تعد الماركسية المرحلة الفاصلة بين الما قبل والما بعد على صعيد الجهد الفلسفي الانساني من خلال الخوض في مقولات اهملتها الفلسفة من قبل ونادت الماركسية بالتعامل معها، بوصفها مناطق بكر للتفكير وتمثل منطلقات جديدة للتعامل مع الواقع . وعلى الرغم من هذا، الا ان هناك مقدمات مهمة أفادت منها الفلسفة الماركسية من طروحاتها بعد أن طورت الاشتغال بها، وأصبحت مهادا أوليا انطلقت منه، بدءأ من طروحات (فيورباخ) الذي رسخ الجوهر الانساني ليست بوصفه تجريدا متأصلا في كل فرد من الأفراد على حدة، بل أن جوهره هو مجموع علاقاته الاجتماعية، وقد أصبحت هذه المقولات مرجعا نظريا مهما للمتناولات اللاحقة للماركسية مع اسهامات أخرى تمثلت في ما جاء به الديموقراطيين الثوريين الروس ( بلنسكي، تشيرنشيفسكي، برولوبوف، غيرلتسين، أغاريوف) في القرن التاسع عشر لها مكانها البارز في علم الجمال المادي في الفنون التي سبقت الماركسية، اذ عالج (بلنسكي 1811 -1848 م) أهم المسائل المتعلقة بجوهر الفن ودوره الاجتماعي وطبيعة الصدق الفني ومحتوى أهمية مفهوم الشعبية في الفن، وأول من تصدى لنظرية الفن للفن، اذ يعد الحياة أهم موضوع للفن من خلال انتمائه لنظرية الفن للحياة التي آمنت بها الماركسية وعدها مسارا للنظر الى الفن بشكل عام، ويرى أن الفنان يعيد خلق الحياة، وأكد على (شعبية الأدب) وفضح الشعبية الكاذبة التي تعبر عن حياة الفئات الدنيا فقط، بوصف الفن هو المعبر الحقيقي عن الجمال.
فيما اتسمت رؤى ( تشيرنشفسكي 1828 - 1889م) بطابع انثربولوجي، اذ يتصف الفن عنده باعادة خلق الواقع في سعيه الى تحليل علاقة الفن بالواقع والبرهان على أن الفن لا ينشأ من حاجة الانسان الى الرائع، وأنما من مجموع احتياجات الانسانية، ولا يقتصر محتوى الفن على الرائع وأنما يشمل كل ما يهم الانسان بشكل عام، وليس الفن موضوع لذة جمالية فحسب، وانما وسيلة لمعرفة الحياة أيضا، منذ أن نشر بحثه الموسوم (الحياة وعلم الجمال) سنة 1853م الذي هاجم فيه النظرية الجمالية للمثالية الفلسفية، ولا سيما في ذروتها الكلاسيكية في مؤلفات هيغل وتلميذه فيشر، موضحا (أن الواقع أعظم من الأحلام) والمغزى الجوهري أهم من الادعاءات الفنطازية، باحث عن الجمال ليس في الجمال المثالي، بل في جوهر الواقع ذاته ويرى أن (الجمال هو الحياة) أي أن الأشياء جميلة تلك التي نراها في الحياة وفقا لتصوراتنا كما ينبغي أن تكون، وجميل هو ذلك الشيء الذي يعبر عن الحياة الذي يذكرنا بها . فالواقع متنوع وممتليء ويتمتع بمغزى أعظم من أي بدعة من بدع الخيال، ويترتب على ذلك ان الفن هو الآخر لا يستطيع أن يتفوق على الواقع . بمعنى أن الوظيفة الأساسية للفن هي اعادة انتاج كل ما يثير اهتمام الانسان في الحياة، ولكن عندما يعيد الفنان انتاج الحياة بوعي أو بدون وعي فأنه يعبر في الوقت نفسه عن رأيه الخاص بها . وبفضل هذا يتحول الفن الى نشاط اخلاقي للانسان ، وأن اهتمام الانسان بالحياة يشتمل رسم القبيح والجميل في آن واحد، ومفهوم الحياة لديه بوصفه مضمون الفن هو مفهوم ديناميكي جدلي، أنه صراع الحياة، الحياة مثلما هي عليه الآن في الواقع لا كما هي في الأحلام . أما (ديروليوبوف 1836 – 1861 م) فيرى أن الأدب يعيد خلق الحياة المتغيرة، والصدق مع تلك الحياة هو أول شروط العمل الفني ويتمثل الصدق وانعكاس الواقع في تصوير الصفات الأساسية والنموذجية لا الصفات العرضية والظاهرية للحياة الواقعية، وتصوير المعنى الحياتي لهذه الظاهرة أو تلك وعن مكانها الحقيقي وأهميتها في مجمل الوقائع وأحداث الحياة، وأن يكون ارتباط الحوادث في العمل الفني ومنطلقها الداخلي متلائمين مع سير الحوادث الطبيعية في الحياة الواقعية .
وتعد الأستطيقا الماركسية الفنون والابداع جزءا مهما منها، بل هي التسمية الأكثر أهمية بها، وهي مجال العمل الابداعي الذي يصدر وفقا لقوانين الجمال والشعور الفني والتكامل الفكري، وترى في الفن صورة خاصة من صور فهم الانسان للعالم، وتدرس المباديء العامة لموقف الانسان الجمالي أزاء الحقيقة الواقعية، وبهذا ترتبط الجمالية الماركسية بالمباديء الأساسية للمادية التأريخية وبأبعاد فهمها للتطور الاجتماعي، وهذا ما عبر عنه (تولستوي) بقوله "أن الفن يخاطب الجماهير، وعرفه بأنه نشاط غايته نقل المشاعر التي يحس بها الانسان الى الآخرين، وعده وسيلة من وسائل الاتصال بين أفراد المجتمع" . وقد بقيت هذه المحاولات طافية حتى ظهور (ماركس وانجلز) على الساحة الفلسفية، حيث استوت هذه الطروحات الى نظريات جمالية، اذ ارتبطت طروحاتهما بجدلية الواقع وهو التربة الخصبة والأساس لعلم الجمال الفني، لكن هذا لا ينبغي أن يكون الجمالي في الواقع مساو للجمالي في الفن من حيث الأهمية، فبين هذين النوعين من الجمال علاقات معقدة، وأن الجمالي في الفن يتصف بغائيته وبتفسيره الفكري الخاص وبشحنته الاجتماعية وبتركيزه الخاص .
وبهذا اعتبرا (ماركس وانجلز) أن لكل نشاط مادي عملي انساني جانبا جماليا، وهذا لا يقتصر على الابداع الفني او الطبيعة، ففي النشاط المادي هناك فسحة جمالية، أما في الفن هو الجوهر، وهو الذي يجعل الفن شكلا متميزا من اشكال المعرفة الاجتماعية، لذلك هيمنت النظريات التي طورها كل من (ماركس، انجلز، بليخانوف، لينين، بلنسكي، تشرنيشفسكي) على الرؤية الجمالية والنقدية، وهي نظريات كانت تؤكد الحتمية الاقتصادية في مضمار الأساليب الفنية، بوصفها مظهرا من مظاهر العملية الجدلية في التطور الثقافي، ودور الفن في تقوية (وأحيانا تقويض) النسق الاجتماعي – الاقتصادي في أحقاب مختلفة من التأريخ . وقد كشفا من وجهة نظر مادية متماسكة عن ديالكتيك العلاقة بين الموضوعية والذاتية في الجمالي، وأظهرا أن الموضوعية تشكل أساس الذاتية في اشارة الى ذوبان وانصهار الذات المنفردة في الذات الجمعية، وأن الناحتين الموضوعية والذاتية ماديتان في النهاية . كما يرى (ماركس) أن العلاقة الجمالية الحقيقية بالواقع هي علاقة وحدة داخلية عضوية مع الموضوع وبعيدة في الوقت نفسه عن الانسجام التأملي المجرد، ويعد الحرية هي الشرط الأهم في الجمال وهي مصدره وجوهره "جميل حقا ما هو حر، وقبيح كل ما ليس حرا" أي أن الجميل مقترن بحرية الفنان وانعتاقه من جميع السلطات التي تراقب منجزه الابداعي وتحيده، والقبيح هو ذلك المقيد والمقموع والمهمش .
ولذلك كانت هذه المقدمات الحقيقية التي أعانت ماركس وأنجلز في صياغاتهما اللاحقة، ولعل الماركسية وأن كانت تنتمي الى الموضوع الواقعي نفسه،الا أنها انشطرت فيما يعنى بالرؤى التفصيلية، فيشترط ماركس الوعي أساسا في مجمل العمليه ولكن لا يقدمه على الحياة، أذ أن الحياة لا يقررها الوعي، بل الوعي تقرره الحياة، ولهذا لكي يفهم المرء الوعي أو أي من التجليات الخاصة كالعمل الفني مثلا، فعليه أن يبدأ من الأفراد الأحياء الحقيقين أنفسهم، مثلما هم في الحياة الفعلية، وأن يعتبر الوعي وعي هؤلاء ليس إلا . وأن التناقض بين الوعي (بما في ذلك الفن) وبين الحياة أمرا حتميا في بعض الظروف، وأن أشكال الوعي تفسرها العلاقات الاجتماعية، وبهذا أرسى أسس تأريخ علمي للفن يتجاوز الوصف لأشكاله المتغيرة من خلال الكشف عن الجذور الاجتماعية لتأريخ الأساليب الفنية بكل شموله وتعقيده . وأن الفن هو عرض ايضاحي مثير يقوم في الوقت نفسه بكشف ساطع للمفهوم الأساسي في الجدل ونعني به وحدة الأضداد، لأن الخاص يتحول الى عام والعام لا يكشف عن نفسه الا عن طريق الخاص، وبالتالي فأن وحدة الخاص والعام التي تعبر عنها وحدة الشكل والمضمون، هي التي تجعل من الفن مصدرا لخبرة هامة لا تنضب .
وهنا استطاعا (ماركس وانجلز) لأول مرة في تأريخ الفكر الانساني أن يفسرا تطور المجتمع من وجهة مادية ديالكتيكية، واعتبرا تأريخ المجتمع تتمة لتأريخ الطبيعة وأشارا الى وجوب دراسة الطبيعة والمجتمع من ناحية صفتهما الشاملة وخصائصهما المميزة، وتضاف اليهما مقولتي البناء التحتي lower structure والبناء الفوقي super structure، ويكون مجموع هذه العلاقات الانتاجية البناء الاقتصادي للمجتمع وهو القاعدة الحقيقية التي يشيد عليها البناء الفوقي الحقوقي والسياسي الذي تتلاءم معه أشكال محددة من الوعي الاجتماعي . وأن محاكمة الأعمال الفنية لا بد أن تتم طبقا لعصرها وتأريخ انجازها ولا تصلح المقارنة بين تأريخين طبقا لمفهوم الحتمية التأريخية، وفيما يتعلق بالفن من المعروف جيدا أن بعض قيمه لا تتطابق بأي حال مع التطور العام للمجتمع وبالتالي مع بنية المادية التأريخية، أي مع الهيكل العظمي لتنظيمه مثل مقارنة الفنون الأغريقية مع المحدثين . لأن ملاحم الأغريق هي تمثيل للميثولوجيا اليونانية وأساس الفن اليوناني، ويؤكد ماركس عدم معارضة السحر الذي يمثله فن الأغارقة مع المرحلة غير الناضجة للمجتمع الذي نشأ فيها هذا الفن، بل يرى على العكس أن سحره ينبع من هذا الواقع ويرتبط بروابط لا تنفصم لأن الشروط الاجتماعية غير الناضجة أنتجت هذا الفن والتي لا يمكن لغيرها أن تنتجه ولا يمكن أن تعود ثانية، ويصف بلزاك في كتابه (الكوميديا الانسانية) بأنه كتب أروع تأريخ واقعي للمجتمع الفرنسي أكثر من الاحصائيين الاقتصاديين. من وجهة نظر أن العوامل التي تؤدي الى الانحطاط في الفن هي نفسها تخلق في الوقت نفسه مستلزمات انبعاثه ما أن يتحرر البشر من عبوديتهم، وهذا مبعث للطروحات القائلة بأن الحداثة الأوربية بدأت مع طروحات ماركس الشاب،لأن الحداثة تحمل المفهوم ذاته وهو بذرة البناء والفناء أو الهدم في اللحظة نفسها.
ولم تتوقف الماركسية عند طروحات ماركس وأنجلز، بل كانت لطروحات المتأخرين أثرها الكبير في رؤية الجمال من زاوية أخرى، فأتسمت رؤية (بليخانوف) بالعمق وأكد على الأسس التأريخية للفكر الماركسي وأن شجرة التفاح لا تعطي غير التفاح، وشجرة الكمثري كذلك، فعصر الانحلال يمنح فنا منحلا أو متصفا بالانحلال، وكذلك عصر التطور، وهذا يؤكد التعالق مع النظريات الاجتماعية وتحديدا مع (هيبوليت تين) وثلاثية (البيئة، العصر، الجنس أو النوع) بوصفها من اشتراطات الماركسية . في حين كانت نظرة (لينين) مختلفة تماما في النظر للجمال وتقديره، حين حلل الفن كعملية جمالية، وليس كنتيجة جمالية، واهتم بماهية الفن المعرفية، وعارض المثالية الظاهرة والمستترة في علم الجمال، وعرى اسطورة الفنان كانسان فذ أعلى من الناس الآخرين، وبرهن على خطأ التفسير المثالي لعملية المعرفة الجمالية وعملية ادراك المؤلف الفني، وقال ليس التلقائية أو التشخيص مرحلة عابرة، بل يتطوران ويتعمقان بالتجريد ولا يعوض عنهما ولا يلغيهما . مغرقا في ذلك من خلال الحديث عن الخاص والعام، فعندما نرسم أو نصور الخاص يجب أن يثير اهتمام عامة الناس (لا الفنان وحده) وهذا نابع من الصدق الذي يحول التجربة الشخصية والذاتية الى تجارب عامة، بعكس التجارب الذي يحول العام الىى خاص والأمثلة كثيرة في الفن والأدب اذا ما حاولنا تقصي الملامح الفنية فيها وانطباق هذا الفهم عليها . لذا كانت صورة فهم للماركسية تنطلق من قراءة الواقع ووضع تفسيرات لها بما فيها محاولة التغيير، على الرغم من الانشطارات في جوهر هذا التفسير في المباني التفصيلية التي ينشدها منظرو الماركسية، واتخاذ كل منهم مساره المختلف في تلك الرؤية .
فيما اتسمت رؤى ( تشيرنشفسكي 1828 - 1889م) بطابع انثربولوجي، اذ يتصف الفن عنده باعادة خلق الواقع في سعيه الى تحليل علاقة الفن بالواقع والبرهان على أن الفن لا ينشأ من حاجة الانسان الى الرائع، وأنما من مجموع احتياجات الانسانية، ولا يقتصر محتوى الفن على الرائع وأنما يشمل كل ما يهم الانسان بشكل عام، وليس الفن موضوع لذة جمالية فحسب، وانما وسيلة لمعرفة الحياة أيضا، منذ أن نشر بحثه الموسوم (الحياة وعلم الجمال) سنة 1853م الذي هاجم فيه النظرية الجمالية للمثالية الفلسفية، ولا سيما في ذروتها الكلاسيكية في مؤلفات هيغل وتلميذه فيشر، موضحا (أن الواقع أعظم من الأحلام) والمغزى الجوهري أهم من الادعاءات الفنطازية، باحث عن الجمال ليس في الجمال المثالي، بل في جوهر الواقع ذاته ويرى أن (الجمال هو الحياة) أي أن الأشياء جميلة تلك التي نراها في الحياة وفقا لتصوراتنا كما ينبغي أن تكون، وجميل هو ذلك الشيء الذي يعبر عن الحياة الذي يذكرنا بها . فالواقع متنوع وممتليء ويتمتع بمغزى أعظم من أي بدعة من بدع الخيال، ويترتب على ذلك ان الفن هو الآخر لا يستطيع أن يتفوق على الواقع . بمعنى أن الوظيفة الأساسية للفن هي اعادة انتاج كل ما يثير اهتمام الانسان في الحياة، ولكن عندما يعيد الفنان انتاج الحياة بوعي أو بدون وعي فأنه يعبر في الوقت نفسه عن رأيه الخاص بها . وبفضل هذا يتحول الفن الى نشاط اخلاقي للانسان ، وأن اهتمام الانسان بالحياة يشتمل رسم القبيح والجميل في آن واحد، ومفهوم الحياة لديه بوصفه مضمون الفن هو مفهوم ديناميكي جدلي، أنه صراع الحياة، الحياة مثلما هي عليه الآن في الواقع لا كما هي في الأحلام . أما (ديروليوبوف 1836 – 1861 م) فيرى أن الأدب يعيد خلق الحياة المتغيرة، والصدق مع تلك الحياة هو أول شروط العمل الفني ويتمثل الصدق وانعكاس الواقع في تصوير الصفات الأساسية والنموذجية لا الصفات العرضية والظاهرية للحياة الواقعية، وتصوير المعنى الحياتي لهذه الظاهرة أو تلك وعن مكانها الحقيقي وأهميتها في مجمل الوقائع وأحداث الحياة، وأن يكون ارتباط الحوادث في العمل الفني ومنطلقها الداخلي متلائمين مع سير الحوادث الطبيعية في الحياة الواقعية .
وتعد الأستطيقا الماركسية الفنون والابداع جزءا مهما منها، بل هي التسمية الأكثر أهمية بها، وهي مجال العمل الابداعي الذي يصدر وفقا لقوانين الجمال والشعور الفني والتكامل الفكري، وترى في الفن صورة خاصة من صور فهم الانسان للعالم، وتدرس المباديء العامة لموقف الانسان الجمالي أزاء الحقيقة الواقعية، وبهذا ترتبط الجمالية الماركسية بالمباديء الأساسية للمادية التأريخية وبأبعاد فهمها للتطور الاجتماعي، وهذا ما عبر عنه (تولستوي) بقوله "أن الفن يخاطب الجماهير، وعرفه بأنه نشاط غايته نقل المشاعر التي يحس بها الانسان الى الآخرين، وعده وسيلة من وسائل الاتصال بين أفراد المجتمع" . وقد بقيت هذه المحاولات طافية حتى ظهور (ماركس وانجلز) على الساحة الفلسفية، حيث استوت هذه الطروحات الى نظريات جمالية، اذ ارتبطت طروحاتهما بجدلية الواقع وهو التربة الخصبة والأساس لعلم الجمال الفني، لكن هذا لا ينبغي أن يكون الجمالي في الواقع مساو للجمالي في الفن من حيث الأهمية، فبين هذين النوعين من الجمال علاقات معقدة، وأن الجمالي في الفن يتصف بغائيته وبتفسيره الفكري الخاص وبشحنته الاجتماعية وبتركيزه الخاص .
وبهذا اعتبرا (ماركس وانجلز) أن لكل نشاط مادي عملي انساني جانبا جماليا، وهذا لا يقتصر على الابداع الفني او الطبيعة، ففي النشاط المادي هناك فسحة جمالية، أما في الفن هو الجوهر، وهو الذي يجعل الفن شكلا متميزا من اشكال المعرفة الاجتماعية، لذلك هيمنت النظريات التي طورها كل من (ماركس، انجلز، بليخانوف، لينين، بلنسكي، تشرنيشفسكي) على الرؤية الجمالية والنقدية، وهي نظريات كانت تؤكد الحتمية الاقتصادية في مضمار الأساليب الفنية، بوصفها مظهرا من مظاهر العملية الجدلية في التطور الثقافي، ودور الفن في تقوية (وأحيانا تقويض) النسق الاجتماعي – الاقتصادي في أحقاب مختلفة من التأريخ . وقد كشفا من وجهة نظر مادية متماسكة عن ديالكتيك العلاقة بين الموضوعية والذاتية في الجمالي، وأظهرا أن الموضوعية تشكل أساس الذاتية في اشارة الى ذوبان وانصهار الذات المنفردة في الذات الجمعية، وأن الناحتين الموضوعية والذاتية ماديتان في النهاية . كما يرى (ماركس) أن العلاقة الجمالية الحقيقية بالواقع هي علاقة وحدة داخلية عضوية مع الموضوع وبعيدة في الوقت نفسه عن الانسجام التأملي المجرد، ويعد الحرية هي الشرط الأهم في الجمال وهي مصدره وجوهره "جميل حقا ما هو حر، وقبيح كل ما ليس حرا" أي أن الجميل مقترن بحرية الفنان وانعتاقه من جميع السلطات التي تراقب منجزه الابداعي وتحيده، والقبيح هو ذلك المقيد والمقموع والمهمش .
ولذلك كانت هذه المقدمات الحقيقية التي أعانت ماركس وأنجلز في صياغاتهما اللاحقة، ولعل الماركسية وأن كانت تنتمي الى الموضوع الواقعي نفسه،الا أنها انشطرت فيما يعنى بالرؤى التفصيلية، فيشترط ماركس الوعي أساسا في مجمل العمليه ولكن لا يقدمه على الحياة، أذ أن الحياة لا يقررها الوعي، بل الوعي تقرره الحياة، ولهذا لكي يفهم المرء الوعي أو أي من التجليات الخاصة كالعمل الفني مثلا، فعليه أن يبدأ من الأفراد الأحياء الحقيقين أنفسهم، مثلما هم في الحياة الفعلية، وأن يعتبر الوعي وعي هؤلاء ليس إلا . وأن التناقض بين الوعي (بما في ذلك الفن) وبين الحياة أمرا حتميا في بعض الظروف، وأن أشكال الوعي تفسرها العلاقات الاجتماعية، وبهذا أرسى أسس تأريخ علمي للفن يتجاوز الوصف لأشكاله المتغيرة من خلال الكشف عن الجذور الاجتماعية لتأريخ الأساليب الفنية بكل شموله وتعقيده . وأن الفن هو عرض ايضاحي مثير يقوم في الوقت نفسه بكشف ساطع للمفهوم الأساسي في الجدل ونعني به وحدة الأضداد، لأن الخاص يتحول الى عام والعام لا يكشف عن نفسه الا عن طريق الخاص، وبالتالي فأن وحدة الخاص والعام التي تعبر عنها وحدة الشكل والمضمون، هي التي تجعل من الفن مصدرا لخبرة هامة لا تنضب .
وهنا استطاعا (ماركس وانجلز) لأول مرة في تأريخ الفكر الانساني أن يفسرا تطور المجتمع من وجهة مادية ديالكتيكية، واعتبرا تأريخ المجتمع تتمة لتأريخ الطبيعة وأشارا الى وجوب دراسة الطبيعة والمجتمع من ناحية صفتهما الشاملة وخصائصهما المميزة، وتضاف اليهما مقولتي البناء التحتي lower structure والبناء الفوقي super structure، ويكون مجموع هذه العلاقات الانتاجية البناء الاقتصادي للمجتمع وهو القاعدة الحقيقية التي يشيد عليها البناء الفوقي الحقوقي والسياسي الذي تتلاءم معه أشكال محددة من الوعي الاجتماعي . وأن محاكمة الأعمال الفنية لا بد أن تتم طبقا لعصرها وتأريخ انجازها ولا تصلح المقارنة بين تأريخين طبقا لمفهوم الحتمية التأريخية، وفيما يتعلق بالفن من المعروف جيدا أن بعض قيمه لا تتطابق بأي حال مع التطور العام للمجتمع وبالتالي مع بنية المادية التأريخية، أي مع الهيكل العظمي لتنظيمه مثل مقارنة الفنون الأغريقية مع المحدثين . لأن ملاحم الأغريق هي تمثيل للميثولوجيا اليونانية وأساس الفن اليوناني، ويؤكد ماركس عدم معارضة السحر الذي يمثله فن الأغارقة مع المرحلة غير الناضجة للمجتمع الذي نشأ فيها هذا الفن، بل يرى على العكس أن سحره ينبع من هذا الواقع ويرتبط بروابط لا تنفصم لأن الشروط الاجتماعية غير الناضجة أنتجت هذا الفن والتي لا يمكن لغيرها أن تنتجه ولا يمكن أن تعود ثانية، ويصف بلزاك في كتابه (الكوميديا الانسانية) بأنه كتب أروع تأريخ واقعي للمجتمع الفرنسي أكثر من الاحصائيين الاقتصاديين. من وجهة نظر أن العوامل التي تؤدي الى الانحطاط في الفن هي نفسها تخلق في الوقت نفسه مستلزمات انبعاثه ما أن يتحرر البشر من عبوديتهم، وهذا مبعث للطروحات القائلة بأن الحداثة الأوربية بدأت مع طروحات ماركس الشاب،لأن الحداثة تحمل المفهوم ذاته وهو بذرة البناء والفناء أو الهدم في اللحظة نفسها.
ولم تتوقف الماركسية عند طروحات ماركس وأنجلز، بل كانت لطروحات المتأخرين أثرها الكبير في رؤية الجمال من زاوية أخرى، فأتسمت رؤية (بليخانوف) بالعمق وأكد على الأسس التأريخية للفكر الماركسي وأن شجرة التفاح لا تعطي غير التفاح، وشجرة الكمثري كذلك، فعصر الانحلال يمنح فنا منحلا أو متصفا بالانحلال، وكذلك عصر التطور، وهذا يؤكد التعالق مع النظريات الاجتماعية وتحديدا مع (هيبوليت تين) وثلاثية (البيئة، العصر، الجنس أو النوع) بوصفها من اشتراطات الماركسية . في حين كانت نظرة (لينين) مختلفة تماما في النظر للجمال وتقديره، حين حلل الفن كعملية جمالية، وليس كنتيجة جمالية، واهتم بماهية الفن المعرفية، وعارض المثالية الظاهرة والمستترة في علم الجمال، وعرى اسطورة الفنان كانسان فذ أعلى من الناس الآخرين، وبرهن على خطأ التفسير المثالي لعملية المعرفة الجمالية وعملية ادراك المؤلف الفني، وقال ليس التلقائية أو التشخيص مرحلة عابرة، بل يتطوران ويتعمقان بالتجريد ولا يعوض عنهما ولا يلغيهما . مغرقا في ذلك من خلال الحديث عن الخاص والعام، فعندما نرسم أو نصور الخاص يجب أن يثير اهتمام عامة الناس (لا الفنان وحده) وهذا نابع من الصدق الذي يحول التجربة الشخصية والذاتية الى تجارب عامة، بعكس التجارب الذي يحول العام الىى خاص والأمثلة كثيرة في الفن والأدب اذا ما حاولنا تقصي الملامح الفنية فيها وانطباق هذا الفهم عليها . لذا كانت صورة فهم للماركسية تنطلق من قراءة الواقع ووضع تفسيرات لها بما فيها محاولة التغيير، على الرغم من الانشطارات في جوهر هذا التفسير في المباني التفصيلية التي ينشدها منظرو الماركسية، واتخاذ كل منهم مساره المختلف في تلك الرؤية .
علم الجمال الماركسي .. وصورة فهم العالم
www.iraqicp.com