. غادر المتنبي حلب مرغما ، وقد املى عليه اعتداده بكبريائه أن يغادرها ، هذه الكبرياء التي لم تكن ادعاء فارغا ، بل كانت تمتلك رصيدا كبيرا يقوم على كتلة كبيرة من المبادئ والمواقف الجريئة ، وعلى شعره المتفرد .
اتخذ المتنبي قراره بشجاعة ، فغادر حلب سرا ، وكان يعرف أن الخيارات البديلة لحلب المتاحة أمامه ضيقة ، كانت تتقاسمه شجون حادة ، و يعيش حالة من الأسى والمرارة أتته من صديقه الأثير سيف الدولة . وربما لم يكن المتنبي سعيدا بتوجهه نحو مصر تحت حكم كافور الذي يمثل الصورة المناقضة لصورة سيف الدولة القائد العربي الكبير ، الذي ملأ على المتنبي كل ما يحلم به من الكرم والشجاعة ، والعروبة التي تقف في وجه الروم لتحفظ بها حدود الدولة العربية .
وكان المتنبي يكره الزعماء العرب وغير العرب الذين مزقوا الدولة العباسية ، ودخلوا في صراعات سخيفة لاطائل منها . وكان كافور - بنظره - الوجه الأكثر قتامة بينهم ، فهو عبد أسود قبيح ، اغتصب السلطة من ابن سيده الإخشيدي ، ومزاياه التي يتمتع بها لا تعجب أبا الطيب ، بل إنه في أعماقه كان يحتقره قبل أن يراه .
وسط هذه المشاعر التي تلاطمت أمواجها في نفسه اتجه إلى مصر ، ولم يكن ذلك مريحا لسيف الدولة ، في حين أن ابا الطيب كان يعد ذلك نكاية به وانتقاما منه على طريقته . وبدون شك ، فإن سيف الدولة بدأ يشعر بالندم ، لأن هناك قصائد مديح ستتوجه إلى غيره ، ولأنه خسر أبا الطيب ، ربما إلى الأبد . ومن اللافت أنه بعد مغادرة المتنبي حلب ، كانت أحوال سيف الدولة تتردى وتتلقى ضربات ، واحدة وراء الأخرى .
راسل كافور أبا الطيب وهو في دمشق ، ودعاه إلى مصر ووعده بإقطاعه أمارة ، وهو الحلم الذي كان يراود المتنبي منذ بداية حياته . فلما ورد مصر أخلى له كافور دارا ، وخلع عليه ، وحمل إليه آلافا من الدراهم .
لكن ابا الطيب لم يمدح كافور مباشرة ، وإنما بعد عدة أيام ، وبعد أن طالبه كافور بذلك ، فقال قصيدته التي عبر فيها بمرارة وحزن شديدين عن الحال الذي صار إليها ، مطلعها :
كفى بك داء ان ترى الموت شافيا
وحسب المنايا ان يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
ما أمر هذا الإحساس الذي يتمنى فيه الموت على ماوصل إليه ! ، وراح عتاب أبي الطيب لسيف الدولة يتدفق كمجرى نهر يفيض من شدة السيل ، يعاتب ولا يشبع من العتاب ، وفي النفس سحب منه تمطر بغزارة ولا تتوقف .
و في القصيدة أجرى المتنبي حوارا ساخنا بينه وبين قلبه الذي كان يخالفه ، فمحبة سيف الدولة استبدت بقلبه ، ولذلك عاتب قلبه ، وخاطبه : أيها القلب الذي أحببته ، عليك ان تقف معي لا مع من غدر بي ، ويقصد سيف الدولة ، فقال :
حببتك ( قلبي) قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
فإن دموع العين غدر بربها
إذا كن إثر الغادرين جواريا
أقل اشتياقا أيها القلب ربما
رأيتك تصفي الود من ليس صافيا
وفي القصيدة ذاتها كان سيف الدولة أكثر حضورا ، وتمحورت حول الأشخاص الثلاثة : المتنبي ، وسيف الدولة ، وكافور ، ما يشير إلى عمق تأثير سيف الدولة في نفسه ، والخيبة التي سيطرت على عواطفه بعد رحيله عن حلب .
وفي القصيدة نفسها أفصح المتنبي في مرافعة حساسة ، عن مطالبه من كافور ، وهي المطالب التي ظل يرددها منذ وصوله إليها إلى ان غادرها سرا ، فبعد أن مدح كافور بأبيات عديدة ، منها :
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فتى ماسرينا في ظهور جدودنا
إلى عصره إلا نرجي التلاقيا
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا
إليه وذا اليوم الذي كنت راجيا
أبا كل طيب لا أبا المسك وحده
وكل سحاب لا أخص الغواديا
وفي الأبيات تعريض واضح بسيف الدولة بقوله : توارك غيره ، فغيره هنا هو سيف الدولة ، وكان كافور يكنى أبا المسك ، وأكد المتنبي أن كافور ليس ابا المسك فقط ، وإنما هو أب لكل عطر ، وأنه السحاب كله ، وليس الغوادي منه التي تنتشر صباحا فقط .
وفي القصيدة ذاتها ، وبعد هذه الأبيات التي أشاد فيها ببعض مناقب كافور ، انتقل إلى الآمال التي علق تحقيقها على كافور :
إذا كسب الناس المعالي بالندى
فإنك تعطي في نداك المعاليا
وغير كثير ان يزورك راجل
فيرجع ملكا للعراقين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا
لسائلك الفرد الذي جاء عافيا
وواضح ان المديح هنا يترافق مع مطالب المتنبي ، فإذا كان بعض الناس يجود ليكسب مراتب الشرف ، فإن مراتب الشرف ذاتها أنت تجود بها . وغير مستبعد أن توليني ، بعد زياتي لك ، العراقين ، أي البصرة والكوفة ، وإذا غنمت جيشا من أعدائك في الحرب .. فقد تهب هذا الجيش الذي غنمته إلى سائل يطلب عطاءك ، ويقصد المتنبي نفسه .
بنى الأستاذ كافور في الفسطاط دارا ، فطالب المتنبي بالإشادة بهذا المنجز ، ففعل أبو الطيب ، وقد وجدها مناسبة ليجدد مطلبه الذي وعده كافور بتنفيذه ، حينما أشاد بمناقب كافور في القصيدة :
إنما يفخر الكريم أبو المسك
بما يبتني من العلياء
إن في ثوبك الذي المجد فيه
لضياء يزري بكل ضياء
فارم بي ما اردت مني فإني
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
وحتى في هذه القصيدة حافظ المتنبي على المستوى المبدئي الذي عرف عنه مع الأمراء الآخرين . فما زال يعبر عن أمانيه في كل قصيدة يقدمها لكافور بالأسلوب اللائق ، للحصول على إقليم يوليه عليه ، طبقا للاتفاق الذي تفاهما عليه ، قبل مجيئه إلى مصر .
ومن القصائد التي أطنب المتنبي في مدحه كافورا بائيته التي تعد من قصائده المتميزة في مصر . وكان كافور يلقب بالأستاذ ، وفيها يقول :
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا
قبل ا كتهال ، أديبا قبل تاديب
يدبر الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق فأرض الروم فالنوب
ياأيها الملك الغاني بتسمية
في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب
انت الحبيب ولكني أعوذ به
من ان أكون حبيبا غير محبوب
اللغة التي استخدمها أبو الطيب هنا لغة تقرر حقائق احيانا عن كافور ، وليس فيها شطط في تناول أوصافه ، اذا استثنينا البيت الأخير . فقد تكون عبارة : انت الحبيب ، التي قالها بغصة ، لاتتطابق مع مشاعره تجاه كافور ، ولكنها ، بحيثية ما ، هي عدة الشغل ، والقضية كبيرة تتعلق بأمل كبير لديه هو الأمارة التي حلم بها طويلا ولم تتحقق .
وعلى طريقته ، ففي كل قصيدة مدح قالها ، يتصدر الحديث فيها عن كبريائه وأنفته ، وتتوالد الحكم الرصينة والعميقة التي لايجابهه بها شاعر آخر ، ثم ينتقل بعدها إلى تعداد صفات الممدوح . وهو ما قدمه في قصيدته اللاحقة ، وفيها يقول :
وأمضى سلاح قلد المرء نفسه
رجاء أبي المسك الكريم وقصده
أنا اليوم من غلمانه في عشيرة
لنا والد منه يفديه ولده
فإن نلت ما أملت منك فربما
شربت بماء يعجز الطير ورده
ووعدك فعل قبل وعد لأنه
نظير فعال الصادق القول وعده
وما رغبتي في عسجد أستفيده
ولكنها في مفخر أستجده
لقد بدأت تراود ابا الطيب شكوك ، فزاد من إلحاحه ليضع النقط على حروفها ، ولم تعد المطالبة بولاية على استحياء ، بل إنها الآن مطلب يريد الإجابة عليه ، ومن اجل ذلك تنازل بعض الشيء عن كبريائه ، فقد عد نفسه من غلمان الأستاذ ، ليقول له الوعد هو فعل ، وأنا لم أطمع في الذهب والمال ، فتلك قضية حسمتها ، بل إن رغبتي الشديدة هي في فخر جديد يأتي من الولاية .
وفي قصيدة أخرى ، اهدى كافور لأبي الطيب فرسا ، فقال له :
ومن مثل كافور إذا الخيل أحجمت
وكان قليلا من يقول لها اقدمي
أبا المسك أرجو منك نصرا على العدى
وآمل عزا يخضب البيض بالدم
فلو لم تكن في مصر ماسرت نحوها
بقلب المشوق المستهام المتيم
رضيت بماترضى به لي محبة
وقدت إليك النفس قود المسلم
لقد نوع أبو الطيب في لهجته هنا ، وبدا فيها أقل إلحاحا ، وأنه ترك لكافور التصرف ، وسيرضى بذلك .
ترى هل وصل ابو الطيب إلى قناعة مرة ، أدرك فيها أن حلمه يتناءى ، وان مماطلة كافور تعني أنه لن يقطعه ولاية ، وان عليه ان يرضى بهذا الواقع الذي حشره فيه ؟
غير أنه مايزال في كأس انتظاره بقية أمل يعول عليه قليلا ، وسيجرب الخضوع له في خطواته القادمة ، فلربما يغير رأيه .
وفي قصيدته البائية الرائعة ، لم يحسب لكرامته حسابا كبيرا ، وإنما راح يتذلل إليه بطريقة غير معهودة لديه ، وفيها يقول :
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله
فإني أغني منذ حين وتشرب
إذا لم تنط بي ضيعة او ولاية
فجودك يكفيني وشغلك يسلب
وتعذلني فيك القوافي وهمتي
كأني بمدح قبل مدحك مذنب
ومهما كنا معجبين بالمتنبي ، فإنه ليس هناك ما يسوغ هذا التنازل الكبير ، وهذه الخفة في تقدير نفسه أمام حاكم تأكد له أنه عبد ولئيم ، وأنه حتى لو تذلل له فلن يغير موقفه . وكان كافور يصرح لبعض المقربين إليه ان المتنبي لا يؤمن جانبه ، وأن مطامحه اذا اقطعته ولاية لن تقف عند حدودها .
ومهما كانت الأسباب لدى المتنبي ، فإن ذلك يعد نقطة سوداء في سلوكه ، وأنها خطأ ارتكبه ، وفي احسن الاحوال ، لكل جواد كبوة .
وخلال الفترة التي أمضاها في مصر لأربع سنوات تقريبا ، مدح كافورا بإحدى عشرة قصيدة ومقطوعتين قصيرتين ، وكانت قصائده وهو في مصر أكثر من ذلك ، فلم يقتصر مديحه على كافور ، بل إنه مدح أشخاصا آخرين . ومنها مديحه لأبي شجاع فاتك المعروف بالمجنون ، وهو صديق كافور اللدود ، وسمي بالمجنون لأنه كان بعيد الهمة شجاعا كثير الإقدام ، اختلف مع كافور فآثر أن يستقل بإقليم الفيوم بمصر تفاديا للصراع مع كافور . وحينما جاء إلى الفسطاط يريد التداوي ، لم يمانع كافور من أن يمدحه المتنبي ، وقد حمل ابو شجاع إلى المتنبي هدية قيمتها ألف دينار ، فمدحه بقصيدة رائعة ومشهورة ، مطلعها :
لا خيل عندك تهديها و لا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
وفيها يقول :
إذا الملوك تحلت كان حليته
مهند واصم الكعب عسال
كأن نفسك لاترضاك صاحبها
إلا وأنت على المفضال مفضال
أي ان نفسك لاترضاك صاحبا لها حتى تزيد في الفضل على كل مفضال . وحين توفي ابو شجاع كان المتنبي خرج من مصر ، فرثاه رثاء مرا ، وعرض فيه بكافور ، فقال :
قبحا لوجهك يا زمان فإنه
وجه له من كل قبح برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك
ويعيش حاسده الخصي الأوكع
كان ابو شجاع طموحا وجريئا وكريما ، وكانت بعض خصاله تشبه خصال سيف الدولة ، فوجدت صداها في شعر المتنبي . وقد مدحه بقصيدة من اجمل القصائد التي قالها المتنبي ، كما أنه رثاه بقصيدتين ، أبدى فيها المتنبي حزنه الشديد على رحيله ، وخلده بهذه القصائد التي لولاها ماكان يمكن ان نسمع بشخص اسمه فاتك المجنون . كان المتنبي يريد ان ينقطع اليه وحده في مصر ، لكنه خاف من كافور فآثر العلاقة معه في ظل رضا كافور عن مستوىمعين من العلاقة
اليأس من وعد كافور والتفكير بالرحيل:
----------------------------------------------
كانت لدى المتنبي دلائل عديدة تشير إلى أن كافورا يماطل ، وإلى أنه لن ينفذ وعده ، وقد بقي ابو الطيب في آخر إقامته في مصر عاما كاملا لم يلتق بكافور مباشرة ، بل كان يحضر في المناسبات الرسمية التي يحضرها كافور ، واحيانا يقول فيه قصائد دون ان يلقيها أمامه .
اصابت المتنبي الحمى وهو في مصر ، فقال قصيدته المشهورة :
ملومكما يجل عن الملام
ووقع فعاله فوق الكلام
ومنها قوله :
و لما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
أرى الأجداد تغلبها كثيرا
على الأولاد اخلاق اللئام
وقد نقل عن أبي الطيب انه قال :
كنت إذا دخلت على كافور أنشده ، يضحك إلي ويبش في وجهي ، حتى اذا انشدته هذين البيتين فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا ، فعجبت من فطنته وذكائه .
ويقصد بذلك ان كافور أحس بوقع ثقيل ناتج عن هذه الأبيات التي ربما عناه فيها المتنبي تلميحا لاتصريحا . وفي هذه القصيدة صرح المتنبي أنه ليس مرتاحا في إقامته ، فقال :
يقول لي الطبيب أكلت شيئا
وداؤك في شرابك والطعام
و ما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
فأمسك لايطال له فيرعى
ولا هو في العليق ولا اللجام
ففي البيت الأخير ، وصف حاله مع كافور بالحصان الذي لايرخى له الحبل ليرعى ، ولم يقدم له العليق ، ولم يكن تحت اللجام في السفر . فكان ذلك بداية التحول .
استأذن أبو الطيب كافورا في ان يخرج إلى الرملة ، للحصول على مال له ، ليختبر رد فعله ، فمنعه وحلف عليه أن لايخرج ، وقال : نحن نوجه من يقضيه لك .
وفي السنة الأخيرة من إقامته في مصر كان المتنبي يخطط سرا للرحيل ، وحتى يخفي ذلك كان يسير معه في موكبه .
وقبل يوم واحد ، أعد الإبل وخفف الرحل ، وفي الليل ركب خيله مع مجموعة من غلمانه وسار متوجها إلى الكوفة ، وقبل الرحيل بيوم واحد قال قصيدته الدالية المعروفة يهجو فيها كافورا :
عيد بأية حال عدت ياعيد
بما مضى ام لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
ايها العيد ، هل عدت إلي بالمعهود منك ، ام ان أمرا جديدا حدث بك ؟ واحبتي بعيدون عني ، فليتك ياكافور بعيد عني أضعاف بعدهم ، لأني لا أسر بك أبدا .
وفي القصيدة ذاتها هجا كافورا هجاء مرا وكأنه افرغ فيه كل كراهيته وعداوته ، فقال :
إني نزلت بكذابين ، ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان ، فلا كانوا ولا الجود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه ، فله في مصر تمهيد ؟
صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستبعد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
العبد ليس لحر صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحر مولود
لاتشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
وذاك ان الفحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السود
وإضافة الى هذه القصيدة ، فقد هجاه بست قصائد أخرى ، واحدة منها عند وروده إلى الكوفة ، وقال فيها :
ونام الخويدم عن ليلنا
وقد نام قبل عمى لاكرى
وماذا بمصر من المضحكات
و لكنه ضحك كالبكا
وأسود مشفره نصفه
يقال له انت بدر الدجى
وما كان ذلك مدحا له
ولكنه كان هجو الورى
في البيت الأخير سوغ المتنبي مدح كافور ، لأن ذلك المدح كان بمعنى ما هجاء للبشرية كلها ، فقد وصفته بالسيادة والملك فجعلته مساويا لملوكهم ، وهو ذم للملوك .
وفي مقطوعة ثالثة قال فيه :
وأسود أما القلب منه فضيق
نخيب وأما بطنه فرحيب
يموت به غيظا على الدهر أهله
كما مات غيظا فاتك وشبيب
وفي البيت الاول ، نخيب اي جبان ، وفي البيت الثاني يرى أن اهل الدهر لشدة غيظهم من تملكه يموتون غيظا على الدهر كما مات فاتك المجنون وشبيب العقيلي .
وفي قصيدة أخرى يقول فيه :
وتعجبني رجلاك في النعل إنني
رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
ليضحك ربات الحداد البواكيا
وفي قصيدة أخرى قال :
الا فتى يورد الهندي هامته
كيما تزول شكوك الناس والتهم
وهجاه في قصيدة أخرى :
فلا ترج الخير عند امرئ
مرت يد النخاس في رأسه
وتعد قصة المتنبي مع كافور الإخشيدي حادة وصادمة ومؤثرة . فقد كان في حلب أثيرا لدى سيف الدولة ، وعاش فيها مرفها ومكرما ، والمتنبي شخص يهوى المجد والبطولة والكرم والعروبة ، وكان سيف الدولة زعيما عربيا تتوافر به كل هذه الصفات ، فرأى فيه احلامه وأمانيه ، وكان مدحه له ليس طلبا للمال ، وإنما كان إعجابا بنبله وشهامته . ولذلك جاءت قصائده فيه حارة وحيوية وشديدة التأثير ، ولاتلبث قصيدته فيه أن تجوب الآفاق .
أما في مصر التي اضطر للرحيل إليها بعد ان ضاقت به حلب ، فقد كان يمني نفسه بإقطاعه ولاية ، كما اتفق مع كافور ، قبل ان يأتي إليها . وهي أمنية مايزال يحلم بها منذ شبابه ، وخيل إليه ان الفرصة الآن مؤاتية لتحقيق احلامه .
كان كافور عبدا أسود ، وخصيا مورست عليه أساليب العبودية كلها من أسياده الذين تتالوا على استعباده . ولم تكن تبدو عليه أمارات السيادة . وكان كل مافيه ينفر أبا الطيب منه ، فلا شكله ولا أصله ولا اخلاقه تعجب أبا الطيب ، ولا احد يعلم إلا الله كم كابد من العذاب وهو يراه بديلا لسيف الدولة . قدم المتنبي في اول قصيدة له في مدح كافور لائحة بمطالبه ، وكان يظن أنه لن يمضي وقت طويل حتى يحصل على طلبه ، غير ان الأمور لم تكن تجري في هذا الاتجاه . كان الأستاذ كافور - كما كان يسمي نفسه - حذرا ومحنكا وعركته الأيام ، ولديه خبرة كبيرة في السياسة والحكم ، وكان يرى ان المتنبي عريض الطموح ، فلن يقف عند ولاية ، بل سيمتد اربه الى حدود بعيدة . لذلك تجاهل كل طلبات المتنبي وإلحاحه على توليته ، واضطر ابو الطيب أن يسف في مديحه ويخرج به عن حدود الكرامة أحيانا ، على نقيض ماعرف عنه .
والحقيقة أن المتنبي كان يعرف أخيرا أن مماطلة كافور لانهائية ، فبردت العلاقة و
استمر المديح ، ولكن شعره في كافور كان خاليا من الصدق ، وباهت المعاني ، وليس فيه حرارة الإعجاب . فإذا اخذنا أبياتا له في كافور ، وقارناها بأبيات أخرى في سيف الدولة ، كما في مديحه كافور :
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه
وإن لم أشأ تملي علي وأكتب
إذا ترك الإنسان اهلا وراءه
ويمم كافورا فما يتغرب
فتى يملأ الأفعال رأيا وحكمة
ونادرة أحيان يرضى ويغضب
إذا ضربت في الحرب بالسيف كفه
تبينت ان السيف بالكف يضرب
وفي البيت الاخير يقول المتنبي إن السيف يضرب بكف كافور ، لاكفه تضرب بالسيف ، أي أن السيف يستعين بكفه .
ولدى مقارنة هذه الأبيات بأبيات أخرى في سيف الدولة ، كقوله :
وقفت ومافي الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الابطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
نثرتهم فوق الأحيدب كله
كما نثرت فوق العروس الدراهم
وفي البيت الأخير يقول لقد بددتهم وتركت جثثهم على جبل الاحيدب ، كما تتبدد الدراهم التي تنثر على العروس .
في مديحه لكافور يستخدم المتنبي شاعريته الفذة ، ويحاول ان يرتقي بالقصيدة إلى ارفع مكان ، ولكن المضمون الذي أمامه لايوفر المادة الشعرية التي تحرض على الإبداع . العاطفة الحقيقية هنا متوارية وراء الكلمات ، فليس فيها حرارة ولا صدق فني ، ووظيفتها التعبير عن الولاء دون قناعة . لذا كانت فاترة بشكل عام .
اما قصيدة المتنبي في سيف الدولة ، فتشعر أن ألفاظ المتنبي وحدها تشعل النار في القصيدة فتتوهج ، وان العاطفة متماهية مع الحدث ومع صانعه ، وفي الابيات حراك لا يتوقف ، والصور الكثيفة تشد القارئ للمشاهدة ، حتى كأنه يراها بام العين . وتترك انطباعا ان القصيدة حدث فوق الحدث ، وأن سيف الدولة لايماثله احد من بني البشر .
مع العلم أن البيئة المصرية آنذاك كانت أغنى من البيئة الحلبية ، بسبب الاستقرار الذي توافر لمصر ، ولكثرة العلماء فيها . وإذا قرأنا بتمعن قصائد المتنبي التي قالها في مصر نجد أنها أروع قصائده ، وانها أكثر نضجا ، وأن بقية العناصر في القصيدة كالحكمة مثلا وصلت إلى ذروتها هناك . وقد يكون ثمة سبب آخر ، وهو أن المتنبي كان في الاربعينات من عمره ، وقد وصل إلى اقصى مراحل النضج والرزانة . وأبياته التي لاقت رواجا فيما بعد على كل لسان كان معظمها قد قيل في مصر . واود ان اشير إلى أن علاقة أقامها المتنبي في مصر ، ليس مع كافور الذي يكرهه منذ اليوم الأول ، وإنما مع شخص آخر هو ابو شجاع فاتك المجنون الذي كان يتمتع بصفات شبيهة بصفات سيف الدولة ، ولكنها انتهت سريعا ، لأن الموت عاجل أبا شجاع الذي رثاه المتنبي رثاء مرا ، وقضى على شاعرية كان يمكن ان تترك صدى واسعا جدا .
وما هو جدير بالإشارة إليه ، هو أن رحلة المتنبي إلى مصر كانت في سياق الأحزان التي واكبت حياته ، فلم يستمتع بكل ما في مصر من المباهج ، ولم تدهشه الاهرامات والآثار التي حفلت بها مصر ، وبقي متعلقا بآماله وأهدافه في الوصول الى المجد ، عن طريق السلطة ، او عن طريق الشعر ، وقد حقق بجدارة مجدا عن طريق الشعر لم يصل إليه شاعر آخر في العربية .
* نص محاضرة في اتحاد الكتاب العرب ، فرع اللاذقية في الثلاثين من ت1 من العام 2022
اتخذ المتنبي قراره بشجاعة ، فغادر حلب سرا ، وكان يعرف أن الخيارات البديلة لحلب المتاحة أمامه ضيقة ، كانت تتقاسمه شجون حادة ، و يعيش حالة من الأسى والمرارة أتته من صديقه الأثير سيف الدولة . وربما لم يكن المتنبي سعيدا بتوجهه نحو مصر تحت حكم كافور الذي يمثل الصورة المناقضة لصورة سيف الدولة القائد العربي الكبير ، الذي ملأ على المتنبي كل ما يحلم به من الكرم والشجاعة ، والعروبة التي تقف في وجه الروم لتحفظ بها حدود الدولة العربية .
وكان المتنبي يكره الزعماء العرب وغير العرب الذين مزقوا الدولة العباسية ، ودخلوا في صراعات سخيفة لاطائل منها . وكان كافور - بنظره - الوجه الأكثر قتامة بينهم ، فهو عبد أسود قبيح ، اغتصب السلطة من ابن سيده الإخشيدي ، ومزاياه التي يتمتع بها لا تعجب أبا الطيب ، بل إنه في أعماقه كان يحتقره قبل أن يراه .
وسط هذه المشاعر التي تلاطمت أمواجها في نفسه اتجه إلى مصر ، ولم يكن ذلك مريحا لسيف الدولة ، في حين أن ابا الطيب كان يعد ذلك نكاية به وانتقاما منه على طريقته . وبدون شك ، فإن سيف الدولة بدأ يشعر بالندم ، لأن هناك قصائد مديح ستتوجه إلى غيره ، ولأنه خسر أبا الطيب ، ربما إلى الأبد . ومن اللافت أنه بعد مغادرة المتنبي حلب ، كانت أحوال سيف الدولة تتردى وتتلقى ضربات ، واحدة وراء الأخرى .
راسل كافور أبا الطيب وهو في دمشق ، ودعاه إلى مصر ووعده بإقطاعه أمارة ، وهو الحلم الذي كان يراود المتنبي منذ بداية حياته . فلما ورد مصر أخلى له كافور دارا ، وخلع عليه ، وحمل إليه آلافا من الدراهم .
لكن ابا الطيب لم يمدح كافور مباشرة ، وإنما بعد عدة أيام ، وبعد أن طالبه كافور بذلك ، فقال قصيدته التي عبر فيها بمرارة وحزن شديدين عن الحال الذي صار إليها ، مطلعها :
كفى بك داء ان ترى الموت شافيا
وحسب المنايا ان يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
ما أمر هذا الإحساس الذي يتمنى فيه الموت على ماوصل إليه ! ، وراح عتاب أبي الطيب لسيف الدولة يتدفق كمجرى نهر يفيض من شدة السيل ، يعاتب ولا يشبع من العتاب ، وفي النفس سحب منه تمطر بغزارة ولا تتوقف .
و في القصيدة أجرى المتنبي حوارا ساخنا بينه وبين قلبه الذي كان يخالفه ، فمحبة سيف الدولة استبدت بقلبه ، ولذلك عاتب قلبه ، وخاطبه : أيها القلب الذي أحببته ، عليك ان تقف معي لا مع من غدر بي ، ويقصد سيف الدولة ، فقال :
حببتك ( قلبي) قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
فإن دموع العين غدر بربها
إذا كن إثر الغادرين جواريا
أقل اشتياقا أيها القلب ربما
رأيتك تصفي الود من ليس صافيا
وفي القصيدة ذاتها كان سيف الدولة أكثر حضورا ، وتمحورت حول الأشخاص الثلاثة : المتنبي ، وسيف الدولة ، وكافور ، ما يشير إلى عمق تأثير سيف الدولة في نفسه ، والخيبة التي سيطرت على عواطفه بعد رحيله عن حلب .
وفي القصيدة نفسها أفصح المتنبي في مرافعة حساسة ، عن مطالبه من كافور ، وهي المطالب التي ظل يرددها منذ وصوله إليها إلى ان غادرها سرا ، فبعد أن مدح كافور بأبيات عديدة ، منها :
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فتى ماسرينا في ظهور جدودنا
إلى عصره إلا نرجي التلاقيا
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا
إليه وذا اليوم الذي كنت راجيا
أبا كل طيب لا أبا المسك وحده
وكل سحاب لا أخص الغواديا
وفي الأبيات تعريض واضح بسيف الدولة بقوله : توارك غيره ، فغيره هنا هو سيف الدولة ، وكان كافور يكنى أبا المسك ، وأكد المتنبي أن كافور ليس ابا المسك فقط ، وإنما هو أب لكل عطر ، وأنه السحاب كله ، وليس الغوادي منه التي تنتشر صباحا فقط .
وفي القصيدة ذاتها ، وبعد هذه الأبيات التي أشاد فيها ببعض مناقب كافور ، انتقل إلى الآمال التي علق تحقيقها على كافور :
إذا كسب الناس المعالي بالندى
فإنك تعطي في نداك المعاليا
وغير كثير ان يزورك راجل
فيرجع ملكا للعراقين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا
لسائلك الفرد الذي جاء عافيا
وواضح ان المديح هنا يترافق مع مطالب المتنبي ، فإذا كان بعض الناس يجود ليكسب مراتب الشرف ، فإن مراتب الشرف ذاتها أنت تجود بها . وغير مستبعد أن توليني ، بعد زياتي لك ، العراقين ، أي البصرة والكوفة ، وإذا غنمت جيشا من أعدائك في الحرب .. فقد تهب هذا الجيش الذي غنمته إلى سائل يطلب عطاءك ، ويقصد المتنبي نفسه .
بنى الأستاذ كافور في الفسطاط دارا ، فطالب المتنبي بالإشادة بهذا المنجز ، ففعل أبو الطيب ، وقد وجدها مناسبة ليجدد مطلبه الذي وعده كافور بتنفيذه ، حينما أشاد بمناقب كافور في القصيدة :
إنما يفخر الكريم أبو المسك
بما يبتني من العلياء
إن في ثوبك الذي المجد فيه
لضياء يزري بكل ضياء
فارم بي ما اردت مني فإني
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
وحتى في هذه القصيدة حافظ المتنبي على المستوى المبدئي الذي عرف عنه مع الأمراء الآخرين . فما زال يعبر عن أمانيه في كل قصيدة يقدمها لكافور بالأسلوب اللائق ، للحصول على إقليم يوليه عليه ، طبقا للاتفاق الذي تفاهما عليه ، قبل مجيئه إلى مصر .
ومن القصائد التي أطنب المتنبي في مدحه كافورا بائيته التي تعد من قصائده المتميزة في مصر . وكان كافور يلقب بالأستاذ ، وفيها يقول :
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا
قبل ا كتهال ، أديبا قبل تاديب
يدبر الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق فأرض الروم فالنوب
ياأيها الملك الغاني بتسمية
في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب
انت الحبيب ولكني أعوذ به
من ان أكون حبيبا غير محبوب
اللغة التي استخدمها أبو الطيب هنا لغة تقرر حقائق احيانا عن كافور ، وليس فيها شطط في تناول أوصافه ، اذا استثنينا البيت الأخير . فقد تكون عبارة : انت الحبيب ، التي قالها بغصة ، لاتتطابق مع مشاعره تجاه كافور ، ولكنها ، بحيثية ما ، هي عدة الشغل ، والقضية كبيرة تتعلق بأمل كبير لديه هو الأمارة التي حلم بها طويلا ولم تتحقق .
وعلى طريقته ، ففي كل قصيدة مدح قالها ، يتصدر الحديث فيها عن كبريائه وأنفته ، وتتوالد الحكم الرصينة والعميقة التي لايجابهه بها شاعر آخر ، ثم ينتقل بعدها إلى تعداد صفات الممدوح . وهو ما قدمه في قصيدته اللاحقة ، وفيها يقول :
وأمضى سلاح قلد المرء نفسه
رجاء أبي المسك الكريم وقصده
أنا اليوم من غلمانه في عشيرة
لنا والد منه يفديه ولده
فإن نلت ما أملت منك فربما
شربت بماء يعجز الطير ورده
ووعدك فعل قبل وعد لأنه
نظير فعال الصادق القول وعده
وما رغبتي في عسجد أستفيده
ولكنها في مفخر أستجده
لقد بدأت تراود ابا الطيب شكوك ، فزاد من إلحاحه ليضع النقط على حروفها ، ولم تعد المطالبة بولاية على استحياء ، بل إنها الآن مطلب يريد الإجابة عليه ، ومن اجل ذلك تنازل بعض الشيء عن كبريائه ، فقد عد نفسه من غلمان الأستاذ ، ليقول له الوعد هو فعل ، وأنا لم أطمع في الذهب والمال ، فتلك قضية حسمتها ، بل إن رغبتي الشديدة هي في فخر جديد يأتي من الولاية .
وفي قصيدة أخرى ، اهدى كافور لأبي الطيب فرسا ، فقال له :
ومن مثل كافور إذا الخيل أحجمت
وكان قليلا من يقول لها اقدمي
أبا المسك أرجو منك نصرا على العدى
وآمل عزا يخضب البيض بالدم
فلو لم تكن في مصر ماسرت نحوها
بقلب المشوق المستهام المتيم
رضيت بماترضى به لي محبة
وقدت إليك النفس قود المسلم
لقد نوع أبو الطيب في لهجته هنا ، وبدا فيها أقل إلحاحا ، وأنه ترك لكافور التصرف ، وسيرضى بذلك .
ترى هل وصل ابو الطيب إلى قناعة مرة ، أدرك فيها أن حلمه يتناءى ، وان مماطلة كافور تعني أنه لن يقطعه ولاية ، وان عليه ان يرضى بهذا الواقع الذي حشره فيه ؟
غير أنه مايزال في كأس انتظاره بقية أمل يعول عليه قليلا ، وسيجرب الخضوع له في خطواته القادمة ، فلربما يغير رأيه .
وفي قصيدته البائية الرائعة ، لم يحسب لكرامته حسابا كبيرا ، وإنما راح يتذلل إليه بطريقة غير معهودة لديه ، وفيها يقول :
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله
فإني أغني منذ حين وتشرب
إذا لم تنط بي ضيعة او ولاية
فجودك يكفيني وشغلك يسلب
وتعذلني فيك القوافي وهمتي
كأني بمدح قبل مدحك مذنب
ومهما كنا معجبين بالمتنبي ، فإنه ليس هناك ما يسوغ هذا التنازل الكبير ، وهذه الخفة في تقدير نفسه أمام حاكم تأكد له أنه عبد ولئيم ، وأنه حتى لو تذلل له فلن يغير موقفه . وكان كافور يصرح لبعض المقربين إليه ان المتنبي لا يؤمن جانبه ، وأن مطامحه اذا اقطعته ولاية لن تقف عند حدودها .
ومهما كانت الأسباب لدى المتنبي ، فإن ذلك يعد نقطة سوداء في سلوكه ، وأنها خطأ ارتكبه ، وفي احسن الاحوال ، لكل جواد كبوة .
وخلال الفترة التي أمضاها في مصر لأربع سنوات تقريبا ، مدح كافورا بإحدى عشرة قصيدة ومقطوعتين قصيرتين ، وكانت قصائده وهو في مصر أكثر من ذلك ، فلم يقتصر مديحه على كافور ، بل إنه مدح أشخاصا آخرين . ومنها مديحه لأبي شجاع فاتك المعروف بالمجنون ، وهو صديق كافور اللدود ، وسمي بالمجنون لأنه كان بعيد الهمة شجاعا كثير الإقدام ، اختلف مع كافور فآثر أن يستقل بإقليم الفيوم بمصر تفاديا للصراع مع كافور . وحينما جاء إلى الفسطاط يريد التداوي ، لم يمانع كافور من أن يمدحه المتنبي ، وقد حمل ابو شجاع إلى المتنبي هدية قيمتها ألف دينار ، فمدحه بقصيدة رائعة ومشهورة ، مطلعها :
لا خيل عندك تهديها و لا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
وفيها يقول :
إذا الملوك تحلت كان حليته
مهند واصم الكعب عسال
كأن نفسك لاترضاك صاحبها
إلا وأنت على المفضال مفضال
أي ان نفسك لاترضاك صاحبا لها حتى تزيد في الفضل على كل مفضال . وحين توفي ابو شجاع كان المتنبي خرج من مصر ، فرثاه رثاء مرا ، وعرض فيه بكافور ، فقال :
قبحا لوجهك يا زمان فإنه
وجه له من كل قبح برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك
ويعيش حاسده الخصي الأوكع
كان ابو شجاع طموحا وجريئا وكريما ، وكانت بعض خصاله تشبه خصال سيف الدولة ، فوجدت صداها في شعر المتنبي . وقد مدحه بقصيدة من اجمل القصائد التي قالها المتنبي ، كما أنه رثاه بقصيدتين ، أبدى فيها المتنبي حزنه الشديد على رحيله ، وخلده بهذه القصائد التي لولاها ماكان يمكن ان نسمع بشخص اسمه فاتك المجنون . كان المتنبي يريد ان ينقطع اليه وحده في مصر ، لكنه خاف من كافور فآثر العلاقة معه في ظل رضا كافور عن مستوىمعين من العلاقة
اليأس من وعد كافور والتفكير بالرحيل:
----------------------------------------------
كانت لدى المتنبي دلائل عديدة تشير إلى أن كافورا يماطل ، وإلى أنه لن ينفذ وعده ، وقد بقي ابو الطيب في آخر إقامته في مصر عاما كاملا لم يلتق بكافور مباشرة ، بل كان يحضر في المناسبات الرسمية التي يحضرها كافور ، واحيانا يقول فيه قصائد دون ان يلقيها أمامه .
اصابت المتنبي الحمى وهو في مصر ، فقال قصيدته المشهورة :
ملومكما يجل عن الملام
ووقع فعاله فوق الكلام
ومنها قوله :
و لما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
أرى الأجداد تغلبها كثيرا
على الأولاد اخلاق اللئام
وقد نقل عن أبي الطيب انه قال :
كنت إذا دخلت على كافور أنشده ، يضحك إلي ويبش في وجهي ، حتى اذا انشدته هذين البيتين فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا ، فعجبت من فطنته وذكائه .
ويقصد بذلك ان كافور أحس بوقع ثقيل ناتج عن هذه الأبيات التي ربما عناه فيها المتنبي تلميحا لاتصريحا . وفي هذه القصيدة صرح المتنبي أنه ليس مرتاحا في إقامته ، فقال :
يقول لي الطبيب أكلت شيئا
وداؤك في شرابك والطعام
و ما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
فأمسك لايطال له فيرعى
ولا هو في العليق ولا اللجام
ففي البيت الأخير ، وصف حاله مع كافور بالحصان الذي لايرخى له الحبل ليرعى ، ولم يقدم له العليق ، ولم يكن تحت اللجام في السفر . فكان ذلك بداية التحول .
استأذن أبو الطيب كافورا في ان يخرج إلى الرملة ، للحصول على مال له ، ليختبر رد فعله ، فمنعه وحلف عليه أن لايخرج ، وقال : نحن نوجه من يقضيه لك .
وفي السنة الأخيرة من إقامته في مصر كان المتنبي يخطط سرا للرحيل ، وحتى يخفي ذلك كان يسير معه في موكبه .
وقبل يوم واحد ، أعد الإبل وخفف الرحل ، وفي الليل ركب خيله مع مجموعة من غلمانه وسار متوجها إلى الكوفة ، وقبل الرحيل بيوم واحد قال قصيدته الدالية المعروفة يهجو فيها كافورا :
عيد بأية حال عدت ياعيد
بما مضى ام لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
ايها العيد ، هل عدت إلي بالمعهود منك ، ام ان أمرا جديدا حدث بك ؟ واحبتي بعيدون عني ، فليتك ياكافور بعيد عني أضعاف بعدهم ، لأني لا أسر بك أبدا .
وفي القصيدة ذاتها هجا كافورا هجاء مرا وكأنه افرغ فيه كل كراهيته وعداوته ، فقال :
إني نزلت بكذابين ، ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان ، فلا كانوا ولا الجود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه ، فله في مصر تمهيد ؟
صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستبعد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
العبد ليس لحر صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحر مولود
لاتشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
وذاك ان الفحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السود
وإضافة الى هذه القصيدة ، فقد هجاه بست قصائد أخرى ، واحدة منها عند وروده إلى الكوفة ، وقال فيها :
ونام الخويدم عن ليلنا
وقد نام قبل عمى لاكرى
وماذا بمصر من المضحكات
و لكنه ضحك كالبكا
وأسود مشفره نصفه
يقال له انت بدر الدجى
وما كان ذلك مدحا له
ولكنه كان هجو الورى
في البيت الأخير سوغ المتنبي مدح كافور ، لأن ذلك المدح كان بمعنى ما هجاء للبشرية كلها ، فقد وصفته بالسيادة والملك فجعلته مساويا لملوكهم ، وهو ذم للملوك .
وفي مقطوعة ثالثة قال فيه :
وأسود أما القلب منه فضيق
نخيب وأما بطنه فرحيب
يموت به غيظا على الدهر أهله
كما مات غيظا فاتك وشبيب
وفي البيت الاول ، نخيب اي جبان ، وفي البيت الثاني يرى أن اهل الدهر لشدة غيظهم من تملكه يموتون غيظا على الدهر كما مات فاتك المجنون وشبيب العقيلي .
وفي قصيدة أخرى يقول فيه :
وتعجبني رجلاك في النعل إنني
رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
ليضحك ربات الحداد البواكيا
وفي قصيدة أخرى قال :
الا فتى يورد الهندي هامته
كيما تزول شكوك الناس والتهم
وهجاه في قصيدة أخرى :
فلا ترج الخير عند امرئ
مرت يد النخاس في رأسه
وتعد قصة المتنبي مع كافور الإخشيدي حادة وصادمة ومؤثرة . فقد كان في حلب أثيرا لدى سيف الدولة ، وعاش فيها مرفها ومكرما ، والمتنبي شخص يهوى المجد والبطولة والكرم والعروبة ، وكان سيف الدولة زعيما عربيا تتوافر به كل هذه الصفات ، فرأى فيه احلامه وأمانيه ، وكان مدحه له ليس طلبا للمال ، وإنما كان إعجابا بنبله وشهامته . ولذلك جاءت قصائده فيه حارة وحيوية وشديدة التأثير ، ولاتلبث قصيدته فيه أن تجوب الآفاق .
أما في مصر التي اضطر للرحيل إليها بعد ان ضاقت به حلب ، فقد كان يمني نفسه بإقطاعه ولاية ، كما اتفق مع كافور ، قبل ان يأتي إليها . وهي أمنية مايزال يحلم بها منذ شبابه ، وخيل إليه ان الفرصة الآن مؤاتية لتحقيق احلامه .
كان كافور عبدا أسود ، وخصيا مورست عليه أساليب العبودية كلها من أسياده الذين تتالوا على استعباده . ولم تكن تبدو عليه أمارات السيادة . وكان كل مافيه ينفر أبا الطيب منه ، فلا شكله ولا أصله ولا اخلاقه تعجب أبا الطيب ، ولا احد يعلم إلا الله كم كابد من العذاب وهو يراه بديلا لسيف الدولة . قدم المتنبي في اول قصيدة له في مدح كافور لائحة بمطالبه ، وكان يظن أنه لن يمضي وقت طويل حتى يحصل على طلبه ، غير ان الأمور لم تكن تجري في هذا الاتجاه . كان الأستاذ كافور - كما كان يسمي نفسه - حذرا ومحنكا وعركته الأيام ، ولديه خبرة كبيرة في السياسة والحكم ، وكان يرى ان المتنبي عريض الطموح ، فلن يقف عند ولاية ، بل سيمتد اربه الى حدود بعيدة . لذلك تجاهل كل طلبات المتنبي وإلحاحه على توليته ، واضطر ابو الطيب أن يسف في مديحه ويخرج به عن حدود الكرامة أحيانا ، على نقيض ماعرف عنه .
والحقيقة أن المتنبي كان يعرف أخيرا أن مماطلة كافور لانهائية ، فبردت العلاقة و
استمر المديح ، ولكن شعره في كافور كان خاليا من الصدق ، وباهت المعاني ، وليس فيه حرارة الإعجاب . فإذا اخذنا أبياتا له في كافور ، وقارناها بأبيات أخرى في سيف الدولة ، كما في مديحه كافور :
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه
وإن لم أشأ تملي علي وأكتب
إذا ترك الإنسان اهلا وراءه
ويمم كافورا فما يتغرب
فتى يملأ الأفعال رأيا وحكمة
ونادرة أحيان يرضى ويغضب
إذا ضربت في الحرب بالسيف كفه
تبينت ان السيف بالكف يضرب
وفي البيت الاخير يقول المتنبي إن السيف يضرب بكف كافور ، لاكفه تضرب بالسيف ، أي أن السيف يستعين بكفه .
ولدى مقارنة هذه الأبيات بأبيات أخرى في سيف الدولة ، كقوله :
وقفت ومافي الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الابطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
نثرتهم فوق الأحيدب كله
كما نثرت فوق العروس الدراهم
وفي البيت الأخير يقول لقد بددتهم وتركت جثثهم على جبل الاحيدب ، كما تتبدد الدراهم التي تنثر على العروس .
في مديحه لكافور يستخدم المتنبي شاعريته الفذة ، ويحاول ان يرتقي بالقصيدة إلى ارفع مكان ، ولكن المضمون الذي أمامه لايوفر المادة الشعرية التي تحرض على الإبداع . العاطفة الحقيقية هنا متوارية وراء الكلمات ، فليس فيها حرارة ولا صدق فني ، ووظيفتها التعبير عن الولاء دون قناعة . لذا كانت فاترة بشكل عام .
اما قصيدة المتنبي في سيف الدولة ، فتشعر أن ألفاظ المتنبي وحدها تشعل النار في القصيدة فتتوهج ، وان العاطفة متماهية مع الحدث ومع صانعه ، وفي الابيات حراك لا يتوقف ، والصور الكثيفة تشد القارئ للمشاهدة ، حتى كأنه يراها بام العين . وتترك انطباعا ان القصيدة حدث فوق الحدث ، وأن سيف الدولة لايماثله احد من بني البشر .
مع العلم أن البيئة المصرية آنذاك كانت أغنى من البيئة الحلبية ، بسبب الاستقرار الذي توافر لمصر ، ولكثرة العلماء فيها . وإذا قرأنا بتمعن قصائد المتنبي التي قالها في مصر نجد أنها أروع قصائده ، وانها أكثر نضجا ، وأن بقية العناصر في القصيدة كالحكمة مثلا وصلت إلى ذروتها هناك . وقد يكون ثمة سبب آخر ، وهو أن المتنبي كان في الاربعينات من عمره ، وقد وصل إلى اقصى مراحل النضج والرزانة . وأبياته التي لاقت رواجا فيما بعد على كل لسان كان معظمها قد قيل في مصر . واود ان اشير إلى أن علاقة أقامها المتنبي في مصر ، ليس مع كافور الذي يكرهه منذ اليوم الأول ، وإنما مع شخص آخر هو ابو شجاع فاتك المجنون الذي كان يتمتع بصفات شبيهة بصفات سيف الدولة ، ولكنها انتهت سريعا ، لأن الموت عاجل أبا شجاع الذي رثاه المتنبي رثاء مرا ، وقضى على شاعرية كان يمكن ان تترك صدى واسعا جدا .
وما هو جدير بالإشارة إليه ، هو أن رحلة المتنبي إلى مصر كانت في سياق الأحزان التي واكبت حياته ، فلم يستمتع بكل ما في مصر من المباهج ، ولم تدهشه الاهرامات والآثار التي حفلت بها مصر ، وبقي متعلقا بآماله وأهدافه في الوصول الى المجد ، عن طريق السلطة ، او عن طريق الشعر ، وقد حقق بجدارة مجدا عن طريق الشعر لم يصل إليه شاعر آخر في العربية .
* نص محاضرة في اتحاد الكتاب العرب ، فرع اللاذقية في الثلاثين من ت1 من العام 2022