عادل المعيزي - صيدلية الفنون

-1-
وضع احد الصيادلة في احدى الضواحي لافتة أعلى باب الصيدلية كتب عليها «صيدلية الفنون... !"
لا شك ان هذه اللافتة التي تزينها الاضواء في الليل ينقصها الكثير مما لم يقع الاعلان عنه. ولا شك أنّ الفنون تجد استعمالا لها في جميع الظروف وفي كثير من المواطن.. ولذلك فسيكون من المسموح لي إذن أن أنزع عنها، بسهولة، مضامينها المفترضة في السياقات العادية تلك التي تنعكس في الوعي الشعبي على أنها المضامين الجوهرية..
فالإيمان بالفن الذي تزعزع اليوم، لأسباب عديدة مازال يجد في وظيفة العلاج أرسخ ركن من أركانه، ووفقا لهذه الوظيفة يفترض في الفن كدواء أن يتمتّع بميزة إيقاظ الأحاسيس ومعالجة الزكام الذي قد يصيب الروح أو الذي اصابها فعلا بسبب الامراض التي تسببها «العولمية».. وسنظل ننظر إليه على أنّه الأداة الحقيقية لإنقاذ الانسانية من الصراعات والمجاعات والحروب والاوبئة. الا أنّ في ذلك مبالغة تؤدي الى إهانة الصيدلي وإهانة الفن على السواء حتى بالنسبة للأمور التي تعني عصرنا السريالي: فعندما نواجه تاريخ الانسان المديد، كل تاريخه البدائي! سنجد ان استعمال الفن كدواء كان نادرا للغاية لا سيما عند الأشقياء والمجرمين! فالحروب التي يقودها هؤلاء من أجل غايات مازوشية غامضة ليست الأمكنة المناسبة لبروز تلك الدودة القارضة..
جميع المبدعين المنصفين يتفقون حول هذه النقطة رغم أنّهم يشعرون بشيء من الاستياء والخذلان في كثير من الاحيان عندما يعترفون بذلك..
إنّ الفنون تؤلق الحيوية وتجعل القلب أكثر رقة وتساعد على التخلّص من الأحقاد وتشحذ مشاعر الحب والسلام والتقارب وتزيد من قوة المقاومة..
ولذلك إذا رجعنا الى الاطروحة الاولى التي تنفي على الفن وصفة الدواء فإننا سندعي - خلافا لذلك- ان الفن هو الذي أخر - بشكل حاسم- نمو الشعور بالرغبة في التدمير الكوني! ولا ينبغي ان نتهاون في امر الانتباه الى انه في هذه الحالة يصفه الصيدلاني كحبوب لمنع الغيظ المتراكم وكحبوب لمنع الاعمال الاجرامية في جوهرها تلك التي «لا تجد تبريرا لها في مجرد الهوى العاطفي» على حد عبارة نيتشة كالاغتصاب والعنف والاذلال والاعتقال والتعذيب والاجرام كما ترد في سجلات المحاكم المحلية والهيئات الدولية التي تدون فظاعات البشر فيما بينهم...
-2-
ثمة خرافة شعبية كنت اسمعها وانا اتتبع- في طفولتي في ربوع الشمال الغربي- دروب سلالة ادم تقول إن قتل قابيل لأخيه هابيل كان بسبب جهله للفن اذ أنه الى حدود تلك الفترة من التاريخ الميتافيزيقي والواقع الاسطوري الذي جاءت به الخرافة الشعبية لم يستمع في حياته لأغنية- ترسلها ربة الغناء الى ابنائها من بني البشر- ولم يشاهد راقصة ترقص على وقع انغام المزود مثلما كنت اشاهدها بعيوني الطفولية وانا ذاهب الى حفل زفاف على سطح بيت الجيران ثم الى اخر الصف أمضي وفي آخر الصف أفرش خيالاتي واستمتع رغما عنّي بفنّهم حتى لا أفكّر في قتل أخي الذي يكبرني بسنوات قليلة والذي كنت اغتاظ منه كثيرا لأنه لا يحسن الاجابة على اسئلتي اللامتناهية..
ولكن اذا عدنا الى صيدلية الفنون فلا نجد في تفكيك لافتتها شيئا مدهشا يلبي انقداح افكار تحتاج الى التأمل والتفحص والاجترار..لم يعد بوسعي التهرب من ضرورة تحليل مضمون اللافتة تحليلا مدرسيا ساذجا اذ ثمة عبء ثقيل ينوء فوقها..لا شك انها تشعر بنفسها عاجزة عن اداء ابسط وظائفها بسبب عدم انتباه الصيدلاني لخطورة الخطاب السيميولوجي الذي فجّره فوق باب صيدليته ! اذ أنّه لم يخطر بباله قط أن أدخل أنا عليه ذات يوم شتائي ماطر وشحيح الاضواء بسبب تراكم الغيوم الابدية السوداء وأقف خلف المرضى منتظرا دوري في الطابور وحينما أدركته سألني عن طلبي فأشرتُ بأن قصيدتي مريضة وتحتاج دواء ولعله لم يدرك الفرق السيميائي المسلّط على طبلة أذنه بين القصيدة والصديقة فرد بسرعة ماذا بها فقلت تعاني من مغص في الكناية توعك في الاستعارة وبها ضمور في الرمزية..ماذا؟ ما بها؟ مَنْ ؟؟ هل تشكو أنت من شيء؟ أمطرني بوابل من الحيرات المتتالية فتركتُ له صداع مرضاه وزكامهم وخرجت أمام دهشة كل من استمع لحوارنا المقتضب ولم أعد اليه البتة..
-3
ربما اكتسبتْ تلك الصيدلية عمقا وعرضا واتساعا ذات يوم بفعل اللافتة المعلّقة على واجهتها ليس بسبب تزايد تردّد المرضى على شراء الدواء لأمراضهم ولكن بسبب تفطن الصيدلاني لاختصاصه الجديد وهو بيع الأدوية لمعالجة الفنون لأنّ فنونا تعاني من شدة التورّم ومن أمراض لا نهائية تتراوح بين السكري وتصلب الشرايين وصولا الى الانهيارات العصبية..ولا شك أنّ المرضى الذين لم يجدوا علاجا لأمراضهم بعد تجريب كل الادوية قد أصيبوا بعدوى أمراض الفنون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى