعالات الرواية. فهذه الأخيرة تحتاج إلى زمن سردي آخر وخيال يجمع الواقعة الزلزالية، لا من أطرافها، بل من معطياتها السيئة التي دائمًا تجعل أرقام الوفيات في تصاعد مستمر.


أدب الزلازل العربي
في وطننا العربي الواسع، لا نجزم بوجود أدب الزلازل. فالصفيحة العربية لا تشهد كثيرًا من الزلازل مثل هذه المفاجآت الكارثية. مع أنها حدثت في الأعوام الأخيرة، لكن ليس بشكلها المأساوي الذي صارت إليه بعض محافظات سورية وتركيا. وإن تغييب مثل هذا النوع من الأدب لا نظنه مقصودًا، بل هو تجربة ميدانية غير مكتملة الأركان لدى أدباء السرد على وجه الخصوص، لاسيما في وطننا العربي المنشغل بالمؤامرات والطائفية والحروب. لكننا قد نجد مفردة (الزلزال) تتكرر في روايات ومسرحيات مجردة من هذا الحدث الجغرافي الكبير. فثمة مسرحية أخذت من الزلزال عنوانًا لها لمصطفى محمود، وهذه السردية الحوارية لم تتوجه إلى مناطق الزلزلة كما يشير العنوان، بقدر ما كانت إرهاصات كاتب قدّم شخصيات مضطربة، مثلما لدى الجزائري الطاهر وطار رواية "الزلزال" التي اتجه فيها إلى الخيال السردي في محاولة رصد ظاهرة النزوح الريفي إلى المدينة، وتكوّن (مجتمع العراة وروّاد المزابل)، وما خلفته من مظاهر مجتمعية سلبية، كالبطالة، والتحايل، والتجارة العشوائية.
وفي هذا السياق، ذكر الكاتب الجزائري محمد جعفر بأن رواية جيلالي خلاص "رائحة الكلب" هي من النوع الزلزالي الذي نعنيه، إذ تروي سيرة شخص عالق تحت الأنقاض خلال زلزال 1980 الذي ضرب مدينة الأصنام، أو شلف كما صارت تسمى عقب عاصفة الزلزال.
إن "البلية" و"المصيبة" و"الهول"، كما جاءت في القواميس العربية، نعتقد بأنها تحتاج إلى سرديات زلزالية تؤرخ وتوثق هذه الأحداث المريعة التي تكلف الإنسان كثيرًا من التضحيات المنظورة وغير المنظورة. وما دامت صفيحتنا العربية أصبحت اليوم قريبة من الصفائح الزلزالية المجاورة، نرى وجوب التبصر لهذا الأمر المخيف. ليكون لنا أدب زلازل عربي، كجزء من أدب الكوارث الطبيعية التي أخذت تعصف بنا.


إشارات وهوامش:
⦁ المعجم الوسيط.
⦁ المعجم الغني.
⦁ محمد جعفر ـ كاتب جزائري ـ من صفحته الفيسبوكية بتاريخ 8 فبراير 2023.
⦁ جريدة النهار 9-2-2023.
⦁ أحد أسوأ الزلازل في التاريخ الذي وقع في مدينة حلب كان في 11 أكتوبر عام 1138، وتسبب في مقتل حوالي 230 ألف شخص، كما ذكره المؤرخ ابن تغري بردي في القرن الخامس عشر.
⦁ فالديفيا في جنوب تشيلي، حدث فيها أقوى زلزال عام 1960 (9 درجات) ووصل عدد ضحاياه إلى نحو 1655 ضحية.
⦁ مدينة لاوديكيا التاريخية في تركيا تعرضت لزلزال أدى إلى تدميرها عام 494 قبل الميلاد. وقد عُثر على لوحة جدارية ضخمة يبلغ عمرها 1750 عامًا من تحت ركام الزلزال.


⦁ ويكيبيديا ـ الموسوعة الحرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى