د. محمد عبدالله القواسمة - تقرير تخييلي عن ندوة فلسفية

قُدّر لي ذات مساء من شهر أيلول بأن أذهب لحضور ندوة فلسفية عن جون لوك الفيلسوف والمفكر الإنجليزي (1632- 1704). وهذه المرة الأولى التي أجيء فيها إلى هذا المكان، الذي يقع في أهم شارع من شوارع عمان الغربية. وكان الجو لطيفًا بعد انحسار موجة الحر الشديدة التي اجتاحت منطقتنا.

دخلت قاعة واسعة تتبعثر فيها مجموعة من الطاولات غير متناسقة الألوان والأحجام، وحولها مقاعد وكنبات قديمة. كان الحاضرون يتوزعون في فوضى فلسفية غامضة: فبعضهم متقاربون في صف عمودي، وآخرون متحلقون على شكل نصف دائرة، وآخرون متوارون وراء عمود في المنتصف.

لفت انتباهي أنهم جميعًا من الكبار في السن، ربما أكبرهم في التسعين وأقلهم في السبعين أو الستين عدا اثنين أو ثلاثة في الثلاثين أو الأربعين. منهم النادل الذي كان يتجول في القاعة، يسأل عمن يرغب في تناول الشاي أو القهوة أو النسكافيه. ظننت لأول وهلة بأني في دار للمسنين، لكن بعد أن استقر بي الحال أيقنت من خلال تجوال النادل بنشاط، وقلة من كان أمامهم كؤوس المشروبات بأن المكان أقرب إلى مقهى ثقافي، تُقدّم فيه المشروبات بمقابل مالي.

كان المتكلم في الندوة أحد أصدقائي القدماء، وهو أستاذ فلسفة متقاعد في الثمانين. لا يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلًا حسب بل يصنع السبل التي يحقق بها حب الحياة والإحساس بجمالها أيضًا. أذكر في التسعينيات من القرن الماضي أني كنت أخوض، ضمن القائمة التي يشكلها، انتخابات الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب. وكان السقوط دائمًا حليفي ونجاحه هو رئيسًا أو عضوًا في الهيئة الإدارية.

من وقت لآخر، كان يتوقف عن الحديث عن لوك ليرد على الهاتف؛ إذ إن بعض القادمين لم يستدلوا على المكان من منشور الإعلان عن الندوة؛ لأنه لم يوصف لهم وصفًا دقيقًا، فكانوا يتصلون بالأستاذ يسألونه كي يدلهم على المكان. وعندما كثرت الاتصالات المتسائلة، وكثر توقفه عن الكلام، واشتد الهرج والهمس في القاعة قدّم هاتفه لأحد الحاضرين كي يجيب عنه.

كان يتخلل الندوة فضلًا عن تلك المكالمات أصوات بعض الحاضرين، وهم يتناقشون مع النادل، أو يثرثر بعضهم مع بعض.

كان موضوع الندوة "التسامح عند جون لوك". وقد ركز الأستاذ على رسالة لوك في التسامح الديني؛ لأن الصراع في ذلك الوقت بين الكاثوليك والبروتستانت كان على أشده، وسالت الدماء بين الطرفين في مذابح لم يشهد مثلها العرب في أيامهم الدموية كحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وحرب البسوس بين بكر وتغلب. وكان لوك ينطلق في دعوته إلى التسامح من تعليمات السيد المسيح عليه السلام والديانة المسيحية. وقد رحب بكل دين حتى بالديانة الوثنية، لكنه كان ضد الإلحاد والملحدين.

لم يعجبني لوك. رأيت بأنه في أفكاره التسامحية لم يكن فيلسوفًا بل واعظًا دينيًا؛ فأنكرت في نفسي أن تكون هذه الندوة في الفلسفة. كما لم أدر لماذا التركيز على التسامح في فكر ذلك الفيلسوف مع أن له كتابًا يضم رسالتين في الحكم. كان لهما تأثير كبير في الثورة الأمريكية الكبرى ضد بريطانيا العظمى (1775-1783) كما أن موضوع التسامح الديني الذي نادى به لوك ليس موضوعًا ملحًا هذه الأيام، خاصة ونحن في هذا البلد لا نعاني منه، إنما نعاني من صراعات نفسية في سبيل العيش، ونعاني من مضايقات إسرائيل لأهلنا في الوطن المحتل، ومضايقات الطبيعة وتهديداتها بأن يجري لنا ما جرى من فيضانات وأعاصير وزلازل في تركيا وسوريا وليبيا والمغرب.

انشغلت والأستاذ يتكلم بتأمل الحاضرين. وتساءلت في نفسي عن سبب قدومهم إلى المكان على بعده وصعوبة الوصول إليه؟

أدركت السبب الحقيقي عند انتهاء الندوة، ففي الباب استوقفني رجل عجوز أكبر مني سنًا، وطلب مني أن أسامحه. ابتسمت فائلًا: يبدو أنك استجبت لجون لوك بسرعة؟ أجاب: تعرف يا صاحبي بأننا في أواخر العمر، وقوة الزمن تفرض علينا أن نتسامح. قلت: لم تفعل معي لا شرًا ولا خيرًا لأسامحك، حتى لا أذكر أنا التقينا قبل هذه الندوة. قال: أرجوك أن تسامحني! المسامحة جائزة في كل الأحوال. كل من في القاعة سامحوني. سامحته ومضى في حال سبيله.

ثم جاء رجل عجوز آخر. قال بعد أن صافحني: الزمن يفرض سيطرته على الإنسان ويجبره على التسامح. هل تعلم بأن كل من في القاعة جاؤوا ليسامح بعضهم بعضًا؟ قلت بصوت عال: التسامح خصلة إنسانية نبيلة، ولكن الإنسان يحتاج إلى الحب أولًا فالحب لا يعرف الحقد، ويحقق للمحب السعادة والهناء. هز رأسه وقال: وخصوصًا إذا كان في مثل سننا. لكن سامحني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى