د. حاتم الجوهرى - وليم بليك: سيد الرومانتيكية

من يستطيع المواجهة مجددًا
حين يكاشف الحقيقة ويَخْبر طبائع الحياة




* نشرت هذه الدراسة كجزء من دراسة أكبر أعددتها لديوان "أغنيات البراءة والتجربة" الذى ترجمته لوليم بليك، والذي نشر فى وقت سابق هذا العام..




هكذا وجدتُ في هذا العنوان محاولة للإحاطة بمضمون ديوان "أغنيات البراءة والتجربة" للشاعر الإنجليزى العالمى: وليم بليك. فثمة أسرارٌ للحياة لا يعرفها الإنسان إلا متأخرًا، حتى إن حاول الآخرون- أو بعضهم على الأقل- إرشاده إليها؛ كان يقينه الخاص رافضًا، وتواقًا ليقين التجربة الذاتية، وحلاوة المعرفة الشخصية! لكن السؤال يطرح نفسه حينها: أبعدَ أن يصل الإنسان إلى الحقيقة، هل يمكنه الاستمرار فيما كان عليه؟ أو حتى يمكنه مجرد الصمود والإمساك بذاته بقوة، والإصرار على رؤيته- مهما اختلفت عن الواقع وطرائقه ودروبه- عازمًا على مواجهة العالم بما يؤمن به داخله..!
تلك معضلةٌ إنسانيةٌ كبرى. أعتقد أن هناك القليل من الفلتات البشرية التي أمكنها أن تُصر على ما هي عليه، في مواجهة عالم ضاغط له قوانينه وسُبله الجاهزة. فهل البراءة: مرحلة، أم اختيار! مَن منا يمكنه عبور بركة من الوحل، ويخرج نظيفًا كما دخل؟ أين هي الغاية، وأين هي الوسيلة، وما الحدود الفاصلة بينهما! إن الفروق الفردية بين البشر، والتفاوت في الطبيعة الشخصية لكل إنسان، سيكون لها الدور الأكبر- في تقديري الشخصي- في حسم هذه المعضلة.
يخرج الإنسان المبدع إلى الحياة ليجد نفسه- شأن الجميع- بين عالمين، عالمه الخاص- أو طبيعته الذاتية- والعالم الخارجي، أو الظروف المحيطة؛ لينشأ الصراع بين الطبيعة المبدعة الشاعرة، وبين الواقع وفرضياته وقوانينه التي سُنت عبر التاريخ والجغرافيا؛ يدخل في الصراع العديد من العوامل والظروف. لكن إذا ما حيَّدنا معظمها، وأبقينا على الذات والعالم في المواجهة، فربما تكون المعادلة واضحة؛ إما: انتصار الذات (المبدعة والمحلقة) ذات القيم الإنسانية الأعلى، أو: انتصار العالم بقيمه الموجودة مسبقًا بالفعل..!
وقد يوجد هناك مَن يعيد تعريف الأشياء الخارجية لتتسق مع رؤيته الذاتية للعالم، مَن قد يصنع دائرة صغيرة في الحياة، ويحاول الانتصار فيها والسيطرة عليها؛ ومَن يحاول أخذ المعركة إلى طريق أبعد من ذلك، ويحاول التغيير في القوانين والقيم التي وجدها سائدةً في العالم الخارجي. هؤلاء هم الاستثناء. فلأيٍّ مِن هؤلاء ينتمي شاعرنا! الذي طرح علينا السؤال بقوة، وتركنا- من ورائه- نسعى بحثًا عن الإجابة..

***

"وليم بليك" واحد من أهم شعراء "المدرسة الرومانتيكية" في الفنون والأدب قاطبة؛ والذين ينظر لهم كنموذج للتعريف بتجربة هذه المدرسة التي ظهرت في أواخر القرن 18 في أوربا. ظهرت هذه المدرسة على أنقاض "المدرسة الكلاسيكية"، وأحدثت انقلابًا مركزيًّا في الفكر الأوربي الحديث، وقدمت رافعةً محوريةً له. "وتعد المدرسة الرومانتيكية أهم حركة أدبية في تاريخ الآداب الأوربية، لأنها- بما اشتملت عليه من مبادئ، وبما مهد لها من اتجاهات في القرن الثامن عشر- قد يسرت للإنسان الحصول على حقوقه؛ إذ مهدت للثورات وعاصرتها، ثم كانت خطوة في سبيل نشأة المذاهب الأدبية المختلفة فيما بعد"(1)؛ فيجوز لنا أن نطلق على تلك المدرسة الأدبية التي ينتمى لها الشاعر: مدرسة التمرد الحقيقي الأولي في الفكر الأوربي الحديث.
فقبلها كانت "المدرسة الكلاسيكية" نمطية في تعاطيها مع الشكل والأسلوب وطرائق الفن، ونمطية أيضًا في تعاطيها مع المضمون والغرض والرسالة الأدبية.. حيث نجد- في الرومانتيكية- بذورًا للوجودية الأوربية، التي تتمرد على الواقع، واضعةً القوة المطلقة (الخالق) في مجال النظر، ومحملةً إياه جانبًا من المسئولية، في نوع من التمرد الوجودى الميتافيزيقي المؤمن. وظهر أيضًا نفس التمرد، لكن مع القول بعبثية الأحداث، وغياب منطق الذات الكلية المهيمنة، في الوجودية الملحدة التي ربطت الوجود والظاهرة الإنسانية بالذات الفردية، وقراراتها ومسئوليتها عن مصيرها واختياراتها الذاتية. وأيضًا ثمة مَن عاش متأرجحًا غير حاسم أمره بين الكفتين.
لقد جاءت "الكلاسيكية" مع عصر النهضة الأوربية المبكر، وبلغت ذروتها في القرن 17، كمحاولة أولى لتلمس طريق إعادة إنتاج الإنسان الأوربى من جديد، بعد فترة العصور الوسطى التي سيطرت عليها الكنيسة بسلطانها السياسي-الديني. وحين بحث الإنسان الأوربى عن مَعين يستقي منه محاولة إعادة تقديم نفسه وتعريفها، لم يجد أمامه سوى محاولة تقليد نموذج قديم من تراثه التاريخي، ممثلاً في نموذج الأدب الإغريقي، وخليفته المتمثل في العصر الروماني، "فاتجهوا مباشرةً إلى المصادر القديمة وإلى: فن الشعر لأرسطو، يستنبطون منها الأصول الفنية لأدب جديد"(2).فبقدر ما تمردت "الكلاسيكية" على العصور الوسطى، بقدر ما تنمطت، وكانت تقليديةً في اختيارها لنموذج تراثي كنقطة انطلاق لها. ولكن ربما كان ذلك- للموضوعية- طبيعيًّا ونتاجًا منطقيًّا لتسلسل السياق التاريخي للحضارة الأوربية وتطوره، وأية حضارة تحاول أن تبدأ من جديد، بعد فترة انحسار وضمور.
إنما جاءت "المدرسة الرومانتيكية" بفكرة التمرد الأوربي الحديث؛ فقد تمردت- من حيث الشكل- على الأُطر وتقاليد الكتابة اللغوية المنضبطة التي اتبعتها "الكلاسيكية"، وعلى أشكالها الأدبية النمطية، وكذا على الرؤية الكلية النمطية التي تقدمها للعالم. "إننا- أمام الرومانسية، إذا ما حاولنا طرح المنحى العرضي- نجد أنفسنا في غمرة من التصورات مَردُّها في الأصل مناهضة الوضع السائد والمألوف.. غير أن الهوة تظل على اتساعها بين الواقع والمثال"(3). تمردت هذه المدرسة تمردًا ملحوظًا على فكرة "الموضوعية المجردة" في تناول ومقاربة العمل الفني؛ فبدلاً من الحاجز الحديدي بين المبدع والنص، والإصرار على الفكرة المجردة العقلية الحاكمة للمبدع، قدمت "الرومانتيكية" مفهوم الذاتية والتجربة الفردية والعاطفة، والشعور الذي يجب أن يعكسه المبدع في عمله. وتمردت على مفهوم "المحاكاة" كأساس لدور الفنان عند أرسطو، وطرحت "الفنان" في دوره كخالق مُشكِّل لعمل فريد مبتكر وأصيل. وقد "أدى تحطيم العمود الكلاسي إلى نتائج بعيدة المدى، أبرزها أن الرومانسيين صاروا ينظرون إلى الأدب على أنه من نتاج الفرد وعبقريته، وليس مجرد قوالب تقليدية"(4).
واكبت "الرومانتيكية" الظرف والسياق التاريخي- الاجتماعي لها، فعبرت عن نموذج الثورة الفرنسية- والأمريكية نوعًا ما- وطرحت نموذج التمرد المباشر على التقاليد، ومحاولة خلق أنظمة وطرائق جديدة للحياة؛ فيما كانت "الكلاسيكية" تعبر عن أدب الشرائح والنخب الاجتماعية النمطية في عصر الثورة الصناعية المبكر. وظهرت- في الأدب الرومانتيكي- ملامح التمرد والصراع المباشر مع السلطة الدينية- السياسية للكنيسة، كما سنرى عند ويليام بليك. كما اهتمت "الرومانتيكية" بالطبيعة وجمالها، وبالمشاعر الإنسانية والحرية والتعبير عن الذات الفردية وتجربتها، وتجاوزت جمود المدرسة الأولى: الكلاسيكية، ومحاولتها تصدير العقل والأفكار السائدة المسبقة النمطية، الذي كان دور المبدع فيها مجرد تحصيل حاصل، وإعادة تقرير لما هو مقرر بالفعل؛ كمدرسة محدودة الاحتمالات والخيالات والفرص. "وقد كان تقديم العقل، ووضع الخيال تحت وصايته عند الكلاسيكيين، صدًى لتأثرهم بأرسطو وبالشُّرَّاح الكلاسيكيين، قبل أن يكون أثرًا من آثار الفلسفة العقلية."(5) .

***

وحين نعود إلى الشاعر الإنجليزى العالمى: وليم بليك، نقول إنه واحدٌ من أهم الشعراء الإنجليز ذائعي الصيت، الذين يعتبر إنتاجهم الشعري- حتى الآن- من المقومات الأساسية للشعر الإنجليزي عبر العصور، فيما وصفه أحد رجال وعلماء القرن التاسع عشر بأنه: "جرمٌ سماوي عظيم". "ونظر البعض إليه على أنه خارجٌ على المألوف أو مجنون، إلا أن وردزروث تحدث عنه قائلا: إن في جنونه شيئًا يجذبني إليه أكثر من حكمة بيرون"(6). وكان أحد الأعمدة الرئيسية للمدرسة الرومانتيكية الشهيرة في بلاده وأوربا. ومثَّل "بليك" مرحلة النضج في المدرسة الرومانتيكية الإنجليزية، حيث "بدأت مرحلة النضوج بأشعار: توماس جراي، وويليام بليك"(7). وفي شعره، نلمس ملمحًا صوفيًّا وروحًا تؤكد على فكرة الشاعر "النبي"، صاحب الرؤى والنبوءات، فيما نجد فيه العذوبة والصفاء الإنساني والبحث عن الحرية، وأيضًا التجربة الإنسانية بحلوها ومرها؛ تأرجها بين التمرد والخضوع، إصرارها على الانتصار، واستسهالها الشعور بالهزيمة والركون له أحيانًا.
وُلد وليم بليك في 28 نوفمبر 1757م، وتوفي في 12 أغسطس 1827م؛ أي وُلد في أواخر خمسينيات القرن الثامن عشر، وتوفي في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر. وُلد وعاش في العاصمة الإنجليزية "لندن"، لأسرة متوسطة الحال، حيث كان والده يعمل في التجارة البسيطة والصغيرة، وله 6 من الإخوة، مات اثنان منهم في مرحلة الطفولة. وقد تزوج بليك، ولم ينجب سوى ابنة واحدة.
تلقى "بليك" تعليمه في المنزل، ولم يذهب إلى المدارس الرسمية. كما أشيع أن العائلة والأم كانت منشقةً على الكنيسة التقليدية السائدة في انجلترا آنذاك، وأن ذلك كان له أثره الواضح على توجهات "بليك" الفكرية. كما تحدثت بعض المصادر عن علاقته القوية بأفراد عائلته؛ والتي أدت إلى صدمة مؤثرة عليه عند وفاة أحد إخوته، مما جعله يأخذ اتجاهًا صوفيًّا حزينًا، ويتحدث عن الرؤى والغيبيات والعالم ما وراء الطبيعي. وقد "أدى موت شقيقه عام 1787م إلى إحداث هلوسات لديه، فنمت ميوله الرؤيوية، فابتكر طريقة جديدة في النقش، وراح يزين كتبه المختلفة بها"(8) .
بزغت موهبة "بليك" مبكرًا في الرسم، وإن كان نوعًا مختلفًا من الرسم، يقوم على تقليد ومحاكاة ونسخ نماذج من الآثار اليونانية، حيث كان هذا النوع من الفن ذائعًا ومنتشرًا في حينه. ثم درس بعد ذلك فن الرسم دراسةً أكاديمية. وتعددت إصدارته الشعرية في حياته، رغم أنه لم يشتهر، ولم تجب شهرته الآفاق، إلا بعد موته، عندما اعتبره الكثيرون الرمز والأيقونه المعبرة عن "المرحلة الرومانتيكية" في كل من الفن الكتابي(الشعر)، والفن التشكيلي (الرسم).
وعُرف بليك بنزعته المتمردة وآرائه المناهضة لشكل التدين النمطي الذي تقدمه الكنيسة، وإن لم يكن رافضًا لفكرة الدين في ذاته، أو رافضًا لوجود الخالق. وتقاطع بليك مع أحداث عصره كثيرًا، وشارك فيها بزخم وعنفوان ملحوظ. ومن أهم أعماله الشعرية، ديواننا "أغانى البراءة والتجربة Songs of Innocence and Songs of Experience" الذي صدر بشكله الحالى عام 1894م، "زواج الجنة والجحيم The Marriage of Heaven and Hell" عام 1793م، "أورشليم Jerusalem"، عام 1820م.

***

وديوان "أغنيات البراءة والتجربة" خير معبر عن روح تلك "المدرسة الرومانتيكية"، وعن الشاعر وليم بليك نفسه. فهو يقدم لنا الرؤية المتحركة والمتغيرة للعالم، التي تستند على الذات والعاطفة الإنسانية والتجربة الفردية بشكل واضح وجلي؛ يحاول الشاعر التعبير فيه عن قضية إنسانية كبرى شغلت وتشغل الكثيرين أبدًا- دوام الوجود الإنساني؛ هي قضية الذات الإنسانية الحالمة في مواجهة العالم المادي وقوانينه، والجدل والصراع المستمر والمتجدد بينهما؛ ما بين: الصمود والهزيمة، القوة والضعف، التحقق والانسحاق، الخلاص والضياع.. "ذلك بيت القصيد عند بليك في أغانيه التي تكشف براعمها الأولى: أغنيات البراءة، عن طهارة إنسانية محببة، وفى أوراقها الأخيرة المتساقطة: أغنيات التجربة، عما اعتراها من ذبول وفساد."(9) .
بعد كتابة هذا الديوان بأكثر من قرنين من الزمان، تأثر به أحد الكتاب والملحنين المعاصرين، (الأمريكى: وليم بولكم، الحائز على جائزة "بوليتزر")، وكتب استنادًا إليه، ومستوحيًا إياه مجموعة من القصائد التي حملت نفس العنوان: قصائد البراءة والتجربة، وقدمها في ألبوم غنائي، حيث فازت- في عام 2006م- بأربع من أكبر الجوائز على مستوى العالم في مجالها، وهى جائزة "جرامي" في "لوس أنجليس" بأمريكا؛ جوائز: أفضل ألبوم كلاسيكي، أفضل كورال، أفضل لحن كلاسيكي معاصر، أفضل إنتاج للعام؛ فيما يقترب كثيرًا من برهان على خلود أثر الكلمة، وبقائها حية عبر الأيام، رغم موت صاحبها ورحيله عن العالم.
وقد قارن بعض النقاد بين ديوان "أغنيات البراءة والتجربة" وبين الملحمة الشعرية لـ"جون ميلتون": "الفردوس المفقود"، من جهة معالجة فكرة الأزمة والسقوط الإنساني، ما بين: الجنة والحماية الإلهية، وبين: الأرض والسقوط في الغواية والعذاب والضياع، مع وضع الاختلاف بين روح الشاعرين والإطار والسياق التاريخي لكل منهما في الاعتبار. فذلك كان في القرن 17، وهذا كان في الـ18 (يزيد الفارق الزمني بين العملين الشعريين عن 100 عام). وفيما نجد "المدرسة الكلاسيكية"- التي تحاول استلهام ومحاكاة نماذج الفنون القديمة في اليونان- حاضرةً عند "ميلتون"، الذي كتب ملحمته في حوالي 10565 بيت، وأصدرها- بادئ الأمر- في 10 أجزاء، ثم بعد ذلك في 12 جزءًا، محاكيًا "الإنياده" لـ"ڤ-;---;--رجيل"، التي كانت تحاكي بدورها "الإلياذة" لـ"هوميروس" الملحمة الإغريقية الشهيرة. فـ"الفردوس المفقود" استحضارٌ لأشكال الفن القديمة.
وهذا ما كسره "بليك". ففيما يتسم جميع الأبطال- في "الفردوس المفقود"- بالأسطورية الرمزية، يمثل البطل- عند "بليك"- الفرد العادي الذي يخضع للعاطفة وتقلبات الحال والتجربة والآراء الشخصية. بل يصل الاختلاف في العملين إلى البطل "السلبي- العدو"؛ فهو- لدى "بليك"- القهر والعنصرية والتسلط والاستبداد الديني والقسوة، فيما نجده- عند "ميلتون"- الشيطان وأتباعه، مع الصراع الكلي الملحمي المستمد من النموذج الإغريقي القديم. "وخلاف ذلك هو الحال في الشعر الرومانسي. فبقدر ما يهتم هذا الشعر بأشياء هذا العالم، لا بالأناجيل وحدها، تراه يقلد أبطاله فضائل ويعين لهم أهدافًا ما هي بفضائل الأبطال الإغريق وأهدافهم"(10)، إنما عمومًا يُعد كلا العملين من روائع وعلامات الشعر الإنجليزي العالمي.
وقد دفع أسلوبه وتناوله الفريد لأفكاره وطرحه الشعري في ديوان "أغنيات البراءة والتجربة" العديد من النقاد يضعونه في مكانة رفيعة متميزة، خارج نطاق عصره ومتجاوزًا له؛ "هي حقًّا سليلة ترانيم إسحق واتس.. أدركها بليك بحدث وأسلوب فريدين أصليين، فصاغ قصائد دقيقة مؤثرة تتميز برؤيا شخصية غريبة يمكن وصفها بأنها: حلم السائح الضائع"(11).

***

قدم وليم بليك قصائد هذا الديوان على مرتين، حيث نشر- في المرة الأولى- قصائد "البراءة" عام 1789م، في طبعة محدودة من عدة نسخ قليلة، وصاحب القصائد رسوم تعبيرية رسمها بليك بنفسه (بطريقته الخاصة التي ابتكرها). وبعد خمس سنوات، في عام 1794م- ألحق بها مجموعة قصائد "التجربة"، ونشرهما معًا في ديوان: أغنيات البراءة والتجربة. تتكون مجموعة أشعار "البراءة" من 19 قصيدة، ومجموعة أشعار "التجربة" من 28 قصيدة. وثمة قصيدتان يبدو أن الشاعر قد احتار في أمرهما؛ من حيث انتمائهما لحالة: البراءة أم لحالة: التجربة؛ فتارةً يضعهما مع هذه، وتارة يضعهما مع تلك؛ وهما قصيدتا: "ضياع الولد الصغير"، و"العثور على الولد الصغير"، حيث "تكرر نقلهما بين المجموعتين"(12). وفى النسخة التي نقدم ترجمتها هنا، نجد أنهما قد وضعتا ضمن مجموعة أشعار "التجربة".
وعندما نقارن محتويات المجموعتين الشعريتين- من خلال عناوين القصائد- نجد التالي: اتفقت المجموعتان في 5 عناوين، اتفاقًا شبه كامل، وهي: "الخميس المقدس"، "مُنظف المدخنة"، "أغنية مربية"، "أغنية للمهد"، "الصورة الإلهية"، وإن كان ثمة اختلافات في قصيدة "الصورة الإلهية"، حيث جاءت هكذا معرفة في مجموعة "البراءة"، وجاءت منكرة بدون "الألف واللام" في مجموعة "التجربة". ودلالة التعريف والتنكير واضحة للتمييز بين اليقين المطلق واليقين النسبى.
وجاءت بعض القصائد- فيما بين المجموعتين- حاملة دلالة مناقضة ومعاكسة للأخرى، مثل: "فرحة طفل" في مجموعة "البراءة"، و"حزن طفل" في مجموعة "التجربة"؛ وقصيدة "الزهرة" في مجموعة "البراءة" وقصيدة "الوردة المريضة" في مجموعة "التجربة". كما اشتركت المجموعتان في فكرة الضياع (ضياع الطفل أو البنت الصغيرة)، وفى العثور عليهما أيضا، وإن يكن بتناول مختلف لفكرة العثور- وما تحمله من دلالات- بين المجموعتين.
وقد تم افتتاح كل مجموعة شعرية بقصيدة بعنوان: "مدخل". وكان هذا المدخل بمثابة افتتاحية للحالة التي يريد الشاعر التعبير عنها في كل مجموعة؛ بين حالة عازف المزمار الذي يجلب السعادة في مجموعة "البراءة"، وحالة الشاعر النبي الذي يتحسر على الحال، وواقع الأمر في مجموعة "التجربة"؛ حائرًا ما بين روح الرؤية والنبوة وبين عجز الواقع وقهره وتسلطه وفرضياته.
وقد شكلت الطبيعة الرحبة ومفرداتها وعوالمها المسرح الخلفي لجريان أحداث الصراع في الديوان، وتحولاته في حالة "البراءة" وفي حالة "التجربة". فثمة مفردات: الخضرة، الأزهار، الطيور، الحيوانات، التي تتكرر مع مرادفاتها كثيرًا. وثمة أيضًا مفردات : الطفل، الولد، الرضيع، الشباب، البنت، حاضرةً ممثلةً لعالم البراءة والطُّهر والحرية والانطلاق. وأبرز ممثلي العالم الخارجي، القاهر للذات الإنسانية، عند الشاعر، هو نموذج الكنيسة السلطوية، بمفردات: الكتاب المقدس، القس، الكنيسة. وفي ملاحظة هامة، نجد أن الشاعر قد فصل بشكل واضح نمط التدين الذي تقدمه الكنيسة، عن فكرة الدين والخالق، وأحيانًا ما قدم- في دلالة مهمة- الرمز الأعلى للدين (الله جل وعلا) مشتبكًا مع "المعادل الموضوعي" والرمز الأعلى للبراءة في الديوان: الحَمَل الوديع الصغير؛ في محاولة دائمة لإعادة تشكيل العالم، وإعادة تعريف الأشياء وفق رؤية خاصة وحالمة.



الهوامش:
------

(1) د.محمد غنيمى هلال، الرومانتيكية، دار نهضة مصر، دون تاريخ، ص 8.
(2) د.رجاء جابر، المدخل إلى المذاهب الأدبية: الكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية-الرمزية، مكتبة الشباب، القاهرة 1989، ص 18.
(3) د. عزت محمد جاد، اتجاهات النقد الأدبى الحديث،ص 21، رقم الإيداع بدار الكتب المصرية 17107-2002.
(4) د. الطاهر أحمد مكى، الأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه، ص 53، رقم الإيداع بدار الكتب 4413-1988.
(5) د.محمد غنيمى هلال، دراسات في مذاهب الشعر ونقده، ص65، نهضة مصر للطباعة والنشر، دون تاريخ.
(6) دونكان هيث، جودى بورهام، الرومانسية، ص 107، المشروع القومى للترجمة، سنة 2002، العدد 434.
(7) د.ناجى فؤاد بدوى، النقد الأدبى الحديث:مذاهبه ومناهجه، ص 186، ط1، 1997م، دون ناشر.
(8) د.موريس حنا شربل، موسوعة الشعراء والأدباء الأجانب، ص106، يناير 1996م، دار جروس برس، لبنان.
(9) د.زاخر جبريال، روائع من الشعر الإنجليزى، ص 228، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979م.
(10) هيجل، الفن الرومانسى، ص 56، ط1، سنة 1979م، دار الطليعة- بيروت.
(11) تاريخ الأدب الغربى، الجزء الأول، ص 440، دار طلاس، دمشق.
(12) Songs of Innocence and of Experience - Wikipedia


حاتم الجوهرى



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى