قراءة في كتابه" نحو بلاغة جديدة"
تَعوَّدنا من الساحة النقدية أنْ تَمُدَّنا بنصوص تُعالج أجناسا وقضايا وإشكالات مختلفة ومتنوعة، كما تعودنا من البلاغي محمد مشبال إصدارَه لكتبٍ تُساهم في تعميق مشروعه البلاغي وتدقيق مجالاته وتجلياته...غير أن المُؤَلَّف الجديد الذي وسمَه ب " نحو بلاغة جديدة: حوار في البلاغة" هو نصٌّ مختلف وطريفٌ من حيث مضمونِه، لأنه يجعَلنا نتعرّف على شخصيته الذاتية قبل الموضوعية، كباحثٍ نهجَ لنفسِه صِراطا خاصا ومُتفرِّدا، إنَّه عبارة عن سيرة ذهنية سعى من خلالها إلى الكشف عن مَسيرِه الأكاديميّ والعلمِي، فكان أنْ قدَّم لنا قِصَّةَ تَفكيره المنهجي بمشروعه منذ لَبِناته التأصيلية الأولى...
الشيء الذي يدفعنا للتساؤل: لماذا كتب الدكتور محمد مشبال هذا النص ونشره؟
الجواب عن هذا السؤال المَشروع طَرْحُه؛ سيأتي مُتناثِرا عبر طياتِه وبيْن محاورِه، هذه الأخيرة التي وَزَّعها في شكل أسئلة كانت قد طُرِحت عليه ما بين 2007 و2021م، خلال لقاءاته وندواته المتنوعة.
اختارَ الباحث هذا القالب بوعي نقدي ومعرفةٍ بحدود ما تُوفّرُه الأجناس من إمكاناتٍ ومساحةٍ للقول " لِكاتبِ السيرة حُرية واسعة في إبداع نصّه السيري، فالإطار النوعِيّ الذي يَتحرَّك فيه لا تُثقِله قيود صارمة أو تَحكُمه قواعد ثابته [...] يُعنى بقول تاريخه الشخصي الخفي أو غير المكتوب وسرد ذاته والتفتيش فيها، أكثر مما يُعنى بطرائق القول وأساليب السرد" ، من هنا تَكون السيرة باعتبارها ترجمة ذاتية، قالبا فنيا وَظَّفَه محمد مشبال الناقد عن قصدٍ، لِيَصُبَّ فيه بَوحَه ويُملي شهادَته النَّثرية، مُسوِّغا إيّاها في شكل "استبانة" = Questionnaire ، ذاتِ أسئلة مفتوحة، تُعطيه مساحةً كافية للإجابة المَقالية بالكمّ والكيف الذي يُريدُه، وإذْ أضعُ سطرا على مَلفوظ "يريده" ؛ أُفكّر وأَتذكَّر أنَّ الكاتب – وهو أستاذي بالتعليم العالي – باحثٌ وأكاديميّ وبلاغي كبير، يُجيد الإقناع بكفاياتِه التواصلية، والتي هي مُتأصِّلة في سلوكاته اليومية، فعندما يتحدث من خلال النصّ عن مواكبته للطلاّب، أَسترْجِع انضباطَه معنا في صباحيات دجنبر ويناير... الباردة، وحضورَه لقاعة الدرسِ بِأتَمّ استعدادٍ ونشاط، تَجعَلُنا نَلمَس فيه وعيا منهجيا وبيداغوجيا سديدا، وَكمْ يكونُ سعيدا بالإنصات إلى الاشكالات التي نَحتاجُ فيها إلى توجيهٍ أو استفسار، بلْ ولقد لمَحْتُه - مرارا - صابرا في تَفَهُّم بعض الأسئلة على بساطَتها وسذاجتِها أحيانا...
الآن وأنا أتأملُ قولَه " المُؤلِّف الحقيقيّ ينبغي أنْ يكونَ صاحبَ مشروع؛ إبداعه الحقيقي في افتراع فكرة وتنميتِها بالبحث وخلقِ سياقٍ ثقافيّ حيويّ لها؛ فأهمية أنْ يكونَ للباحث مشروع تعني قُدرتُه على خلق مجال للبحث وتلاميذه يُطوّرون المشروع ويُضيفون إليه ويسدون ثغراته. المؤلفُ لا يكتب لنفسه" ، أُدرِكُ شَغفه بحقل المَعرفة والبحث الذي جَعلَه ينغمسُ في عالمِهما حَدّ التّماهي، مِمّا انْعكسَ على شخصيتِه وحياتِه، مَدعوما بِإيمانه وحُبّه الشّديد لِما يقوم به، ذلك أنَّ مفهوم (الباحث) عِنده مُؤطرٌ بمعاييرَ صارمةٍ وبالتزامات ضابِطة، لا يستطيع أن يَتَحَمَّلَها إلاّ كلُّ شغوفٍ مُتفانٍ، فيقول " إن الباحث الأكاديمي قلما يعيشُ لحظةَ ابتهاج في حياته؛ فهو طوال الوقت منعزلٌ ومنهمك في القراءة والكتابة والتدريس والتصحيح وتحكيم الأعمال ومُتابعة الطّلاب، إنه محكومٌ باعتزال الناس والابتعاد عن لحظات الابتهاج الجماعية في معظم أوقاته؛ مجبَرٌ على أن يعيش حياةً صارمة ومنضبطة إنْ قرّر أنْ يُنجِز أعمالا حقيقية قادرةً على أنْ تفرِض نفسَها على القارئ المُتخصّص في العالم العربي" .
لطالما كان بالنسبة لنا نحن الطلاب؛ أستاذا مُتميِّزا بشخصيتِه المتواضعَة والمَهيبة في الآن نفسِه، الفريدَة والمسؤولَة والمُتعاوٍنة...يُوجِّهنا بذكاء ولِين وتواصُل فعّال، أَشهَدُ أنَّه غَيَّرَ منْ أذهانِنا ذلك المفهوم المدرسيَّ المُنقِص لأدوار البلاغة، بِما هي لائحةٌ من المُحسنات اللفظية المُحنّطَة، التي تُعنَى بمعرفة قواعد تحسين الخطابات ، إلى بلاغة رحبة ، تُوجِّهنا إلى امتلاكِ كفايات مَعرفية لتحليل الخطابات التي أنشأها أصحابُها إما لأغراض تداولية عملية أو تخييلية أدبية، فأصبحتْ بالتالي عبارة عن مُقاربة تحليلية مُمَنهجَة، تستثمِر الموروث القديم في إطار جديد، مع ما يجرّهُ ذلك من اصطدام بإشكالات نقدية مُلغِزة، واجهتها البلاغة بتحدٍّ كبير، الشيء الذي يفسِّر لنا؛ إصرار الدكتور مشبال على جِدّية الطّرح، وحِرصه الشديد على تحقيق تصوُّره، برؤية استراتيجية واعية، توخَّتْ خلقَ حلقاتٍ من التعاون والتواصل مع مختلف فِئات الباحثين والمهتمين ، تُرجِمَت بتنظيم ندوات وأيام دراسية، يُكرَّم فيها المجدون الذين أسهموا بأعمالهم ومشاريعهم في تطوير الثقافة المغربية والعربية، والغرض - كما يفصح عنه بنفسه – " ...والغرض من ذلك كله خلق التفاعل والاحتكاك بين أفكارنا وأفكار غيرِنا من الباحثين الذين نستدعيهم من جامعات مغربية وعربية، كما أنَّ نَشرَ أعمال هذه الندوات والمؤلفات الجماعية التي أحرص على إنجازها بشكل متواصل، من شأنها أنْ تُحفِّز الباحثين الشباب على الانخراط في المشروع وتطويره، كما من شأنها أنْ تُطلِع القارئ العربي على طبيعة الأبحاث التي ننجزها في هذا الحقل، وكلُّ ذلك في النهاية يقضي إلى خلق حوار عربيّ أكاديمي مُوسَّع حول البلاغة."
ولأن البحث في البلاغة هو بحثٌ في السِّمات والأشكال التي يتحقق بهما التأثيران الحجاجي والأدبي في الخطابات، فقد دَفعه هذا إلى طَرق باب التّرجمة بنفسه ، من أجل توسيع التحليل البلاغي لصُوَر الأسلوب، ومنها تعميقُ البلاغة الأدبية بمفهوماتِها الدّقيقة، أفادَه في ذلك كِتاب ستيفن أولمان Stephen Ullmann ، الذي تناولَ الصوَر البلاغية في الخطاب عبر التمييز بين ما هو سياق كليّ وسياق نوعي، وعن ذلك يقول د. مشبال" تستطيع إذن أن تقولَ إن انشغالي بالبلاغة في تجلياتها النصية المتنوعة هو الذي قادَني إلى ترجمة هذا الكتاب، وإلى الاهتمام بالرّواية والقصة والخبر والنادرة. لم أكنْ مُقتنِعا بأن البلاغة تقفُ عاجزَة عن طرق أبواب الأنواع السّردية، لأجل ذلك حَرصْتُ على أنْ أُثبِت بهذه الترجمة أو بما كتبته من دراسات عن علاقة البلاغة بالنص السردي، أنَّ البلاغة تملِك فتح مجال خصب لاختبار أدواتِها وتوسيع مبادئها ومفهوماتها..."
أ ليسَتْ هذه استماثَة وتحديات عالية، تُبرِّرُ أسبابَ مُواصلَة المِشوار البحثِيّ لمدة ثلاثين سنة دونَما ملل أو كلل؟ وتَكشِف قيمَتَيْ الصبر والجَلد اللتيْن يَتمتَّع بهما محمد مشبال، الأستاذ الذي ما فتئ يَغرِسُهما في طلابه، كما ورِثَها هو عن بعضٍ من أساتذته الأفاضل، والذين خصَّهم بالتبجيل عبر هذا الكتاب، وفاءً لِما تَشَرَّبَه مِن معينِهم واعترافا بمجهوداتِهم، فذكرَ المرحوميْن: العلامة د. محمد أنقار والناقد المصري سيد البحراوي.
فأعودُ وأقولُ لَربَّما هي التقاطةُ عينِ ناقديْن مشهود لهما بالكفاءة والمثابرَة ، قد توسَّما فيه استعداداتٍ فطريةً وكفايات ذاتية، تُنبئ بقدرته على تقديم شيء جديد في حقل المعرفة ولو بعد حين، فسانداه بالتوجيه والتشجيع والاحتضان، وفي ذلك يقول عن سيد البحراوي " ...لقد ظل طوال فترة إعدادي لرسالة الماجستير يُمثّل لي المُحاوِر المباشر الذي أعرِض عليه وِجهات نظري على الرّغم من أنَّه لم يكنْ مُشرفا على رسالتي، وكانت حواراتُه لي دقيقة وصارمة إلى الحدّ الذي كنتُ أفصِح له عن عجزي عن مُجاراتها أو القدرة على التّجاوب مع ما كان يتوقعُه مني" ، وعن المرحوم محمد أنقار قال " ومن خلال احتكاكي أيضا بزميلي المرحوم محمد أنقار، هذه نقطة لا ينبغي نسيانها؛ فعندما عُدت إلى المغرب وجدتُ هذا الأستاذ الكبير يحتضنُني" ، هذا التواضعُ العلميُّ هو الذي ما زلنا نلمسُه في مُداخلاته وتوجيهه، ونَتَّكِئ عليه كرافدٍ مهم وسِمَة مميِّزَة لشخصيته ، تسمحُ لنا بالاستنجاد به في كل وقت وحين...
الناظرُ في هذه السيرة الذهنية، سيتأكَّدُ أنها مراحلُ من حياة علمية مليئة بالأحداثِ المتجدِّدة في مُتوالية بلاغية، تتغذّى مِن داخلِها على الإشكالات النّقدية، وتَقتنِص من خارجها بعضَ التقنيات والمُخرَجات، عن طريق المطالعات والقراءات ومحاورة النصوص العربية والغربية، وكذا الانفتاح على تقاسُماتِها المائعة مع كل المناهج والحقول التي تُعنى بتحليل الخطابات...كلُّ هذا جعلها مسيرةً عصاميةً مُكلَّلَةً بأرفع الجوائز وأهمّها بالعالم العربي. إذْ يكفي أنْ نعلَم ما حصلَ له يوم فوزِه بأول جائزة، لنُدرِكَ مدى ما راكمَه نفسِيا ولسنوات، يقول " لا أخفيك أنني عندما تلقيْت خبر فوزي بأول جائزة في حياتي العلمية، جلستُ في مكاني صامِتا لأكثر من سبع ساعات أراجع شريط حياتي العلمية" .
رجلٌ عانى التجاهل والتهميش والعُزلة...، وهو اليوم يكشِفُها ويٌصرِّح بها " لقد تعودت طوال مسيرتي العلمية إما الإهمال والسكوت المطبق على أعمالي، أو تبخيس جهدي والتقليل من قيمة ما أكتب، وقلما حظيتُ بتقدير حقيقيّ، لكنني كنت أومِن بما أصنعُه في حياتي العلمية، ولأجل ذلك لم أتوقف، وكنت دائم السعي إلى تطوير ذاتي" ، هذا البعد التراجيدي لسخرية القدَر، بِقَدْرِ ما هو مُؤلمٌ لأيّ إنسان مهما كانَ قويا، فقد شكَّل له عَونا ودافعا - ربَّما قاسيا – للسَّير قُدُما في طريقه وتطوير حقل البلاغة الذي عاش الجمود والاجترار والابتعاد عن مجرى الحياة...
الكتاب بالإضافة إلى كونه سيرة ذهنية، يُفصِح فيها البلاغي محمد مشبال عن مسيره Carrière)) العلمي والأكاديمي، فهو يكشف:
أولا – عن مَعقِلِه الدفاعيّ المُتجلّي في قدرة البلاغة على مُحاورَة كلّ النصوص، حتى الأدبية منها والتخييلية مثل الرواية، بالرغم من المعارضة الشديدة التي ما فتئ يتَعرَّض لها، وفي ذلك يقول" هناك أطروحة تقول إن البلاغة ينبغي أن تصمت عندما تواجه الأدب الحديث، وحجج القائلين بها لا تعري عن القوة، ولأجل ذلك لا أتردد في مناقشتها دفاعا عن أطروحة نقيضة. من ذلك مناقشتي هنا لما قاله الناقد الأكاديمي حميد لحمداني" .
ثانيا – مَقصِديَّتَه في ضرورة أنْ يكون للباحث الأكاديمي مَشروعٌ يشتغِل عليه، ويُطوِّره بمحاورة وإشراك الطلاب والباحثين ومختلف الفاعلين، مع ما يتطلب ذلك من صبر ومثابرة واستمرارية، حتَّى لا تكون إصداراته وكتاباته معزولة ومتذبذبة يعتريها التناقض...
ثالثا – صورة محمد مشبال الإنسان من خلال خطابه، وهذا ما يُعَبَّر عنه بلاغيا بالإيتوس Ethos، حيث أن القارئ لهذه السيرة، لنْ يغنَم فقط تَصوُّره عن البلاغة، بل إن شفافيته في سردِها خطابيا، أفرزَ لنا خصائصَه الذاتية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء منها الاجتماعية أوالسيكولوجية والتواصلية، والتي لا يمكن إلا الاقتداء ثم الافتخار بها.
المراجع المعتمدة
1. محمد مشبال، نحو بلاغة جديدة: حوار في البلاغة، خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2023.
2. محمد مشبال، بلاغة السيرة الذاتية: أعمال مهداة للدكتور محمد أنقار، دار كنوز المعرفة، الطبعة الأولى 2018.
تَعوَّدنا من الساحة النقدية أنْ تَمُدَّنا بنصوص تُعالج أجناسا وقضايا وإشكالات مختلفة ومتنوعة، كما تعودنا من البلاغي محمد مشبال إصدارَه لكتبٍ تُساهم في تعميق مشروعه البلاغي وتدقيق مجالاته وتجلياته...غير أن المُؤَلَّف الجديد الذي وسمَه ب " نحو بلاغة جديدة: حوار في البلاغة" هو نصٌّ مختلف وطريفٌ من حيث مضمونِه، لأنه يجعَلنا نتعرّف على شخصيته الذاتية قبل الموضوعية، كباحثٍ نهجَ لنفسِه صِراطا خاصا ومُتفرِّدا، إنَّه عبارة عن سيرة ذهنية سعى من خلالها إلى الكشف عن مَسيرِه الأكاديميّ والعلمِي، فكان أنْ قدَّم لنا قِصَّةَ تَفكيره المنهجي بمشروعه منذ لَبِناته التأصيلية الأولى...
الشيء الذي يدفعنا للتساؤل: لماذا كتب الدكتور محمد مشبال هذا النص ونشره؟
الجواب عن هذا السؤال المَشروع طَرْحُه؛ سيأتي مُتناثِرا عبر طياتِه وبيْن محاورِه، هذه الأخيرة التي وَزَّعها في شكل أسئلة كانت قد طُرِحت عليه ما بين 2007 و2021م، خلال لقاءاته وندواته المتنوعة.
اختارَ الباحث هذا القالب بوعي نقدي ومعرفةٍ بحدود ما تُوفّرُه الأجناس من إمكاناتٍ ومساحةٍ للقول " لِكاتبِ السيرة حُرية واسعة في إبداع نصّه السيري، فالإطار النوعِيّ الذي يَتحرَّك فيه لا تُثقِله قيود صارمة أو تَحكُمه قواعد ثابته [...] يُعنى بقول تاريخه الشخصي الخفي أو غير المكتوب وسرد ذاته والتفتيش فيها، أكثر مما يُعنى بطرائق القول وأساليب السرد" ، من هنا تَكون السيرة باعتبارها ترجمة ذاتية، قالبا فنيا وَظَّفَه محمد مشبال الناقد عن قصدٍ، لِيَصُبَّ فيه بَوحَه ويُملي شهادَته النَّثرية، مُسوِّغا إيّاها في شكل "استبانة" = Questionnaire ، ذاتِ أسئلة مفتوحة، تُعطيه مساحةً كافية للإجابة المَقالية بالكمّ والكيف الذي يُريدُه، وإذْ أضعُ سطرا على مَلفوظ "يريده" ؛ أُفكّر وأَتذكَّر أنَّ الكاتب – وهو أستاذي بالتعليم العالي – باحثٌ وأكاديميّ وبلاغي كبير، يُجيد الإقناع بكفاياتِه التواصلية، والتي هي مُتأصِّلة في سلوكاته اليومية، فعندما يتحدث من خلال النصّ عن مواكبته للطلاّب، أَسترْجِع انضباطَه معنا في صباحيات دجنبر ويناير... الباردة، وحضورَه لقاعة الدرسِ بِأتَمّ استعدادٍ ونشاط، تَجعَلُنا نَلمَس فيه وعيا منهجيا وبيداغوجيا سديدا، وَكمْ يكونُ سعيدا بالإنصات إلى الاشكالات التي نَحتاجُ فيها إلى توجيهٍ أو استفسار، بلْ ولقد لمَحْتُه - مرارا - صابرا في تَفَهُّم بعض الأسئلة على بساطَتها وسذاجتِها أحيانا...
الآن وأنا أتأملُ قولَه " المُؤلِّف الحقيقيّ ينبغي أنْ يكونَ صاحبَ مشروع؛ إبداعه الحقيقي في افتراع فكرة وتنميتِها بالبحث وخلقِ سياقٍ ثقافيّ حيويّ لها؛ فأهمية أنْ يكونَ للباحث مشروع تعني قُدرتُه على خلق مجال للبحث وتلاميذه يُطوّرون المشروع ويُضيفون إليه ويسدون ثغراته. المؤلفُ لا يكتب لنفسه" ، أُدرِكُ شَغفه بحقل المَعرفة والبحث الذي جَعلَه ينغمسُ في عالمِهما حَدّ التّماهي، مِمّا انْعكسَ على شخصيتِه وحياتِه، مَدعوما بِإيمانه وحُبّه الشّديد لِما يقوم به، ذلك أنَّ مفهوم (الباحث) عِنده مُؤطرٌ بمعاييرَ صارمةٍ وبالتزامات ضابِطة، لا يستطيع أن يَتَحَمَّلَها إلاّ كلُّ شغوفٍ مُتفانٍ، فيقول " إن الباحث الأكاديمي قلما يعيشُ لحظةَ ابتهاج في حياته؛ فهو طوال الوقت منعزلٌ ومنهمك في القراءة والكتابة والتدريس والتصحيح وتحكيم الأعمال ومُتابعة الطّلاب، إنه محكومٌ باعتزال الناس والابتعاد عن لحظات الابتهاج الجماعية في معظم أوقاته؛ مجبَرٌ على أن يعيش حياةً صارمة ومنضبطة إنْ قرّر أنْ يُنجِز أعمالا حقيقية قادرةً على أنْ تفرِض نفسَها على القارئ المُتخصّص في العالم العربي" .
لطالما كان بالنسبة لنا نحن الطلاب؛ أستاذا مُتميِّزا بشخصيتِه المتواضعَة والمَهيبة في الآن نفسِه، الفريدَة والمسؤولَة والمُتعاوٍنة...يُوجِّهنا بذكاء ولِين وتواصُل فعّال، أَشهَدُ أنَّه غَيَّرَ منْ أذهانِنا ذلك المفهوم المدرسيَّ المُنقِص لأدوار البلاغة، بِما هي لائحةٌ من المُحسنات اللفظية المُحنّطَة، التي تُعنَى بمعرفة قواعد تحسين الخطابات ، إلى بلاغة رحبة ، تُوجِّهنا إلى امتلاكِ كفايات مَعرفية لتحليل الخطابات التي أنشأها أصحابُها إما لأغراض تداولية عملية أو تخييلية أدبية، فأصبحتْ بالتالي عبارة عن مُقاربة تحليلية مُمَنهجَة، تستثمِر الموروث القديم في إطار جديد، مع ما يجرّهُ ذلك من اصطدام بإشكالات نقدية مُلغِزة، واجهتها البلاغة بتحدٍّ كبير، الشيء الذي يفسِّر لنا؛ إصرار الدكتور مشبال على جِدّية الطّرح، وحِرصه الشديد على تحقيق تصوُّره، برؤية استراتيجية واعية، توخَّتْ خلقَ حلقاتٍ من التعاون والتواصل مع مختلف فِئات الباحثين والمهتمين ، تُرجِمَت بتنظيم ندوات وأيام دراسية، يُكرَّم فيها المجدون الذين أسهموا بأعمالهم ومشاريعهم في تطوير الثقافة المغربية والعربية، والغرض - كما يفصح عنه بنفسه – " ...والغرض من ذلك كله خلق التفاعل والاحتكاك بين أفكارنا وأفكار غيرِنا من الباحثين الذين نستدعيهم من جامعات مغربية وعربية، كما أنَّ نَشرَ أعمال هذه الندوات والمؤلفات الجماعية التي أحرص على إنجازها بشكل متواصل، من شأنها أنْ تُحفِّز الباحثين الشباب على الانخراط في المشروع وتطويره، كما من شأنها أنْ تُطلِع القارئ العربي على طبيعة الأبحاث التي ننجزها في هذا الحقل، وكلُّ ذلك في النهاية يقضي إلى خلق حوار عربيّ أكاديمي مُوسَّع حول البلاغة."
ولأن البحث في البلاغة هو بحثٌ في السِّمات والأشكال التي يتحقق بهما التأثيران الحجاجي والأدبي في الخطابات، فقد دَفعه هذا إلى طَرق باب التّرجمة بنفسه ، من أجل توسيع التحليل البلاغي لصُوَر الأسلوب، ومنها تعميقُ البلاغة الأدبية بمفهوماتِها الدّقيقة، أفادَه في ذلك كِتاب ستيفن أولمان Stephen Ullmann ، الذي تناولَ الصوَر البلاغية في الخطاب عبر التمييز بين ما هو سياق كليّ وسياق نوعي، وعن ذلك يقول د. مشبال" تستطيع إذن أن تقولَ إن انشغالي بالبلاغة في تجلياتها النصية المتنوعة هو الذي قادَني إلى ترجمة هذا الكتاب، وإلى الاهتمام بالرّواية والقصة والخبر والنادرة. لم أكنْ مُقتنِعا بأن البلاغة تقفُ عاجزَة عن طرق أبواب الأنواع السّردية، لأجل ذلك حَرصْتُ على أنْ أُثبِت بهذه الترجمة أو بما كتبته من دراسات عن علاقة البلاغة بالنص السردي، أنَّ البلاغة تملِك فتح مجال خصب لاختبار أدواتِها وتوسيع مبادئها ومفهوماتها..."
أ ليسَتْ هذه استماثَة وتحديات عالية، تُبرِّرُ أسبابَ مُواصلَة المِشوار البحثِيّ لمدة ثلاثين سنة دونَما ملل أو كلل؟ وتَكشِف قيمَتَيْ الصبر والجَلد اللتيْن يَتمتَّع بهما محمد مشبال، الأستاذ الذي ما فتئ يَغرِسُهما في طلابه، كما ورِثَها هو عن بعضٍ من أساتذته الأفاضل، والذين خصَّهم بالتبجيل عبر هذا الكتاب، وفاءً لِما تَشَرَّبَه مِن معينِهم واعترافا بمجهوداتِهم، فذكرَ المرحوميْن: العلامة د. محمد أنقار والناقد المصري سيد البحراوي.
فأعودُ وأقولُ لَربَّما هي التقاطةُ عينِ ناقديْن مشهود لهما بالكفاءة والمثابرَة ، قد توسَّما فيه استعداداتٍ فطريةً وكفايات ذاتية، تُنبئ بقدرته على تقديم شيء جديد في حقل المعرفة ولو بعد حين، فسانداه بالتوجيه والتشجيع والاحتضان، وفي ذلك يقول عن سيد البحراوي " ...لقد ظل طوال فترة إعدادي لرسالة الماجستير يُمثّل لي المُحاوِر المباشر الذي أعرِض عليه وِجهات نظري على الرّغم من أنَّه لم يكنْ مُشرفا على رسالتي، وكانت حواراتُه لي دقيقة وصارمة إلى الحدّ الذي كنتُ أفصِح له عن عجزي عن مُجاراتها أو القدرة على التّجاوب مع ما كان يتوقعُه مني" ، وعن المرحوم محمد أنقار قال " ومن خلال احتكاكي أيضا بزميلي المرحوم محمد أنقار، هذه نقطة لا ينبغي نسيانها؛ فعندما عُدت إلى المغرب وجدتُ هذا الأستاذ الكبير يحتضنُني" ، هذا التواضعُ العلميُّ هو الذي ما زلنا نلمسُه في مُداخلاته وتوجيهه، ونَتَّكِئ عليه كرافدٍ مهم وسِمَة مميِّزَة لشخصيته ، تسمحُ لنا بالاستنجاد به في كل وقت وحين...
الناظرُ في هذه السيرة الذهنية، سيتأكَّدُ أنها مراحلُ من حياة علمية مليئة بالأحداثِ المتجدِّدة في مُتوالية بلاغية، تتغذّى مِن داخلِها على الإشكالات النّقدية، وتَقتنِص من خارجها بعضَ التقنيات والمُخرَجات، عن طريق المطالعات والقراءات ومحاورة النصوص العربية والغربية، وكذا الانفتاح على تقاسُماتِها المائعة مع كل المناهج والحقول التي تُعنى بتحليل الخطابات...كلُّ هذا جعلها مسيرةً عصاميةً مُكلَّلَةً بأرفع الجوائز وأهمّها بالعالم العربي. إذْ يكفي أنْ نعلَم ما حصلَ له يوم فوزِه بأول جائزة، لنُدرِكَ مدى ما راكمَه نفسِيا ولسنوات، يقول " لا أخفيك أنني عندما تلقيْت خبر فوزي بأول جائزة في حياتي العلمية، جلستُ في مكاني صامِتا لأكثر من سبع ساعات أراجع شريط حياتي العلمية" .
رجلٌ عانى التجاهل والتهميش والعُزلة...، وهو اليوم يكشِفُها ويٌصرِّح بها " لقد تعودت طوال مسيرتي العلمية إما الإهمال والسكوت المطبق على أعمالي، أو تبخيس جهدي والتقليل من قيمة ما أكتب، وقلما حظيتُ بتقدير حقيقيّ، لكنني كنت أومِن بما أصنعُه في حياتي العلمية، ولأجل ذلك لم أتوقف، وكنت دائم السعي إلى تطوير ذاتي" ، هذا البعد التراجيدي لسخرية القدَر، بِقَدْرِ ما هو مُؤلمٌ لأيّ إنسان مهما كانَ قويا، فقد شكَّل له عَونا ودافعا - ربَّما قاسيا – للسَّير قُدُما في طريقه وتطوير حقل البلاغة الذي عاش الجمود والاجترار والابتعاد عن مجرى الحياة...
الكتاب بالإضافة إلى كونه سيرة ذهنية، يُفصِح فيها البلاغي محمد مشبال عن مسيره Carrière)) العلمي والأكاديمي، فهو يكشف:
أولا – عن مَعقِلِه الدفاعيّ المُتجلّي في قدرة البلاغة على مُحاورَة كلّ النصوص، حتى الأدبية منها والتخييلية مثل الرواية، بالرغم من المعارضة الشديدة التي ما فتئ يتَعرَّض لها، وفي ذلك يقول" هناك أطروحة تقول إن البلاغة ينبغي أن تصمت عندما تواجه الأدب الحديث، وحجج القائلين بها لا تعري عن القوة، ولأجل ذلك لا أتردد في مناقشتها دفاعا عن أطروحة نقيضة. من ذلك مناقشتي هنا لما قاله الناقد الأكاديمي حميد لحمداني" .
ثانيا – مَقصِديَّتَه في ضرورة أنْ يكون للباحث الأكاديمي مَشروعٌ يشتغِل عليه، ويُطوِّره بمحاورة وإشراك الطلاب والباحثين ومختلف الفاعلين، مع ما يتطلب ذلك من صبر ومثابرة واستمرارية، حتَّى لا تكون إصداراته وكتاباته معزولة ومتذبذبة يعتريها التناقض...
ثالثا – صورة محمد مشبال الإنسان من خلال خطابه، وهذا ما يُعَبَّر عنه بلاغيا بالإيتوس Ethos، حيث أن القارئ لهذه السيرة، لنْ يغنَم فقط تَصوُّره عن البلاغة، بل إن شفافيته في سردِها خطابيا، أفرزَ لنا خصائصَه الذاتية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء منها الاجتماعية أوالسيكولوجية والتواصلية، والتي لا يمكن إلا الاقتداء ثم الافتخار بها.
المراجع المعتمدة
1. محمد مشبال، نحو بلاغة جديدة: حوار في البلاغة، خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2023.
2. محمد مشبال، بلاغة السيرة الذاتية: أعمال مهداة للدكتور محمد أنقار، دار كنوز المعرفة، الطبعة الأولى 2018.