صدر حديثاً كتابان جديدان للباحث إبراهيم محمود، في كل من لندن وواشنطن .
أما الأول، فهو عبارة سيرة ذاتية له،عن منشورات رامينا، في لندن، تحت عنوان " حذاء أبي " الجزء الأول من المجلد الأولمن سيرة الطفولة المبكّرة، وتحت عنوان( هذا العسل البالغ المرارة )
يرجع الكاتب في سيرته إلى أيام ولادته، وكما نقلت إليه ذاكرة العائلة والمحيطين به، وما كان معهوداً وقتذاك، في قرية مجهولة ضائعة في الجغرافيا وفي التاريخ، اسمها "خربة عنز" التابعة لمدينة القامشلي في سوريا.
يستعين إبراهيم محمود في سيرته بما التقط في ذاكرته من أخبار وصور ومشاهدات راسخة، ومن خلالها تتسلسل أحداث ووقائع ومفارقات، ومباغتات واغترافات تضيء صفحة قرية ومن فيها وفي الجوار، والطقوس والأعراف التي كانت سائدة بعينيّ طفل لم يتجاوز حينها الثانية عشرة من عمره.
ينكأ الكاتب جروحَ الماضي في سيرته الذاتية، يرتحل عميقاً في الذاكرة، يفتح قلبه بصدق وصراحة وجرأة ليحكي عن طفولته البعيدة، ويقرّبها لنا بطريقته المميّزة التي تلامس قلوبنا بحيث يجعلنا نعيش معه تفاصيلها الدقيقة والأليمة..
يُوقظ إبراهيم محمود ذاك الطفلَ الغافي فيه، يستنطقه، يقدّم شهادته على تاريخه، يلملم بقايا الأحداث والذكريات ليشهرها سلاحاً في وجه الزمن، وفي وجوه أولئك الذين تضجّ بهم ذاكرته الطفولية التي تستعيد ممارساتهم معه ومع ذويه.
الجدّة، الأب، الأمّ، أهل قريته "خربة عنز"، وآخرون يحضرون في هذه السيرة المدهشة والجريئة بصورهم التي لا يحاول الكاتب ترقيعها، والتي لم يستطع الزمن محوها أو تغييرها في ذاكرته..
هناك الكثير من المعلومات التي تشكل طابعاً ببلوغرافياً عن المكان وأهلها، وأسرار المحيط الجغرافي داخل القرية وخارجها، والعائلة التي ينتمي إليها الكاتب ومرارة الحياة في وضع معيشي، وفي بيئة لا تخفي عداءها لمن يجد نفسه وحيداً ومختلفاً في سلوكه عن الآخرين.
تحمل هذه السيرة جانباً من التاريخ غير مقروء في الكتب إنما منقول عن ألسنة من رحلوا من أصحابها، واكتسب قيمة أدبية وجمالية بلسان كاتب، عرِف بكتابته الفكرية، وها هو السرد الروائي يعرَف به.
هذه السيرة بحلوها ومرّها، رحلة ألم وأمل استثنائية لطفل الحياة الذي كانَهَ وللكاتب الاستثنائيّ الذي صاره..
يشار إلى أنّ الكتاب يقع في ثلاثمِائة صفحة من القطع الوسط. وقد صمّم الغلاف الشاعر والفنان ياسين أحمدي، ولوحة الغلاف هي تفصيل من لوحة للفنان الكرديّ السوريّ عبد الكريم مجدل بيك.
تعريف بالمؤلف:
إبراهيم محمود: كاتب وباحث كُردي سوري، مواليد القامشلي 1956. يحمل إجازة في الفلسفة من جامعة دمشق، سنة 1981. تفرغ للدراسة والتأليف بعد ممارسة التدريس في معاهد القامشلي لمدة عشرين سنة. الآن يقيم في في إقليم كردستان العراق كلاجئ، ويعمل في مركز بيشكجي للأبحاث الإنسانية في جامعة دهوك. نشر أكثر من مائتيْ كتاب في حقول نقدية وفكرية وتاريخية وأدبية مختلفة، ويركّز بصورة خاصة على الجانب الأنتروبولوجي في دراساته، وفيما يخص الجسد، ما عدا مشاركاته في كتب جماعية، ومقدماته وشروحاته لكتب مترجمة عن الفرنسية (لجاك دريدا خصوصاً).
مقطع من الكتاب:
عتبة
أأقولها، أم أُؤجل ما يشكّل فضيلة القول لمن لديه رغبة فعلية لتلقّي حكمة القول، ولمن يجد في أبدع القول أقدُره على طرح ما كان ماضياً في سبات عميق، ما يضيء مقام روحه الملول كثيراً، وها هو رِشَاش ذاكرتي البارد يباغت جسمها المعلق بين تاريخ أخرس، أبكم، وأعمى، أو شبه ذلك كثيراً، على عتبة حياتها، وذاكرة منكفئة على نفسها، وفيها ما يلحّ على التنفس خارجاً.. إنما، ومن باب لزوم ما يلزم، إلى من كانوا يمثّلون وليَّ أمر عائلتنا وفي الواجهة، وليَّ أمر الوالد، وهم يمثّلون حياة بشر أحياء، بمعاييرهم الخاصة، هأنذا، وفيما أكتب، وبعد هذا الزمن يتدفّق في صمت، أمثّل، وعلى طريقتي وليّ أمر كلّ هؤلاء الذين كان الهواء يتثاءب بعسر أمام خطاهم، أنا وليّ أمرهم، فيما رأيت، وفيما سمعت، وفيما تناهى إلى مسمعي، وفيما حاولت تحرّي ذيوله والمعتَّم عليه؟
***
كنتُ ذلك الطفل الذي كان حذاءُ والده يترجم رأيَ والده فيه، إذ يواجهه بكعبه وهو الملزم بعدَم الردّ، الطفل الذي تواقحَ، ذلك الطفل الشقيّ ابن الملا من على سطح بيته، مباغتاً إياه بنثر شخاخه على رأسه ووجهه في الأسفل ويضحك بصفاقة، ذلك الطفل كان سخرية أطفال القرية لأنه فقير وابن فقير، ذلك الطفل الذي أثار سخط أهل القرية لأنه تفوّق على أولادهم في المدرسة. إنما ذلك الطفل الذي لم يشأ أن يبقي ما كان وكأنه لم يكن، وها هو الطفل ذاك، يُعلِم بمن كان وراء ذلك الحذاء البغيض، ولا أبقى ذلك الشقيَّ دون وضعه بين قوسين تضيئان تاريخه العائلي، ولا نسي ما لا يجب أن ينسى أولئك الذين حاولوا تهميشه لأنه هو وعائلته دونهم مقاماً، وها هم كلّ هؤلاء أنتقل بهم من الذاكرة إلى التاريخ. وليردّوا إذا كان في مقدورهم أن يردّوا، وفي يد كلّ منهم حذاءٌ مرفوع نظيرَ حذاء أبي..
أما عن الكتاب الثاني، فهو صادر عن دار " الخيّاط " في العاصمة الأمريكية " واشنطن " تحت عنوان: الشيطان لم يعد يقيم بيننا " دراسة في سفاح القربى " في " 204 " صفحات من القطع الكبير، وبغلاف ملوَّن، وهي دراسة جديدة، تتعرض لسفاح القربى: نشأة وأسباباً وتحولات في العلاقات الجنسية، ومتغيرات الثقافة في المجتمع هنا وهناك.
عن دار " الخيّاط " في العاصمة الأمريكية " واشنطن " صدر كتاب جديد للباحث إبراهيم محمود، تحت عنوان: الشيطان لم يعد يقيم بيننا " دراسة في سفاح القربى " في " 204 " صفحات من القطع الكبير، وبغلاف ملوَّن، وهي دراسة جديدة، تتعرض لسفاح القربى: نشأة وأسباباً وتحولات في العلاقات الجنسية، ومتغيرات الثقافة في المجتمع هنا وهناك.
أما عن الفهرس، فيتضمن العناوين التالية:
منعطف الكتاب
المطعون في السرّ المصون " للتقديم "
الفصل الأول
هل من إمكان تعريف بسفاح القربى تاريخياً ؟
الفصل الثاني
علمان ذائعا الصيت في سفاح القربى : المركيز دو ساد وجورج باتاي
الفصل الثالث
الدرس العائلي حول سفاح القربى
ملحق
سفاح القربى وثالوث الشبهات: غرفة النوم، المطبخ، والحمّام
سيرة ذاتية للمؤلف
ومما جاء في التقديم، نورد التالي، تحت عنوان" أسئلة تبحث عن رابط ":
كيف لِبني البشر أن يتحملوا وزْراً دينيّ المنشأ، لا يد لهم فيه، وهو الذي يقاوم النسيان، لا بل جرى تثبيته وتأكيده، والسعي إلى دوام تكرار التذكير به، وهو أن بداية التكوين كانت ارتكاب خطأ، يعتبَر قاتلاً، انعطافياً، هو الذي كان وراء خروج آدم وحواء من جنة الخلد، أعني بذلك " الثمرة المحرمة "، ولا بد أنه فعل لا ينبغي النظر فيه على أنه مجرد حركة داخلية صرف، وليست مقدَّرة من الخارج، ليكون هناك خطأ آخر جهة التعامل بين قابيل وهابيل: أولاً بالنسبة إلى قضية تبادل الأختين، وهما من المحارم، مهما استرسل فقهاء الدين ونحاته ومفسّروه في إيجاد مخرج لهذه الواقعة الجنسانية، والذي ترتبط بعملية مواجهة مخيفة دشّنت بعداً أصيلاً في النفس البشرية، وثبتته على البشر: القتل، وليكون " القاتل " محمياً من خالقه تالياً، أي " قابيل "، بالمفهوم الديني، وليكون هناك في الطرف الأقصى، في جغرافية بشرية، تأكيد، أو ما يشبه تأكيد جريمة تستدعي تلك، بمقدار ما تعزز وجودها، ذات صبغة داخلية، مهما اجتهد مفسّروا الواقعة، أو بحثوا لها عن دلالات ومارسوا تفكيكاً شامبليونياً لرموزها، وربْطها برموز الكونية: الإلهية التوجيه: قتل الأب، وارتكاب سفاح القربى، كما تقول عقدة " أوديب " وليس عقدة " الكيترا " حيث تتعلق البنت بأبيها، لتتشكل سلسلة من المحرمات المخترقَة تاريخياً ؟
أنَّى للبشرية أن تداوي جرحاً ميتافيزيقياً غائراً ودون قرار في جسدها؟ حيث لا يبدو أنه عرَضي، إنما متزامن معه، كما لو أن البدء كان خطأ، وهو ليس بالخطأ الممكن نسيانه، إنما مواجهة البشرية به بشكل دائماً. فاستحالة النسيان تحيل الذاكرة إلى أرشيف مرئي ومسموع، وتفرض على الكلام سلطة الانصياع لهذا الخطأ المركَّب: دوام معايشته، والتنبه إليه، واعتباره متأصلاً في بنية اللغة التي تشكل عنصراً مندغماً في النفس البشرية، والسعي الدائم إلى عدم التكرار!
ألسنا نتلمس فيما تقدَّم أقسى درس، يضعنا في صورة النفس التي تعنينا في العمق، مذ كان " ألف " نشأتنا، إلى " ياء " نهايتنا المجهولة، وهي أنها لا تنعزل عن خطأ يُسمي تاريخاً، فتُلزَم بمقاومة التذكير به، وهو لا يعدو أن يكون وشماً داخلها؟
وبين المسمَّى بـ" الإيروس ": دافع الحياة، و" الثاناتوس " : دافع الموت، تتقاسم الناسَ مذ وجِدوا، مشاعرُ تحلّق بهم عالياً، وكلهم رغبة باحتضان الكون، وهي حياتية، وأخرى، تكاد تجرّدهم من كل حركة، وكلهم توجس من سطوة الموت، وفي الحالتين، ثمة التعامل مع الجسد، أو ما يكونه جسدياً، سوى أنهم بالكاد أدركوا فيه ما يبقيهم أهلاً له بأكثر من معنى. ذلك من شأنه النظر في الجهات كافة، تجاوباً مع ضخامة الأثر، ومأثرة الأرشيف الذي يعلّمنا بنباهة طرح أسئلة من نوع:
لماذا يتستر الناس في الحديث على أجسادهم، وهم حيث هُم لا يكفوّن عن النظر فيها في وضعيات مختلفة، ولو أمكنهم لطالوا النظر بعمق؟ ماالذي يحوُل هنا بينهم وبين الحديث عن مكوناتهم الجسدية، وهم ينشغلون كثيراً بالاهتمام بمظهرها ؟ كيف يمنحون حق الحديث في أعراض الآخرين، وفي ذمّهم جسدياً وبالاسم، كما لو أنهم منفصلين كلياً عن أجسادهم بالذات ؟ أي شرعية يعتمدونها في الفصل بين ما يحق لهم النظر فيه، وما يعتبرونه تعدّياً على خصوصياتهم، ودون أن يرفَّ لهم جفن ؟
ذلك يمضي بنا إلى ما هو متداول هنا وهناك: سفاح القربى/ سفاح الأقارب/ غشيان المحارم، زنا المحارم، وكيف أنه يشكّل من بين أغلى ومن ثم أقدس ما شغلت البشرية به نفسهاً، وأحياناً: الأغلى والأقدس بإطلاق، جرّاء تأثيره في حياتها !
ذلك ينشّط فينا،في وضع المنحدر البحثي هذا، أكثر من ذاكرة مكانية بالتوازي مع نظيرتها الزمانية لتبيّن حقيقته، وما إذا كانت حقيقة وأي حقيقة وكيف ؟
كل حديث عن " سفاح القربى " أو " زنا المحارم " ربما يسيء إلى علاقات القربى، وقد يترك انطباعاً سلبياً عن هذا المتحدث، حيث لا يُحسَد بالتالي على الصورة المتشكلة عنه من قبل من سمعه أو قرأ له، إذ لا يُستبعَد أن تمضي الشبهة بالآخر إلى كون المتحدث أو الكاتب في نطاقه شخصاً يبحث عن البلبلة، ويقلق من حوله بالتالي، طالما أن الذين يقيمون حوله يعيشون طمأنينة نفسية، وفق قوانين مرعية، وأعراف وتقاليد متوارثة، إذاً ليس من داع لأي حديث عن ذلك.
هنا، ما علي إلا أن أقول في الحال: نعم، وألف نعم ونعم، وبملء فمي طبعاً: أنا مع كل هؤلاء الذين يتخوفون من أحاديث أو إشارات تلفت أنظارهم إلى موضوع حساس، دقيق، وخطير جداً، أي يُخشى جانبه، بحيث ينبغي في الحريص على السلامة النفسية لمجتمعه أن يكون حائلاً دون تسمية ذلك ما أمكن، وليس أن يكون هو نفسه منخرطاً في عملية تتم في خضم النار الحارقة المحرقة.
غير أن هناك بالمقابل، ما لا يجب السكوت عنه،ومداراته بمَكْر ما، أو إدارة الظهر لما يجري، جهة هذا الموصوف بـ" الحساس، الدقيق، والخطير جداً "، خصوصاً، وأن أخباراً أو وقائع، وما أكثرها وهي تترى، تعلِم القاصي والداني بما يبقي هؤلاء ليل نهارهم على بيّنة منها وهي تفصح عما يصدم تحفظاتهم، وعن وهم كبير، ومرضي أحياناً يتلبسهم، جرّاء هذا التكتم الشديد، وتصنُّع اللامبالاة !
ثمة ما يقرَأ في أمكنة مختلفة: في الجرائد، المجلات، والمواقع الالكترونية وغيرها، يضيء ما لا يخفى جهة هتْك المحارم بصيغ شتى، وأخبار محاكم تنتشر سريعاً، رغم كل أوجه التحفظ، تجنباً لردود أفعال جانبية، وهي تفصح عن جرائم أخلاقية، أو فضائح أحياناً، وما يهدد علاقات القربى في الصميم، وهذا يعني، أنه في مجتمع اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، يكون من المضحك جداً، ادّعاء عدم المعرفة، أو ملازمة الصمت، وما يحدث يستحيل تجاهل تأثيره بعمق والنافذ بأكثر من هيئة !
ليس هذا فحسب، حيث إن الكلام الذي من معانيه: الجرح " المكلوم: المجروح " وأنه يرتد إلى متهجئه الحيوي: العضوي، ولا يخفي عوالقه أو ما ينمُّ عنه بمعنى ما طبعاً، وهو يتبدى نافذ الأثر، كما لو أنه التعهد بتسميه منشأه: حدوث الجرح الأبدي في الجسد عميقاً، وأن التفوه به ارتباط به، وما في العملية من تناقض، بين صمت يراد له نسيان ما كان، والخوف من ذكره، وما يستحيل البقاء من دونه، أي ما يستحيل تجاهله، فكأن الناس حينما يتكلمون، إنما، بمقدار ما يؤكدون وجودهم، بمقدار ما يترجمون جرحهم الذي دشّنوا به، وهو عقاب لا مفك منه .
والجدير بالذكر، هناك طبعة مختلفة، من القطع الوسط، في " 280 " صفحة، ستصدر قريباً .
أما الأول، فهو عبارة سيرة ذاتية له،عن منشورات رامينا، في لندن، تحت عنوان " حذاء أبي " الجزء الأول من المجلد الأولمن سيرة الطفولة المبكّرة، وتحت عنوان( هذا العسل البالغ المرارة )
يرجع الكاتب في سيرته إلى أيام ولادته، وكما نقلت إليه ذاكرة العائلة والمحيطين به، وما كان معهوداً وقتذاك، في قرية مجهولة ضائعة في الجغرافيا وفي التاريخ، اسمها "خربة عنز" التابعة لمدينة القامشلي في سوريا.
يستعين إبراهيم محمود في سيرته بما التقط في ذاكرته من أخبار وصور ومشاهدات راسخة، ومن خلالها تتسلسل أحداث ووقائع ومفارقات، ومباغتات واغترافات تضيء صفحة قرية ومن فيها وفي الجوار، والطقوس والأعراف التي كانت سائدة بعينيّ طفل لم يتجاوز حينها الثانية عشرة من عمره.
ينكأ الكاتب جروحَ الماضي في سيرته الذاتية، يرتحل عميقاً في الذاكرة، يفتح قلبه بصدق وصراحة وجرأة ليحكي عن طفولته البعيدة، ويقرّبها لنا بطريقته المميّزة التي تلامس قلوبنا بحيث يجعلنا نعيش معه تفاصيلها الدقيقة والأليمة..
يُوقظ إبراهيم محمود ذاك الطفلَ الغافي فيه، يستنطقه، يقدّم شهادته على تاريخه، يلملم بقايا الأحداث والذكريات ليشهرها سلاحاً في وجه الزمن، وفي وجوه أولئك الذين تضجّ بهم ذاكرته الطفولية التي تستعيد ممارساتهم معه ومع ذويه.
الجدّة، الأب، الأمّ، أهل قريته "خربة عنز"، وآخرون يحضرون في هذه السيرة المدهشة والجريئة بصورهم التي لا يحاول الكاتب ترقيعها، والتي لم يستطع الزمن محوها أو تغييرها في ذاكرته..
هناك الكثير من المعلومات التي تشكل طابعاً ببلوغرافياً عن المكان وأهلها، وأسرار المحيط الجغرافي داخل القرية وخارجها، والعائلة التي ينتمي إليها الكاتب ومرارة الحياة في وضع معيشي، وفي بيئة لا تخفي عداءها لمن يجد نفسه وحيداً ومختلفاً في سلوكه عن الآخرين.
تحمل هذه السيرة جانباً من التاريخ غير مقروء في الكتب إنما منقول عن ألسنة من رحلوا من أصحابها، واكتسب قيمة أدبية وجمالية بلسان كاتب، عرِف بكتابته الفكرية، وها هو السرد الروائي يعرَف به.
هذه السيرة بحلوها ومرّها، رحلة ألم وأمل استثنائية لطفل الحياة الذي كانَهَ وللكاتب الاستثنائيّ الذي صاره..
يشار إلى أنّ الكتاب يقع في ثلاثمِائة صفحة من القطع الوسط. وقد صمّم الغلاف الشاعر والفنان ياسين أحمدي، ولوحة الغلاف هي تفصيل من لوحة للفنان الكرديّ السوريّ عبد الكريم مجدل بيك.
تعريف بالمؤلف:
إبراهيم محمود: كاتب وباحث كُردي سوري، مواليد القامشلي 1956. يحمل إجازة في الفلسفة من جامعة دمشق، سنة 1981. تفرغ للدراسة والتأليف بعد ممارسة التدريس في معاهد القامشلي لمدة عشرين سنة. الآن يقيم في في إقليم كردستان العراق كلاجئ، ويعمل في مركز بيشكجي للأبحاث الإنسانية في جامعة دهوك. نشر أكثر من مائتيْ كتاب في حقول نقدية وفكرية وتاريخية وأدبية مختلفة، ويركّز بصورة خاصة على الجانب الأنتروبولوجي في دراساته، وفيما يخص الجسد، ما عدا مشاركاته في كتب جماعية، ومقدماته وشروحاته لكتب مترجمة عن الفرنسية (لجاك دريدا خصوصاً).
مقطع من الكتاب:
عتبة
أأقولها، أم أُؤجل ما يشكّل فضيلة القول لمن لديه رغبة فعلية لتلقّي حكمة القول، ولمن يجد في أبدع القول أقدُره على طرح ما كان ماضياً في سبات عميق، ما يضيء مقام روحه الملول كثيراً، وها هو رِشَاش ذاكرتي البارد يباغت جسمها المعلق بين تاريخ أخرس، أبكم، وأعمى، أو شبه ذلك كثيراً، على عتبة حياتها، وذاكرة منكفئة على نفسها، وفيها ما يلحّ على التنفس خارجاً.. إنما، ومن باب لزوم ما يلزم، إلى من كانوا يمثّلون وليَّ أمر عائلتنا وفي الواجهة، وليَّ أمر الوالد، وهم يمثّلون حياة بشر أحياء، بمعاييرهم الخاصة، هأنذا، وفيما أكتب، وبعد هذا الزمن يتدفّق في صمت، أمثّل، وعلى طريقتي وليّ أمر كلّ هؤلاء الذين كان الهواء يتثاءب بعسر أمام خطاهم، أنا وليّ أمرهم، فيما رأيت، وفيما سمعت، وفيما تناهى إلى مسمعي، وفيما حاولت تحرّي ذيوله والمعتَّم عليه؟
***
كنتُ ذلك الطفل الذي كان حذاءُ والده يترجم رأيَ والده فيه، إذ يواجهه بكعبه وهو الملزم بعدَم الردّ، الطفل الذي تواقحَ، ذلك الطفل الشقيّ ابن الملا من على سطح بيته، مباغتاً إياه بنثر شخاخه على رأسه ووجهه في الأسفل ويضحك بصفاقة، ذلك الطفل كان سخرية أطفال القرية لأنه فقير وابن فقير، ذلك الطفل الذي أثار سخط أهل القرية لأنه تفوّق على أولادهم في المدرسة. إنما ذلك الطفل الذي لم يشأ أن يبقي ما كان وكأنه لم يكن، وها هو الطفل ذاك، يُعلِم بمن كان وراء ذلك الحذاء البغيض، ولا أبقى ذلك الشقيَّ دون وضعه بين قوسين تضيئان تاريخه العائلي، ولا نسي ما لا يجب أن ينسى أولئك الذين حاولوا تهميشه لأنه هو وعائلته دونهم مقاماً، وها هم كلّ هؤلاء أنتقل بهم من الذاكرة إلى التاريخ. وليردّوا إذا كان في مقدورهم أن يردّوا، وفي يد كلّ منهم حذاءٌ مرفوع نظيرَ حذاء أبي..
أما عن الكتاب الثاني، فهو صادر عن دار " الخيّاط " في العاصمة الأمريكية " واشنطن " تحت عنوان: الشيطان لم يعد يقيم بيننا " دراسة في سفاح القربى " في " 204 " صفحات من القطع الكبير، وبغلاف ملوَّن، وهي دراسة جديدة، تتعرض لسفاح القربى: نشأة وأسباباً وتحولات في العلاقات الجنسية، ومتغيرات الثقافة في المجتمع هنا وهناك.
عن دار " الخيّاط " في العاصمة الأمريكية " واشنطن " صدر كتاب جديد للباحث إبراهيم محمود، تحت عنوان: الشيطان لم يعد يقيم بيننا " دراسة في سفاح القربى " في " 204 " صفحات من القطع الكبير، وبغلاف ملوَّن، وهي دراسة جديدة، تتعرض لسفاح القربى: نشأة وأسباباً وتحولات في العلاقات الجنسية، ومتغيرات الثقافة في المجتمع هنا وهناك.
أما عن الفهرس، فيتضمن العناوين التالية:
منعطف الكتاب
المطعون في السرّ المصون " للتقديم "
الفصل الأول
هل من إمكان تعريف بسفاح القربى تاريخياً ؟
الفصل الثاني
علمان ذائعا الصيت في سفاح القربى : المركيز دو ساد وجورج باتاي
الفصل الثالث
الدرس العائلي حول سفاح القربى
ملحق
سفاح القربى وثالوث الشبهات: غرفة النوم، المطبخ، والحمّام
سيرة ذاتية للمؤلف
ومما جاء في التقديم، نورد التالي، تحت عنوان" أسئلة تبحث عن رابط ":
كيف لِبني البشر أن يتحملوا وزْراً دينيّ المنشأ، لا يد لهم فيه، وهو الذي يقاوم النسيان، لا بل جرى تثبيته وتأكيده، والسعي إلى دوام تكرار التذكير به، وهو أن بداية التكوين كانت ارتكاب خطأ، يعتبَر قاتلاً، انعطافياً، هو الذي كان وراء خروج آدم وحواء من جنة الخلد، أعني بذلك " الثمرة المحرمة "، ولا بد أنه فعل لا ينبغي النظر فيه على أنه مجرد حركة داخلية صرف، وليست مقدَّرة من الخارج، ليكون هناك خطأ آخر جهة التعامل بين قابيل وهابيل: أولاً بالنسبة إلى قضية تبادل الأختين، وهما من المحارم، مهما استرسل فقهاء الدين ونحاته ومفسّروه في إيجاد مخرج لهذه الواقعة الجنسانية، والذي ترتبط بعملية مواجهة مخيفة دشّنت بعداً أصيلاً في النفس البشرية، وثبتته على البشر: القتل، وليكون " القاتل " محمياً من خالقه تالياً، أي " قابيل "، بالمفهوم الديني، وليكون هناك في الطرف الأقصى، في جغرافية بشرية، تأكيد، أو ما يشبه تأكيد جريمة تستدعي تلك، بمقدار ما تعزز وجودها، ذات صبغة داخلية، مهما اجتهد مفسّروا الواقعة، أو بحثوا لها عن دلالات ومارسوا تفكيكاً شامبليونياً لرموزها، وربْطها برموز الكونية: الإلهية التوجيه: قتل الأب، وارتكاب سفاح القربى، كما تقول عقدة " أوديب " وليس عقدة " الكيترا " حيث تتعلق البنت بأبيها، لتتشكل سلسلة من المحرمات المخترقَة تاريخياً ؟
أنَّى للبشرية أن تداوي جرحاً ميتافيزيقياً غائراً ودون قرار في جسدها؟ حيث لا يبدو أنه عرَضي، إنما متزامن معه، كما لو أن البدء كان خطأ، وهو ليس بالخطأ الممكن نسيانه، إنما مواجهة البشرية به بشكل دائماً. فاستحالة النسيان تحيل الذاكرة إلى أرشيف مرئي ومسموع، وتفرض على الكلام سلطة الانصياع لهذا الخطأ المركَّب: دوام معايشته، والتنبه إليه، واعتباره متأصلاً في بنية اللغة التي تشكل عنصراً مندغماً في النفس البشرية، والسعي الدائم إلى عدم التكرار!
ألسنا نتلمس فيما تقدَّم أقسى درس، يضعنا في صورة النفس التي تعنينا في العمق، مذ كان " ألف " نشأتنا، إلى " ياء " نهايتنا المجهولة، وهي أنها لا تنعزل عن خطأ يُسمي تاريخاً، فتُلزَم بمقاومة التذكير به، وهو لا يعدو أن يكون وشماً داخلها؟
وبين المسمَّى بـ" الإيروس ": دافع الحياة، و" الثاناتوس " : دافع الموت، تتقاسم الناسَ مذ وجِدوا، مشاعرُ تحلّق بهم عالياً، وكلهم رغبة باحتضان الكون، وهي حياتية، وأخرى، تكاد تجرّدهم من كل حركة، وكلهم توجس من سطوة الموت، وفي الحالتين، ثمة التعامل مع الجسد، أو ما يكونه جسدياً، سوى أنهم بالكاد أدركوا فيه ما يبقيهم أهلاً له بأكثر من معنى. ذلك من شأنه النظر في الجهات كافة، تجاوباً مع ضخامة الأثر، ومأثرة الأرشيف الذي يعلّمنا بنباهة طرح أسئلة من نوع:
لماذا يتستر الناس في الحديث على أجسادهم، وهم حيث هُم لا يكفوّن عن النظر فيها في وضعيات مختلفة، ولو أمكنهم لطالوا النظر بعمق؟ ماالذي يحوُل هنا بينهم وبين الحديث عن مكوناتهم الجسدية، وهم ينشغلون كثيراً بالاهتمام بمظهرها ؟ كيف يمنحون حق الحديث في أعراض الآخرين، وفي ذمّهم جسدياً وبالاسم، كما لو أنهم منفصلين كلياً عن أجسادهم بالذات ؟ أي شرعية يعتمدونها في الفصل بين ما يحق لهم النظر فيه، وما يعتبرونه تعدّياً على خصوصياتهم، ودون أن يرفَّ لهم جفن ؟
ذلك يمضي بنا إلى ما هو متداول هنا وهناك: سفاح القربى/ سفاح الأقارب/ غشيان المحارم، زنا المحارم، وكيف أنه يشكّل من بين أغلى ومن ثم أقدس ما شغلت البشرية به نفسهاً، وأحياناً: الأغلى والأقدس بإطلاق، جرّاء تأثيره في حياتها !
ذلك ينشّط فينا،في وضع المنحدر البحثي هذا، أكثر من ذاكرة مكانية بالتوازي مع نظيرتها الزمانية لتبيّن حقيقته، وما إذا كانت حقيقة وأي حقيقة وكيف ؟
كل حديث عن " سفاح القربى " أو " زنا المحارم " ربما يسيء إلى علاقات القربى، وقد يترك انطباعاً سلبياً عن هذا المتحدث، حيث لا يُحسَد بالتالي على الصورة المتشكلة عنه من قبل من سمعه أو قرأ له، إذ لا يُستبعَد أن تمضي الشبهة بالآخر إلى كون المتحدث أو الكاتب في نطاقه شخصاً يبحث عن البلبلة، ويقلق من حوله بالتالي، طالما أن الذين يقيمون حوله يعيشون طمأنينة نفسية، وفق قوانين مرعية، وأعراف وتقاليد متوارثة، إذاً ليس من داع لأي حديث عن ذلك.
هنا، ما علي إلا أن أقول في الحال: نعم، وألف نعم ونعم، وبملء فمي طبعاً: أنا مع كل هؤلاء الذين يتخوفون من أحاديث أو إشارات تلفت أنظارهم إلى موضوع حساس، دقيق، وخطير جداً، أي يُخشى جانبه، بحيث ينبغي في الحريص على السلامة النفسية لمجتمعه أن يكون حائلاً دون تسمية ذلك ما أمكن، وليس أن يكون هو نفسه منخرطاً في عملية تتم في خضم النار الحارقة المحرقة.
غير أن هناك بالمقابل، ما لا يجب السكوت عنه،ومداراته بمَكْر ما، أو إدارة الظهر لما يجري، جهة هذا الموصوف بـ" الحساس، الدقيق، والخطير جداً "، خصوصاً، وأن أخباراً أو وقائع، وما أكثرها وهي تترى، تعلِم القاصي والداني بما يبقي هؤلاء ليل نهارهم على بيّنة منها وهي تفصح عما يصدم تحفظاتهم، وعن وهم كبير، ومرضي أحياناً يتلبسهم، جرّاء هذا التكتم الشديد، وتصنُّع اللامبالاة !
ثمة ما يقرَأ في أمكنة مختلفة: في الجرائد، المجلات، والمواقع الالكترونية وغيرها، يضيء ما لا يخفى جهة هتْك المحارم بصيغ شتى، وأخبار محاكم تنتشر سريعاً، رغم كل أوجه التحفظ، تجنباً لردود أفعال جانبية، وهي تفصح عن جرائم أخلاقية، أو فضائح أحياناً، وما يهدد علاقات القربى في الصميم، وهذا يعني، أنه في مجتمع اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، يكون من المضحك جداً، ادّعاء عدم المعرفة، أو ملازمة الصمت، وما يحدث يستحيل تجاهل تأثيره بعمق والنافذ بأكثر من هيئة !
ليس هذا فحسب، حيث إن الكلام الذي من معانيه: الجرح " المكلوم: المجروح " وأنه يرتد إلى متهجئه الحيوي: العضوي، ولا يخفي عوالقه أو ما ينمُّ عنه بمعنى ما طبعاً، وهو يتبدى نافذ الأثر، كما لو أنه التعهد بتسميه منشأه: حدوث الجرح الأبدي في الجسد عميقاً، وأن التفوه به ارتباط به، وما في العملية من تناقض، بين صمت يراد له نسيان ما كان، والخوف من ذكره، وما يستحيل البقاء من دونه، أي ما يستحيل تجاهله، فكأن الناس حينما يتكلمون، إنما، بمقدار ما يؤكدون وجودهم، بمقدار ما يترجمون جرحهم الذي دشّنوا به، وهو عقاب لا مفك منه .
والجدير بالذكر، هناك طبعة مختلفة، من القطع الوسط، في " 280 " صفحة، ستصدر قريباً .