بديع صنيج - أدباء سوريون: لن نساعد الزلزال.. كيف رأى شعراء وأدباء سوريون الزلزال الذي تسبب بفاجعة في بلدهم؟ وماذا كتبوا؟

عندما تنصرفُ الجيولوجيا إلى أهوائها، وتُصفِّقُ طبقات الأرض صفقتها الصفيقة، يقع الزلزال، فتميد المنازل وتتنازل البيوت عن كونها ملجأ يحتمي ساكنوه في قلبه، بل تصبح هي مصدر الخوف، وإزاء ذلك تحتدم مشاعر العجز والألم، ويصبح للصراخ المكتوم نبرة عالية تتصاعد في أرواح الأدباء، فتراهم مرَّةً يقتاتون من أحزانهم ليُصوِّروا هول الفاجعة التي أودت بالبشر والحجر، وأخرى يُعاتبون الجيولوجيا على عنجهيتها المريرة، وفي ثالثة تُشبَع سردياتهم بالسَّخط على قوانين الطبيعة، وعلى السياسة الخرقاء التي تقترف زلازل أقسى على المنكوبين، في حين يتأمَّل كثيرون الثواني الثقيلة لانزياحات الأرض واحتمالاتها الرهيبة وضحاياها ومنكوبيها، جاعلين من كلماتهم زلزالاً جمالياً في مناهضة الزلزال وهزّاته الارتدادية، حاملين في أيديهم الوردة التي تُوبِّخ العالم، كما قال الشاعر المغربي أحمد بركات في قصيدته "لن أساعد الزلزال".

تأثُّر الأدباء تجاه مثل هذه الكوارث التي ولو نجوا منها فإنها تبقى كطعنة في القلب، لا يترك مجالاً للتأخير، فيُصبِح التعبير عنها أدباً عاجلاً، لكنَّه زاخر بالشفافية والغوص في أعماق الروح الإنسانية التَّواقة للخير والجمال والسلام، لذلك فإن مخيلاتهم تُزلزل المعاني، وتُوارب اللغة وتستنفر الصور، علَّها تكون صرخة في وجه ضمير العالم وغطرسة الطبيعة.

الشاعر السوري محمد فؤاد الرفاعي كتب تعليقاً على صورة الطفلة التي تحتضن رأس أخيها الصغير وهما تحت الركام: "منذ رأيت هذه الطفلة وأنا أُحِسُّ بأنَّ ثمّةَ غرفة تعذيبٍ في رأسي، وأن آلامي قطيعٌ من الأبقار الدَّاشرة في الحلق، وأن صراخي بلا أقدام.. يا إلهي ما أقساكِ يا حبيبتي".

أما الأديبة السورية أنيسة عبود فتُعاتِب البحر الذي يلعب الغمّيضة مع الزلزال، وتتألم على مدينتها جبالا (الاسم القديم لجبلة) وما أصابها من جرَّاء الغول الذي ينهش ضحكاتنا وسلامنا وحياتنا، وبلغة مناجاة غاية في الجمال تُوثِّق أوجاعها على البلد وأطفاله، إذ تقول: "لم تَعُدْ يا بحرُ صديقي/ كيف لكَ أن تظلّ واقفاً/ مبتسماً تتسلّى مع أمواجِكَ/ العاتية/ تلعب "الغميضة" مع الزلزال/ ونحن قلوبنا في العراء/ تبعثر شهقاتها في المطر./ عادةً/ الجارُ يسألُ عن جارِهِ/ والوردُ يسألُ عن عطره/ والنوافذُ/ تركضُ خلفَ الأحباب/ وأنت رابضٌ في صمتك/ في حياديّتكَ/ أمام الغول الذي ينهش ضحكاتنا وسلامنا وحياتنا/ والله يا بحر/ أما حزنت على الأطفال/ حين مالَ الدَّهرُ على تغريدها/ وعُمْرُ حاراتنا من القهر سال؟/ حيَّرْتنا/ نبكيكَ/ أم نبكي علينا../ جارَتُكَ/ جابالا الموشّاة بالبرتقال خاويةٌ/ هجَرَتْها النّوارسُ والحدائقُ والأغنيات/ حتّى المآذن مالَ صوتُها/ والصلاةُ بَكَتْ على آياتها/ آه يا مدينتي/ يا أهلي/ يا سورية/ يا وطني المنكوب/ أمهلنا/ لا تذرف ورقك الأصفر/ حتى نُغَطّي أشلاءَنا/ ونكفكف أعمارنا/ ونصرخ في وجه الآه/ لنا الله/ لنا الله".

الشاعرة عبير سليمان كان لها سرديتها المختلفة، فالألم والنكبات التي تحاصر الإنسان السوري قادرة برأيها على خلخلة النظم الأخلاقية العالمية المتسترة وراء عدالتها الواهية وقِيَمها الزائفة، فها هي تقول: "أتخيّل روح السوري الذي قضى تحت الأنقاض وهي تبصق على جميع أنظمة الدول مُدَّعية الإنسانية وأنصارها من صبيان وبنات أشباه ليبراليين، وعلى جميع الأنظمة مُدَّعية نصرة الإسلام وأزلامها ونسوانها من سلفيين، ذلك عندما ترى تلك الروح طائرات الإغاثة تطوف حول سوريا نحو تركيا من دون أن تمرّ بها بسبب الحصار الوغد والعقوبات النذلة، وعندما تسمع تلك الروح الذين ينتقون مدناً محددة يأسفون لمأساتها ويشمتون بغيرها. يمكن للسوري المنكوب اليوم أن يضع معايير جديدة للأخلاق وللقيم وللإنسانية، ومن دون شك سيسقط "أخلاقيون" كثر و"مؤمنون" كثر و"أحرار" كثر من لائحة تلك المعايير".

أما الشاعر والمترجم السوري أسامة إسبر فيتحدث في إحدى شذراته عن قتلة آخرين غير الزلزال، ويُحمِّلهم مسؤولية ما حصل من خراب ودمار وموت، يقول: "ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يُمَهِّد الطريق لفتكها الأشدّ مهندسون يمرِّرُون كُرَةَ الخديعةِ كي يُسجِّلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومُتعهِّدون يُديرون فريقَ الخِداع، وقضاةٌ تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين".

وفي توصيف بليغ للمأساة ضمن شذرة أخرى: "نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتَّت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائرٍ مذعور".

أما شعراً فيُوسِّع إسبر دائرة رؤيته للكارثة وأهوالها، وبنظرة ثاقبة لوجودنا الهَشّ منذ غابر الأزمان. يُصوِّر ببراعةٍ كيف أننا نهرب من الفواجع التي تُلاحقنا وستلاحقنا إلى الأبد، ونحاول التوازن رغم انزلاقات السياسة وأرجحة التاريخ وطغيان الظلام، فها هو في قصيدته "على خط الزلازل، على خط الحروب" والتي لحَّن مقتطفات منها الملحن السوري المبدع مروان دريباتي وأهداها إلى ضحايا الزلزال، يقول:

"حين جئْنا إلى الحياة/ وُلدْنا على خط الزلازل،/ وكبرنا على خطّ الحروب/ ومنذ الولادة والأرضُ التي تحتنا تميدُ بنا،/ والبناياتُ التي نعيش فيها تتأرجح/ كأنها مبنية في الفراغ./ يأتينا الضوء بالقطّارة/ والظلام كنهرٍ كوني./ دوماً نسير على حبل البهلوان/ ونتعجّب كيف نتوازن طيلة الوقت فوق الهاوية/ وهي تقول لنا بصوت مسموع:/ أينما هرولتم فأنا تحتكم!/ وحين تنشقّ الأرض غاضبةً وتبتلع كل شيء/ حين يمدّ التاريخ مخالبه/ ويمزّق قطعاً من الخريطة/ حين تكشّر السياسة عن أنيابها/ وتقضمُ حديد البنايات ورؤوس البشر/ تأخذ المسرحية أبعادها/ في انفجارات متتالية/ في تدافع جنوني/ في انزلاق أبله للصخور/ في شقّ كأنه شدقُ الجحيم/ في طيش في باطن الأرض/ مدروس أيضاً في رؤوس كثيرة./ تتكسّر الأجساد/ فوق صفائح الطغيان/ كما يحطّم الاهتزاز الأعمى جدران الأرض./ أيتها الصفائح التكتونية الكبيرة التسع/ أيتها الصفائح الصغيرة الاثنتا عشرة/ التي تَضُمُّنا جميعاً بذراعين صخريتين/ وتتحرك بطيئة فوق وشاح الأرض/ أيتها الأحجار التي تسحق رؤوساً،/ أيتها الأنقاض التي تدفن أجساداً/ أيتها الرصاصات والانفجارات التي تدوي/ يا صنّاع الحروب والفقر/ نحن هنا،/ على قشرة الكوكب/ نركض بين الاهتزازات/ هاربين منذ آدم/ من كوى في الكتب المقدسة/ من كوى في الشعارات/ من كوى في العقائد/ من كوى في الرايات/ الأرض تغلي تحت أقدامنا/ خلفنا تركض الموجة/ وتحتنا تتطوح الصخور/ في انهدامات أبدية".

وتبقى لغة الشاعر هاني نديم على بساطتها بليغة في اقتناص الصورة العمومية للمشهد، التي يرانا فيها جميعاً بحاجة إلى إنقاذ من عبثية الموت في نشيده الطويل المُضمَّخ بالأسى والحزن والفقدان، يقول: "حزانى يهرعون لحزانى/ منكوبون ينقذون منكوبين/ مفقودون يبحثون عن مفقودين/ بيوتٌ شاخصةٌ من الخوف تنظر برعبٍ إلى بيوتٍ قضت/ نشيدٌ طويلٌ للموت في براحٍ أصمّ../ يا للحزن.. يا للأسى".


بديع صنيج
صحافي من سوريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى