د. محمد عبدالله القواسمة - الإفادة من التراث في مجموعة "أنفاس مكتومة" لزياد أبو لبن

يلفت انتباهنا إفادة القاص زياد أبو لبن من التراث في هذه المجموعة القصصية، التي أبدعها تحت عنوان " أنفاس مكتومة وقصص أخرى" التي تضم تسع عشرة قصة قصيرة، تزينها رسوم الفنان التشكيلي المعروف محمد دغليس. وقد صدرت هذا العام في عمان عن دار نشر خطوط وظلال.

تجلت هذه الإفادة من التراث في العناوين وفي متون النصوص القصصية. ففي العناوين، سواء في العنوان الرئيسي أم في العناوين الفرعية، يواجهنا استخدام التراث العربي والأجنبي. والمعروف أن العنوان الكلمة الأولى في النص، أو نص يختزل نصوصًا كثيرة، بوصفه العتبة المهمة بما يؤديه من وظائف، كما يرى الناقد الفرنسي جيرار جينيت، منها الوظيفة الإشهارية والإيحائية والتأطيرية والإفهامية وغيرها.

ففي العنوان الرئيسي "أنفاس مكتومة" نلاحظ الإفادة المضمرة من التراث الشعبي الفُلْكُلور، فمع أن هذا التركيب الوصفي الذي يتكون منه فصيحًا إلا أنه يستخدم كثيرًا في اللغة المحكية والحياة الشعبية، فكثيرًا ما نسمع قولهم: "كتم على نفسي" بمعنى ضقت به، أو قول أحدهم للآخر: "اكتم " بمعنى اسكت، أو "سأكتم أنفاسك" بمعنى التهديد بالإسكات أو القتل. وقد كان اختيار الكاتب العنوان موفقًا في الدلالة على ما تعانيه الشخوص في قصص المجموعة من هموم ومصائب.

أما العناوين الفرعية فقد جاءت القصة الأولى حاملة العنوان الرئيسي للمجموعة؛ لتبين لنا ما يريد القاص أن يظهره للقارئ من قلق وتوتر يسيطران على الصبية ابتسام؛ لأن الزمن يمضي وهي تحاول أن تجد ذلك الصبي الذي ألقى الوردة الحمراء عليها عندما كانت تلميذة صغيرة، إنها تفتقر إلى الحب والحنان "كبرت ابتسام وهي تنتظر ذلك الصبي حتى يعيد إلى روحها الحياة" (ص7)

ومن العناوين التي حملت عبق التراث الشعبي من قصص المجموعة قصة "قنطرة". والقنطرة أو القناطر لعبة شعبية يلعبها الصبيان ببناء تلة صغيرة من الحجارة، أو التراب، أو الرمل، أو تلة من الثلج في فصل الشتاء. فالطفل خليل الذي فقد أمه، ويعاني من قسوة معاملة زوجة أبيه يبني قنطرة من الرمل على الشاطئ، ويخط عليها بإصبعه:" بدي ماما" وينزل إلى الماء، وهو يسأل البحر أن يرجع إليه أمه. وتنتهي الحكاية بغرقه وجر الموج قنطرته إلى البحر وسط ضحكات زوجة أبيه على الشاطئ وصراخ أبيه: "خليل... ابني يا ناس!"(ص 66)

وفي القصة التي عنوانها" الشطرنج" نجد بناءها يقوم على تلك اللعبة الفكرية الشطرنج المستمدة من التراث الهندي. فتحكي أن الملك شيريهام أراد أن يكافأ وزيره الذي اخترع اللعبة. ولكن الوزير يطلب أن تكون مكافأته حسب عدد مربعات رقعة الشطرنج حبة قمح عن المربع الأول، وحبتين عن المربع الثاني، وأربع حبات عن المربع الثالث وهكذا. وكان طلبه وبالًا عليه حين طلب منه الملك جمع حبات القمح ووضعها في المربعات. ولما كان هذا العمل يستغرق منه بلايين السنين صاح طالبًا من الملك الرحمة.

وإذا كان عنوان القصة السابقة قنطرة يشير إلى تلك الهموم التي تقنطرت في قلب الطفل خليل وأدت إلى موته، فإن عنوان هذه القصة "الشطرنج" يشير إلى اختراع لعبة الشطرنج، وما جرى لمخترعها حين خرج عن التواضع في علمه واللباقة في التعامل مع الملوك.

أما في متون النصوص القصصية فيستخدم زياد أبو لبن الألعاب الشعبية في بيان اهتمامات الشخوص، وكشف مستوياتهم الثقافية والنفسية والعمرية. ففي قصة "في السرير" تتكشف العلاقة بين التوأمين فادية وفؤاد القائمة على الحب، الذي يتجاوز اللهو الطفولي إلى مرحلة اللهو المثير للاشمئزاز، حين يلعب التوأمان لعبة "بيت بيوت"، ويتحدثان عن تكوين أسرة من أب وأم، ويتبادلان القبل في الخفاء كما يفعل والداهما، ثم ينتقلان إلى لعبة "عروس وعريس" ويتطور اللعب بينهما إلى الذهاب إلى السرير، وأن تخلع فادية ملابسها فينظر إليها أخوها التوأم مستمتعًا برؤية جسدها الغض، فنقرأ:" اتسعت عينا فؤاد على جسدها الغض وغابا في السرير"(ص10). ولعل هذا لا يتناسب تربويًّا أو واقعيّا مع الفئة العمرية التي يروى لها النص.

ومثل هذه الألعاب الشعبية نجدها في قصة "سارة"، ولكن دون أن تغرق سارة في اللهو المنبوذ كما في القصة السابقة. فتلعب مع الأطفال الذكور لعبة "شد الحبل"، ثم لعبة "حجلة المربعات الخمسة" مما تجعل والدتها تطلق عليها "حَسَن صبي" (ص21) وهو التعبير الشعبي الذي يقال للبنت التي تنشأ في بيت أغلبه من الذكور.

ومن التراث الشعبي نجد أن بعض قصص "أنفاس مكتومة" تستخدم الكلمات والتعابير الشعبية، كما كلمة "يتشعلق" (ص14) بمعنى يتسلق، والتركيب الإضافي "مقصوفة الرقبة"(ص6) وهو تعبير يقال للبنت التي تتمرد على العادات والتقاليد، وتستحق لذلك العقاب الشديد. كما استخدم الكاتب في قصة"دينا" المثل:" هم البنات إلى الممات"(ص14) وهو مثل يقال عند ولادة البنت، فهَم والدها لن يزول إلا بموتها. ومن التراث الديني نجد أن دلال في القصة التي حملت اسمها تقرأ المُعوِّذتات لتطرد الشياطين والعفاريت(ص27)

ونعثر في بعض المواضع من المجموعة على حكايات من التراث الأدبي العربي والأجنبي تُذكر ذكرًا عابرًا، مثل حكايات: "ألف ليلة وليلة" و"ليلى والذئب" و"أليس في بلاد العجائب". وتذكر في موضع من قصة "سعاد" الأداة الشعبية، الطبلية التي يوضع عليها الطعام، وهي في العربية الفصيحة "الخوان" لا "المائدة". وقد وردت في وصف حركة طفلين، وهما يتقافزان حولها. (ص 24)

ومن التراث الشعري العربي نجد أن الكاتب يتناص في عدة مواضع من المجموعة مع بيت الشعر، الذي قاله أبو صخر الهذلي في وصف ما يعتريه عند تذكر حبيبته عُليَّة.

وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر

فنقرأ في قصة "في السرير" صرخت فادية وهي ترتجف كعصفور بلله المطر"(ص10) وفي قصة "سعاد " جسدي يرتعد كطير بلله المطر"(ص 23) وفي قصة "دلال " كعصفور صغير بلله المطر"(ص27).

في النهاية، نرى بأن زياد أبو لبن في مجموعته القصصية "أنفاس مكتومة وقصص أخرى" أفاد من التراث العربي والأجنبي، من خلال استخدام المفردات والتراكيب، والإشارات إلى الحكايات والقصص التراثية، وتوظيف الأمثال والألعاب الشعبية. وساعده ذلك على تصوير البيئة الشعبية بخاصة بيئة المخيمات وألواح الزينكو، وعلى رسم الشخصيات، وبخاصة الشخصيات الأنثوية التي قامت بدور البطولة في كثير من قصص المجموعة، وتصدرت معظم عناوين قصصها، فمن هذه العناوين: دينا ولبنى وليلى وسارة وسعاد ودلال وبيسان ونوران. لقد قدمت هذه الشخصيات بخصائصها النفسية والاجتماعية والجسمية، مما أظهر همومها ومشاكلها، في مقدمتها الافتقار إلى الحب والحنان، والإحساس بالوحدة؛ فقد تركت مكتومة الأنفاس تلجأ إلى احتضان الحيوانات وبخاصة القطط بدلًا من الأم والأب والحبيب والصديق.

كما أفاد القاص زياد من استخدام التراث في منح البساطة لعالمه السردي، فجاءت اللغة مألوفة غير (مقصوفة الرقبة)، والتراكيب منساقة بسهولة لا تعقيد فيها، متناغمة مع بساطة الأفكار ووضوح المعاني، متناسبة مع الفئة العمرية التي استهدفها الكاتب.

د. محمد عبدالله القواسمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى