خالد جهاد - لا أعرف

لا أعرف.. فعلاً لا أعرف ما الذي حدث، كل ما أذكره أنني صحوت باكراً.. متأهباً للشمس، باحثاً عن أشعتها التي تنكسر على وجهي بينما كنت أداعبها من خلف النافذة، أراقب الطيور والقطط والسيارات، أتتبع المارة بنظراتي وأناظر عقارب الساعة، كنت أحدث نفسي كثيراً، أرسم كثيراً، أكتب كثيراً، أغني كثيراً، أغرق في عالمي الذي لا يملك مفاتيح أبوابه سواي، أخط الرواية التي أشتهيها، اختار القصة وممثليها، وأصنع النهاية التي أتمناها، أطوف المدن، أخترق الحدود، أنسج من اللهجات الأغاني، أحلق معها وأنسى من أنا.. أرى الحياة دون أن تراني..

صنعت من الحلم أجنحةً شفافةً سافرت معها، عشت لها وآمنت بها حد الجنون، عانقت السماء وحكت من الغيوم ثياباً جديدة لعيدٍ قادم، لم أكتفي بشمسٍ واحدة لكل القصائد فبحثت في جيوبها عن أكثر من نهار، يكفيني ويكفي بقية الأطفال.. ندخر منه شيئاً قبل حلول الليل، قبل احتجاب السنابل وصمت الزهور.. قبل بكاء البحور على رمالٍ عطشى لدموعها وقبل انكسار الحب في حضنٍ من رماد..

أفلت الصوت مع حنجرتي عندما طار البالون بعيداً، هناك.. بجوار طائرةٍ ورقية كتبت عليها اسمي لتسبقني إلى السماء، بكيت وحدي كثيراً قبل الغروب، وكان اختراع أبجديةٍ جديدة أسهل من استعادة ضحكةٍ ولدت من رحم الأمان، نفذت التذاكر ومضى القطار.. أخذ الألوان والحقائب معه، سمعت الكثير من الأصوات التي لم يكن من بينها نغمٌ يطمأنني، كانت نهاية أغنيةٍ ما ونهاية زمنٍ ما، اختفت فيه البصمات عن الأصابع، فرت الكلمات من الكتب، وباتت الوجوه بلا ملامح، خذلني جسدي وأخبرني أنه لم يعد لي كما السابق، فركضت خارجه تحت جنح الظلام، رأيت الأرض تلفظ أبنائها وسط نباح الكلاب الضالة، وسمعت نشيج المنسيين خارج ذراعي أحبتهم يشق صمت الليل، طيفٌ يمر خلسةً.. بابٌ يفتح عنوة، تتسلل الدمى من واجهات المعارض ولا أحد يجرؤ على الحديث، الكل غارق في خوفه.. يتلو صلواته ويرفع دعواته هامساً دون أن ينظر إلى الآخر، صوت أوراقٍ تتمزق وأقدامٌ تركض قبل طلوع الفجر.. أشرقت الشمس من جديد ونظرت في المرآة، وجدت شخصاً يشبهني لكنني لا أعرفه، يغزو الشيب رأسه وتجتمع الهالات السوداء تحت عينيه، ينظر من حوله ولا يجد شيئاً من ما اعتاد عليه، عباءةٌ من الضباب تخنق نور الصباح، لا أحد يبتسم ولم يعد هناك أطفال، الضجيج في كل مكان بعد تلاشي الموسيقى، ولا نوافذ تبشر ببعضٍ من حياة.. لا زلت بخير.. لكنني لا أعرف ماذا حدث.. لا أعرف حقاً.. لا أنا لست بخير.. لا أعرف.. لا أعرف..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى