د. أحمد بلحاج آية وارهام - ملمح من تعبيرالشعر العربي عن ظاهرة الزلازل

نكاد لا نجد نفسا غير هيابة أو وجلة من الظواهر الطبيعية المخيفة كالزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات المدمرة.فنحن مفطورون على الهلع مما يؤلم،والسرور مما يسعد.ولذا نميل كثيرا إلى تفسير المضر والمكيف تفسيرات متأرجحة بين العلم والدين،وحتى الخرافة.ولا شك أن هذا الذي يحدث في الطبيعة ،ويثير الخوف في الناس له غايات سرية يغيب عنا الكثير منها.وسنقتصر هنا على ظاهرة الزلازل التي عادت أخيرا إلى الواجهة بعد ما فعلته أخيرا في تركيا وسوريا.
فما هي الزلازل؟وما أسبابها؟وكيف تنشأ؟وما جدوى التعبيرات الشعرية عنها؟.
1
الزلازل عبارة عن انضغلط البخار في جوف الأرض.
فهي والبراكين وسائر التغيرات في الكون التي تثير الفزع الكبير، ليست إلا ظواهر طبيعية تجعل الأرض تتعرف على ذاتها لحظة بعد لحظة،وليست شيئاغريبا عنها.ينظر إليها الناس من زوايا مختلفة حسب موقعهم في سلم المعرفة.
فالزلزلة في كلام العرب هي تحريك الشيء، وفي التنزيل الحكيم (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي حُركت حركة شديدة، وتسمى الزلزلة أيضا الرجفة، فيقال: رجفت الأرض رجفا، أي اضطربت.وقد نقلت كتب التاريخ القديم والحديث قصص زلازل عظيمة كثيرة،(كبدائع الزهور)و(البداية والنهاية) و (كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة) الذي ذكر فيه السيوطي الزلازل عبر التاريخ،سواء التي وقعت قبل الإسلام أوبعده.
وأما أسبابها فتتمثل في انضغاط البخار داخل جوف الأرض كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق؛ فإذا انضغط طلب مخرجًا، فيشق ويزلزل ما هرب منه من الأرض.فنحن
نجد في(الجيولوجيا) أن الصخور والجبال وكل شيء على سطح الأرض هو أبعد ما يكون عن الثبات.فالصخور الصلدة التي نبذل الجهد في تحطيمها أو تحريكها، والجبال الراسيات التي تأخذنا بضخامتها وعلوها: لو أمعنا الفكر قليلًا في طبيعتها لوجدنا أنها ملامح مؤقتة لقشرة الأرض التي تتغير وتتبدل مع مرور الزمن. فالصخور تتفتت وتنهار، والجبال تقوم وتتشكل ثم تتلاشى وكأنها السحاب:﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88].
كل هذا التغير مع الزمن نجد عوامله تستمد من الهواء بما فيه من أكسجين وثاني أكسيد الكربون وبخار الماء ومن الحرارة والبرودة التي تتناوب الليل والنهار والصيف والشتاء، وكذلك من الأمطار والجليد،أحيانًا .
إنها الحركات الأرضية التي تعبر – بنشاطها هذا – عما في باطن الأرض من اضطراب وطاقة ضخمة مخزونة، والتي نلمس آثارها الخاطفة بين الحين والحين على هيئة الزلازل والبراكين، وتسمى هذه العمليات بالعوامل الداخلية أو الحركات الأرضية السريعة، وهي تتم في وقت قصير جدًا، ويمكن أن يشعر بها الإنسان ويلمس أثرها السريع.وهي تستمد الطاقة اللازمة لحدوثها من الحرارة المنطلقة في باطن الأرض، حيث إن الأرض تتكون من طبقات متتالية مصهورة ذات كثافة عالية، ولهيب شديد الحرارة والضغط، وهذا يوضح مدى هول ما تحويه الأرض في باطنها.

1.1نشأتها
وتنشأ الزلازل نتيجة لحدوث كسر في الصخور الأرضية ،وانـزلاق لها على سطح هذا الكسر وينتج عن هذه الحركة الأرضية ذبذبات في صورة موجات تنتشر في جميع الاتجاهات خلال القشرة الأرضية منبعثة من مصدر الاضطراب.
وعند حدوث أي زلزال يكون الاضطراب أقوى ما يمكن في المنطقة التي تقع فوق مركز الزلزال أو بؤرته، وهي المنطقة التي يقع فيها معظم التخريب والتدمير وتتناقص شدة الهزة بسرعة خارج هذه المنطقة، المركز.

2.1أسبابها
وقد فسر ابن سينا في كتابه (الشفاء) أسباب الزلازل بأنها (تحدث إما بخروج الرياح المحتبسة، وهو الذي عليه أكثر الزلازل، أو بدخول الهواء في الأرض… وفي أكثر الأوقات قد يتبع الزلزلة ريح تهب، لأن السبب ينفصل ويخرج إلى خارج.
ومثلما وصف ابن سينا الظواهر الطبيعية المصاحبة للزلازل، وصف المؤرخون المسلمون كيفية حدوث الزلازل ووقعها على البشر والحجر، وما خلفته وتخلفه من دمار، ويكاد لا يخلو كتاب من كتب تاريخ الإسلام من ذكر للزلازل.

3.1مصنفات تراثية عنها
ومن هنا كانت
المصنفات التراثية في الزلازل مضاهية للمصنفات في التاريخ ومتماهية معها.حيث لم يترك المسلمون بابا من أبواب التصنيف إلا وصنفوا فيه، فلا تخلو المكتبة التراثية من أي فن أو علم من العلوم، ولذلك لا عجب أن نجدهم وضعوا بعض مصنفات في الزلازل، كالرسالة التي وضعها ابن عساكر،و تناول فيها ظاهرة الزلازل في عصره، وعنوانها (الإخبار بالدلائل على الإنذار بحدوث الزلازل)، ورسالة السيوطي (كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة)، ورسالة (تحصين المنازل من هول الزلازل) لابن الجزار، وهي تبين كيفية تشييد المنازل على نحو يقيها التأثر بالزلازل.
إن المسلمين اعتنوا بتفسير أسباب الزلازل ووصفها، وأتوا في مصنفاتهم على ذكر آثارها المهولة، وكيف تصدًّى لها الناس.
والملاحظ عند راصدي الزلازل أن القارة الإفريقيةأقل في عدد الزلازل الخطيرة.
2
ملمح من تعبيرات الشعر عنها

1.2الشعر يجسد باللغة أكثر مما تجسده الطبيعة فهوأسمى تعبير عن وجدان البشر،به نتعرف على الجانب الخفي من وجودهم الذي لا تقوله إلا اللغة،فهو ضرورة أنطولوجية،وغليان روحي يجسد باللغة أكثر مما تجسده الظواهر الطبيعية في الكون حين يتمثلها.وهذه نماذج منه تنقل إلينا ظاهرة الزلازل بعين الروح لا بعين اللغة فقط.فالشعر هو أسرع وسائل التعبير الأدبي عن الأحداث سارة أو مأساوية ،فبغليانه السريع هذا أنتج شعرا عالميا كثيرا، عبَّر به أصحابه عن آلامهم وأحزانهم لما تخلفه الزلازل من موت وخراب سواء في بلدانهم ، أو في بلدان أخرى تعاطفوا إنسانيا معها .
2.2
وفي شعرنا قصائد قديمة وحديثة من هذا القبيل نمثل لها بقصيدة لحافظ إبراهيم عن زلزال مدينة (مسينا) الواقعة في جنوب إيطاليا،والتي زلزلت
سنة 1908م،والقصيدة فيها تتكون من 59 بيتا،تغلب عليها رنة خيالية دالية على المشاركة الوجدانية،والتشظي النفسي، اجتزأنا منها بما يلي:
نبئاني إن كنتما تعلمان = ما دهى الكون أيها الفرقدان
غضب الله أم تمردت الأر = ض فأنحت على بني الإنسان
ليس هذا سبحان ربي،ولا ذا ك،ولكن طـبيعة الأكـــوان
غليان في الأرض نفّس عنه = ثوران في البحر و البركان
رب،أين المفر و البحر و الــب =ر على الكيد للورى عامــلان
ما {لمسين}؟عوجلت في صباها ودعاها من الردى داعيان
خسفت،ثم أغرقت،ثم بادت قضى الأمر كله في ثواني
وأتى أمرها فأضحت كأن لم = تــك بالأمس زينة البلدان
بغت الأرض و الجبال عليها وطغى البـحر أيــما طغيان
تلك تغلي حقدا عليها فتنشـ = ـق انشقاقا من كثرة الغليان
فتجيب الجبال رجما وقذفا بشواظ من مارج و دخان
وتسوق البحار ردا عليها = جيش موج نائي الجناحين داني
فاستحال النجاء،واستحكم اليأ= س،وخارت عزائم الشجعا
وشفى الموت غله من نفوس لاتباليه في مجال الطعان
رب طفل قد ساخ في باطن الأر = ض ينادي :”أمي،أبي،أدركاني!”
وفتاة هيفاء تشوى على الجمـ = ـر تعاني من حره ما تعاني
وأب ذاهل،إلى النار يمشي = مستميتا تمتد منه اليدان
باحثا عن بناته وبنيه مسرع الخطو مستطير الجنان
تأكل النار منه،لاهو ناج = من لظاها،ولا اللظى عنه واني
غصت الأرض،أتخم البحر مما = طوياه من هذه الأبدان
وشكا الحوت للنسور شكاة = رددتها النسور للحيتان
قد أغارا على أكف يراها = بارئ الكائنات للإتقان
كيف لم يرحما أناملها الغ = ر،ولم يرفقا بتلك البنان
لهف نفسي وألف لهف عليها = من أكف كانت صناع الزمان
مولعات بصيد كل جميل = ناصبات حبائل الألوان
حافرات في الصخر أو ناقشات = شائدات روائع البنيان
منطقات لسان كل جماد = مفحمات سوا جع الأفنان
ملهمات من دقة الصنع مالا = يلهم الشعر من دقيق المعاني
فسلام عليك يوم توليـ = ـت بما فيك من مغان حسانِ!
وسلام عليك يوم تعودي =
ن كما كنت جنة الطليان!
ففي القصيدة يبرز التذكير لمن يقصرون في مواساة من تجلببهم الكوارث بجلابيب المآسي والمحن،وتعاطف الشاعر إنسانيا مع من زلزلوا .
وقال أحمد التوفيق(وزير الأوقاف الآن بالمغرب) حين أتى الزلزال على مدينة أكادير في فبراير
1960م من قصيدة عنوانها:(أكادير الشهيده)
أكادير الشهيدة ما أصابا من الزلزال قد نشر الخرابا
فأين الشامخات من المباني وما لي لا أرى تلك القبابا
أكادير الشهيدة ذاك رزء سقانا علقما واسى وصابا
أظلَّ سماكِ ليلٌ مدلهم فساد الصمت والموت الرحابا
وقوض ما تشيد من قصور تناطح في تطاولها السحابا
تحولت القصور إلى ركام يضم الناس شيبا أو شبابا
وأمست بعد روعتها قفارا فلم تسمع بها إلا غرابا
هناك ترى بقايا للضحايا وأشلاء ممزقة هبابا
جموع الباكيات من الأيامى يمزقن البراقع والثيابا
فكم من والد أضحى وحيدا فكم من طفل ينادي: أين بابا
وكم ثكلى تصك السمع صرخا وتستجدي الأحبة والصحابا
وأصوات الإغاثة في ارتفاع من الأنقاض تصطخب اصطخابا
وأنات الجريح بكل ناد تثير الهول، ما أقسى المصابا
فمهلا أيها الزلزال مهلا فإن الجمع ينتحب انتحابا
أفي رمضان جئت تثير رعبا وترسل إثر هزتك الخرابا فالفجائع تُوحد بين الأفراد والشعوب،وتنزع من نفوسهم سخام التوترات والأحقاد ،فتحسبهم جميعا على نبض واحد. شعارهم التعاون والإخاء.

وقال شاعر سوري يرثي أسرته التي لم يبقٍ الزلزال الأخير منها إلا طفلا . والقصيدة باكية مبكية ، وبديعة شعرية مضمونا وبيانا لغويا وفنيا :
تبكي الزوايا ، فكم ضمت لنا قصصا = وفي الفناء خطا لم يمحها هطل ويصور مأساة موت أسرته التي تخطت شعوره المكلوم إلى حجارة البيت ، فحنت لساكنيها الراحلين موتا :
حتى الحجارة قد حنت لساكنها = فكيف بالقلب إذا ضاقت به الحيل ؟! ويقدم صورة من العهد الجميل الذي امحى :
غصن يمد على الجدران أذرعه = مرحبا بضيوف البيت إذ وصلوا . ويتساءل محزونا يائسا من لقاء أسرته الحبيبة في الدنيا :
كيف اللقاء وقد شطت بنا السبل = وذرَفت من دم في ليلها المقل ؟! ويصرح بموته وإن كان حيا بعد أسرته :
أرواحنا رحلت في إثر من رحلوا
ومن أسخف الشعر وأسقمه الذي قيل في الزلازل هذا البيت المشهور الذي قاله محمد بن قاسم بن عاصم مادحا لكافور الإخشيدي، فعندما حدث زلزال في مصر تشاءم الناس وهربوا من المدينة واعتزل كافور. فكان هناك شاعر مرتزق أخرج كافورا من عزلته اسمه محمد بن قاسم بن عاصم فقال:
ما زلزت مصر من خوف يراد بها
لكنها رقصت من عدله طربا
وهذا سالم مبارك الفلق يعتبر الزلزال رسالة لكل ذي لب وبصيرة فيقول:
تلك الحقيقـــــة من يجيب سؤالها
أكلت بلاد الشـــرق أطفالاً لهـــا
أم الزلازل فـــــارفقي وتحدثـــي
عما جرى حتى نـروّح بــالـــها
فتــكلمــت برسالــــةٍ شفـــويـّــةٍ
فوعيـــتُ منها مقالها و فعالها
تتلـــو على أهل الهوى أسفارها
لا شعـــــر تتلوه و لا نثراً لها
ظهر الفساد على البسيطة فانتظر
جــــرّاء ذلك في الورى أمثالها
بسياحـــةٍ في الشـط شيطانيــّـةٍ
تزري الورى وتبيّن اضمحلالها
ودعـــارةٍ ونذالـــــةٍ بشريــّــــةٍ
لم تستح الرحمنَ أو مولى لهــا
ودمـــاء قد سالتْ لها قدسيّـــــةٌ
ودعاء مظلوم دنــا فسمـا لها
وتبلبلــتْ أفكارنـــــا وتشوّشـتْ
حتى غـدا الإنسان يسأل ما لها
جأرتْ له منا العقاربُ واشتكــتْ
قطـــــر السماءِ فلم يردّ سؤالها
مكــروا وقد مكـر الإله لمكــرهم
وعصوا وقد عصف الإله ويالها

نامــتْ بــلاد الهند في أحلامــها
وصحا (تسونامي ) فأرّق حالها
هاجــتْ فأغرقـت البـلاد فعالــها
ماجـــتْ فأبلغــــت العباد مقالها
ثـارتْ فدمدم في الفضاء زئيرها
مارتْ فأيقنـــت العبـــاد زوالها
شقـّـــتْ جيوب هضابها وتلالها
ونضتْ على أكتافــــها سربالها
قد زعزع الله الشرايـيـن التــي
ســدّتْ مجاريها الذنوبُ وهالها
وتقـّـيأتْ ترمـي وتلفــــظ حملها
حتى طغى ماء المخـاض جبالها
وتفاقم الصدع فأوســع موجعـــاً
وتوقـــف الآسي اللبيب حيالها

وتصيّــدتْ أم النســــور لأنــــه
أغرى المصيـدُ رجالها وعيالها
سال اللعاب على الرقيق شراهةً
وتعكـّــر المــــاء لنا وصفا لها

من لي بإنسان يعي الدرس الذي
باحت به الأرض وما أوحى لها
أرسلـــتُ فكري في الحياةِ لأنني
أيقنـــت أن زوالهــــا أدنى لها
وبكيت في سرّي وفي علني دماً
ورأيت في هذا البكـا سلوى لها
وعجبت من حال امرئ لا يرعوي
إلا إذا ما زلزلــــتْ زلزالــــــها
إن الشعر حين يتنفس آلام الناس في الحياة،وما ينتابهم من مصائب،يكون قد أسس وجودا للوجود،وأعطاه معنى يحفز الإنسان على المقاومة،والاستمرار في بناء المحلوم به رغم الزعازع والأهوال،لأن الإرادة لا تسمى إرادة إلا إذا تغلبت على منابع الموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى