إيمان فجر السيد - رؤية إنطباعية لنص القصة القصيرة جدًا (صليب) للقاص الأستاذ ياسر أبو عجيب

يُعتبر فنُّ القصة القصيرة تطوُّرًا كتابيًا خاضعًا لتجاربَ عديدةٍ متراكمةٍ؛ الأمر الذي يعمل على توطيدها كجنسٍ أدبيٍّ راهنٍ وهامٍ فرض نفسه بشكلٍ أو بآخر في عالم الأجناس الأدبية وضمن استمرارها رغم الإشكاليات حولها كتَّابًا وقرَّاءً.
تُعنى القصة القصيرة جدًا بقضايا إنسانية متباينة سياسيًا واقتصاديًا وفكريًا واجتماعيًا على إطلاقها ومحدوديَّتها كفكرةٍ ناضجةٍ في ذهن الكاتب والقارئ معًا ضمن سقف زمانيٍّ وجغرافيٍّ معينٍّ يعلو في مكانٍ ويهبط في آخر، ويشتدُّ حدثه تصاعدًا في زمان،ويضعُف هبوطًا في آخر،بعيدًاعن قولبتها أو تعليبها ضمن تابوهاتٍ معيَّنةٍ ومؤطرةٍ ومشروطةٍ دون التَّخلي عن أهمية صناعة الدهشة والإبهار ضمن الفكرة المتبنَّاة ومن خلال أحداثٍ مكثَّفةٍ ومركَّزةٍ، تقوم بأدوار بطولتها شخصياتٌ رئيسة وأخرى تكميليةٌ تتناوب في الظهور على مسرح الأحداث؛ لنعيَ في النهاية أنَّ من اختبأ وراء الكواليس لا يقلُّ دوره أهميةً عمّن لمع نجمه فوق خشبة مسرحها حتى لو كان مصير هذا الأخير الموت غدرًا برصاصة صديق.

**

صليب
تسلَّقتُ الجدار بشجاعةٍ، رفعتُ رأسي لأتجاوزه، رصاصةٌ اخترقته، لم يقهرني أنَّي سقطتُ ميتًا، فاجعتي أنها أتتْ من الخلف.

*

إذا أردنا أن نبدأ بأهم ما في النص: العنوان والذي يُعتبر عتبته التي تؤهل القارئ لمعرفة ما هو مقبلٌ عليه، ويُعتبر بؤرة المتن، وأهمَّ عنصرٍ من عناصر القصة القصيرة جدًا لأنه يُسهم في توضيح الدَّلالة السيمائيَّة للنص في محوره وظاهره وعمقه، يُعرف الصليب رغم تنكيره -هنا في النص- برمز الحب الإلهيِّ للناس أجمعين برأي الكنيسة، ويُعدُّ من أهمِّ رموز الدَّيانة المسيحيَّة شهرةً ويُشير إلى فدائيَّة يسوع، وقد شبَّهَ أحدُهم خشبتَيْ الصليب بإرادة الله وإرادة الإنسان فالخشبةُ الرأسيَّة التي ترتكز على الأرض هي إرادةُ الله النَّافذة كما في السَّماء كذلك على الأرض، أما الخشبةُ الأفقيَّة المعلَّقة على الخشبة الرأسيَّة فتُشبه إرادةَ الإنسان التي سُمِّرَتْ في إرادة الله، وأصبحَ شعار المؤمن:"لكن لا مشيئتي بل مشيئتك"بينما يُعدُّ الصليب عند الرُّومان رمزًا للموت،وعند الفراعنة رمز الحياة والبعث بعد الموت، لنجده في الإسلام واليهوديَّة أداة إنعتاقٍ وخلاصٍ:
(وقولُهم اليهود إنَّا قَتَلْنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبِّهَ لهم وإنَّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلا اتِّباعَ الظنِّ وما قتلوه يقينًا. بل رفعه اللهُ إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا) 157-158النساء
لقد اعتمد الكاتب على التِّكثيف والاختزال الذي يحتِّمهما قِصَر القصة، رابطًا ذلك بسردها بعيدًا عن المتواليَّات السرديَّة، لكن دون أن يفقد النمو والتطور الآني للحدَث معتمدًا على شخصيةٍ واحدةٍ ظاهرةٍ ومكانٍ واحدٍ وهو الجدار رغم عدم ارتباط ذلك بزمانٍ محدَّدٍ وواضحٍ في النص وحبكةٍ وومضة تنويرٍ، وتجميعها كلها في حركة فعل التَّسلُّق الذي بدأ به النص حتى بدا وكأنه المنسأة التي يرتكز عليها النص برُمِّته، وقد زجَّنا الكاتب مباشرةً في زخمه وخطورته وإثارته فالمعروف أنَّ التَّسلُّقَ أمرٌ يتطلَّب الشجاعة والمغامرة والعزيمة للوصول إلى الهدف المرجوِّ من وراءه "تسلقت الجدار بشجاعةٍ" فأيٌّ هدفٍ غامضٍ يا ترى مسكوتٍ عنه ومضمَرٍ كان ينشده البطل المغامر والذي حثَّه على فعلٍ شجاعٍ ومثيرٍ كهذا،هل هو الهروب،لكنَّ الهروب ليس من أفعال الشجعان؟لعل المتسلِّقَ كان جنديًا فدائيًا في معركةٍ ما والطريق الأوحد فيها لكسبها، يكمنُ عبر فعل التَّسلُّق المغامر ذاك، وقد جاء ما وراء حدث التسلُّق ما خفيَ علينا كقرّاءٍ، وأضمره الكاتب بين السطور لقدح زناد فكر القارئ وإثارة التأويلات، تتبدَّى براعة الكاتب ياسر أبو عجيب بتكثيف الحدث، والإيجاز في اللغة والقدرة على اختيار الكلمة الدَّالة والخاتمة المناسبة لها.
هذا التكثيف شمل البنية اللغويَّة والفنيَّة بعيدًا عن الإطالة في الوصف والحشو اللَّفظيِّ معتمدًا على حذف المنطوق الكلامي مستفزٍ فكر المتلقي لملء المساحات الفارغة وتأويل ما يمكن تأويله "رافعًا رأسي لأتجاوزه،رصاصةٌ اخترقتْه"
يتابع القاص نصَّه بأفعالٍ حركيَّةٍ مغناطيسيِّة تجذبنا لمتابعة زخامة الحدث الحيويِّ، وما يؤكد على حيويَّته فِعلَيْ الرَّفع والتَّجاوز الذي شرع البطل بالقيام بهما لولا سرعة فعل الاختراق التي تُنفِّذه رصاصةٌ وتوقفه؛ لتَحُول بين البطل وإتمام فعل التسلق وإنفاذ فعل التجاوز، العلاقة بين فعلَيْ التَّسلق والتَّجاوز علاقةٌ قويةٌ تبشِّر بالظَفر ليأتي بعدَهما فعلُ الاختراق ماحقًا هذه العلاقة التي كادت أن تكون حتميَّةً لولا فعل الاختراق الذي عطَّلها عبر الجملة الفعلية الغامض فاعلها "رصاصةٌ اخترقته، لم يقهرني أني سقطتُ ميّتًا،فاجعتي أنها أتتْ من الخلف" يتابع القاص حركيَّة تتابع الأحداث التي انقلبت فجأةً من حركيَّة الحياة التَّسلَّق الرفع التَّجاوز إلى حركية الموت الاختراق السقوط بتناقضٍ عجيبٍ عكس مسار الأحداث وقلب موازينها من الفوز إلى الخذلان ومن الانتصار إلى الإنهزام بتكثيفٍ واختزالٍ شديدَين ليغيِّر تحفُّزنا للفعل إلى إنفعالٍ عبر حركةٍ تصادميَّةٍ أخذتنا جسديًا و روحيًا وحتى نفسيًا من الارتفاع إلى السقوط في ثنائيَّة الموقف الدفاعي والهجومي،التسلق والسقوط والمفارقة التي تبدَّت لنا صعودًا وهبوطًا، والتي تحقَّقت بفضلها الصدمة في ذهن المتلقِّي مما ساهم في تعميق فهم الحدث، وإيصاله لنا بشكلٍ غير مباشرٍ عبر أبعاد الأفعال المتناقضة الإدهاشية،وقد بلغت المفارقة ذروتها بقوله في قفلة النص "فاجعتي أنها أتت من الخلف"نحن هنا أمام نهايةٍ مفجعةٍ وغدرٍ محقَّقٍ برصاصةٍٍ اخترقت ظهر بطل النص من قِبل صديقٍ قد أؤتمِنَ جانبه فغدر، وتمَّ الوثوق به فخان؛لتتجلَّى لنا في النهاية قدسية الصليب رمز الخلود والبقاء.




1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى