خالد جهاد - صرخات لم يسمعها أحد

مع كل إشراقة شمس ومع كل يومٍ نعيشه مدركين لما حولنا من واقع وخاصةً في السنوات الأخيرة بكل مافيها من أحداثٍ مؤلمة للإنسان في كل مكان، ندرك كم أننا محظوظون إذا كنا بخير وكان من نحبهم بخير، وندرك معنى أن تحيطنا جدران تحمينا، تحجبنا وتحجب وجعنا وحاجاتنا عن أعين الغير بكل ما تحمله الكلمة من أبعادٍ حزينة، لذا وكجزءٍ من فضيلة الإمتنان لكل ما نملكه من نعم مهما بدت لنا بسيطة علينا أن لا ننسى من رحلوا وحرموا مما هو أقل من ذلك بكثير، حرموا من الحياة.. من الإبتسامة.. من الأمان.. من الدفىء.. من الكلمة الحانية والمعاملة الحسنة.. من مأوىً يحميهم.. من كسرة خبز أو رشفة ماء أو دواءٍ يخفف من وجعهم.. أو حرموا من عزيزٍ يغنيهم وجوده عن كل ما ذكر مع أنه أقل القليل..

واليوم نتذكر ونحيي الذكرى السنوية الحادية والأربعين لمذبحة صبرا وشاتيلا وضحاياها من المدنيين العزل الذين قتلوا دون ذنبٍ منهم.. ففي مثل هذا اليوم نفذ جيش الإحتلال الصهيوني مع المليشيات الموالية له في لبنان المذبحة التي سميت (بمذبحة العصر) وسجلت كواحدة من أفظع المجازر في التاريخ الإنساني، استمرت هذه الجريمة على مدار ثلاثة أيام متواصلة دون توقف وبإستخدام السكاكين والفؤوس والسواطير والأسلحة البيضاء بعد تطويق المخيم بالكامل واستخدام الجيش الصهيوني للقنابل المضيئة ليلاً لتسهيل استمرار عمليات القتل والذبح على أيدي معاونيه، ونقل شهود عايشوا المجزرة أن المخيم رغم تعقيمه ورشه بالمطهرات يومياً على مدار ستة أشهر ظل عابقاً بروائح الدم والجثث والتي باتت الكثير منها طعاماً للقطط والكلاب الضالة التي لوحظ ازدياد وزنها نظراً لوفرة ما تأكله من أجساد، دون أن ننسى مشاهد لحوامل بقرت بطونهن وتم قتل أجنتهن وتقطيعها قبل إلقاء جثثهم جميعاً في أزقة المخيم إلى جانب أطفال قطعت أطرافهم، وعشرات الأشلاء والجثث المشوهة التي تناثرت في الشوارع وداخل المنازل المدمرة، أو ألقوا بعد قتلهم والتمثيل بجثثهم في آبارٍ عميقة للمياه، كما اقتادوا ممرضين وأطباء من (مستشفى عكا) إلى وجهات أخرى حيث تمت تصفيتهم بطرق مختلفة..

واللافت في هذه المجزرة هو كم الحقد والتشفي والإبتكار في طرق التعذيب في مرحلة ما قبل القتل التي كان فيها الإرهاب والإغتصاب أمراً عادياً جداً، بالإضافة إلى مشاهد مربكة للعقل البشري كمشهد بعض القتلة الذين كانوا يتسلون بأن يطلبوا من بعض الضحايا أن (يرقصوا) قبل إعدامهم، وكما سجل من ضمن شهادات بعض سكان المخيم مع العديد من الصحفيين ووكالات الأنباء المختلفة واقعة العثور على الكثير من أصناف المخدرات التي تعاطاها المسلحون قبل القيام (بمهمتهم)، وحتى اليوم يأتي من مختلف أنحاء العالم العديد من الأطباء والممرضين الذين شهدوا على هذه الفاجعة للتضامن مع الشعب الفلسطيني وإحياء ذكرى الضحايا وذكرى زملائهم الذين كانت انسانيتهم المفرطة هي خطيئتهم الكبرى التي لا تغتفر، والتي تمثلت في ترك بلادهم وكل أعمالهم لمساعدة شعب منكوب، كما يجدد العديد من الفلسطينيين الذين تركوا المخيم وهاجروا بعد المذبحة إلى بلادٍ أخرى رواية قصتهم ليذكروا الأجيال الجديدة بها وليظل حق الضحايا قائماً لا يطويه النسيان، وبرغم تضارب الأرقام حول العدد الحقيقي لضحايا وشهداء المجزرة بسبب عمليات الدفن الجماعية واستخدام الجرافات لدفن عدد كبير من الجثث، إلا أنها تراوحت بين ١٥٠٠ إلى ٣٠٠٠ شهيد بحسب بعض الإحصائيات والتي وصلت في تقديراتٍ أخرى إلى ٥٠٠٠ ضحية بين شهيد ومفقود حتى الآن وفق بعض الإحصائيات التي قامت بجمع عدد الجثث التي أحصاها الصليب الأحمر مع العدد الذي صرح به بعض عناصر المليشيات، وذكرت مصادر أخرى منها (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) أنّ عدد القتلى وصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف ضحية..

ووثقت الدكتورة سوي آنغ شانغ ماحدث في شهادتها وهي طبيبة كانت تعمل في (مستشفى غزة) داخل المخيم قائلةً..

مساء يوم ١٥ سبتمبر/أيلول/ شتنبر اقترب القصف من المخيم وعلمنا أننا محاصرون من قبل الجيش الإسرائيلي.. أغلب الجرحى كانوا من النساء مع إصابات بأسلحةٍ رشاشة، كانت الإصابات في الفكّ والرأس والذراع والساق، سمعت في البداية أن قناصاً يطلق النار على من يذهب لجلب الماء وأنه خلال فترة بعد الظهر، دخل مسلحون إلى المنازل وأطلقوا النار على العائلات..

صباح يوم ١٨ أيلول أي في اليوم الثالث للمجزرة، أتى رجال الميليشيا إلى (مستشفى غزة) التي تحوّلت إلى ملجأ لسكان المخيم إلى جانب الجرحى، ثم طلب أحد رجال الميليشيات من الأجانب الخروج وكانت هذه المرة الأولى التي أغادر فيها الموقع، رأينا الرجال والنساء والأطفال في مجموعات محاطين بالجنود.. قلت لنفسي يا إلهي، هل سيطلقون النار على جميع هؤلاء الأشخاص؟

خلال سيرنا، حاولت إحدى النساء إعطائي طفلها، وأدركت من خلال النظرات في عينيها أنها تعتقد أنها ستُقتل وأن علي أن آخذ طفلها، لم يسمح لي الجنود ودفعونا في أحد الممرات وعندها رأيت جثث الموتى، حاولت النظر إلى وجه أحدهم لأني اعتقدت أني أعرفه.. واكتشفت أنهم اقتلعوا عينيه..

يذكر أن هذه المذبحة ورغم الإدانة العالمية لها إلا أنه لم يتم محاسبة أو محاكمة أيٍ من المتورطين فيها حتى اليوم، فماذا سيكون شعور أيٍ منا لو كان هو أو فرداً من أفراد عائلته أو شخصاً عزيزاً عليه أحد ضحايا هذه المجزرة المروعة..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى