د. محمد عبدالله القواسمة - المعلّقات بين المقدّس والمدنّس..

يُصرّ بعض الدارسين والباحثين على مناقشة المعلقات، وهي القصائد الجاهلية السبع أو العشر المعروفة ضمن موضوع المقدس والمدنس. يتمثل هذا الإصرار في تكرار نشر المقالات التي كتبها بعضهم في هذا الموضوع. فقد صادف أن قرأت مقالًا عن ذلك نشره صاحبه عدة مرات.

يرى هؤلاء أن المعلقات ليس لها طابع مقدس؛ لأنها لم تعلق على أستار الكعبة في العصر الجاهلي. فالقول بتعليقها من وضع الرواة وعلى رأسهم حماد الراوية من مدرسة الكوفة(680م) الذي يتهمه الأصمعي بالكذب والتزوير والمجون، وهو الذي جمع سبعًا من هذه القصائد. ويوجد من لا يقل عنه كذبًا وتزودًا وهو خلف الأحمر(ت796م) من زعماء مدرسة البصرة الذي عرف عنه انتحال الشعر، أي قول الشعر ونسبته لغيره من الشعراء. كما يورد هؤلاء الباحثون أدلة أخرى تاريخية ونقدية يدعمون بها قولهم، منها: الاعتماد على الرواية الشفاهية في العصر الجاهلي، وانتشار الأمية، والتهتك الأخلاقي في هذه القصائد، وبخاصة معلقة امرئ القيس لما فيه من صور جنسية فاضحة طُرد صاحبها بسببها من أبيه.

في الحقيقة، ليس موضوعنا مناقشة الأسباب التي تنفي تعليق المعلقات على أستار الكعبة أو تُثبت تعليقها، أو حتى التي تنفي وجودها بالأساس، أو تنفي وجود الشعر الجاهلي عامة كما في موقف طه حسين في كتابه" في الشعر الجاهلي" 1926م فالذي يهمنا هو مناقشة هؤلاء الباحثين والمفكرين الذين درسوا هذه القصائد تحت مصطلح المقدس والمدنس.

من المعروف أن هذا المصطلح، المقدس والمدنس يعود إلى إميل دوركايم، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي(1858-1917م). فقد صنف المعتقدات الدينية إلى نوعين: مقدس ومدنس. والمقدس هو أي شيء مرتبط بالسماء أو بالأرض، له قوة ومكانة عالية يتفوق بهما عمّا حوله، من حيوان، أو نبات، أو جماد، أو مكان، أو زمان. ويكون ضد الشيء المدنس أو مرتبطًا به، حيث قد يتحول المقدس إلى مدنس عند جماعة ما أو العكس عند جماعة أخرى. وباختصار فالمقدس هو ما كان على علاقة غير متجانسة مع المدنس.

بالاستناد إلى هذا الفهم نرى بأن المعلقات لا ترتبط بأي دين، فهي ليست نصوصًا دينية كالقرآن أو الإنجيل أو التوراة أو المهابهاراتا الهندوسية حتى تحمل صفة القداسة أو الدناسة عند كثير من الناس.

كما لا يمكن وصفها بإحدى الصفتين، فمع مكانة المعلقات العالية فإنها لا تتفوق على بعض القصائد التي قيلت في العصر الجاهلي، كتلك التي وردت في كتاب "المفضليات" على سبيل المثال؛ فلا تتصف هذه المعلقات بصفة القداسة حتى لو علقت على أستار الكعبة، كما لا يوصف غيرها بالمدنسة حتى لو كانت أقل منها قيمة ومكانة. بل ونذهب إلى القول إن تعليقها أو وضْع غيرها من النصوص في الأماكن المقدسة من مساجد أو كنائس أو معابد وثنية لا يجعل منها نصوصًا مقدسة أو لها طابع القداسة عند أصحاب تلك الأماكن.

لا شك أن مناقشة المعلقات تحت مفهوم المقدس والمدنس خطأ واضح؛ فالمصطلح حداثي جاء به دوركايم في حديثه عن مصدر الدين الحديث. إنها أي المعلقات نصوص دنيوية لا تحمل طابع القداسة، ولا علاقة لها بالمقدس والمدنس، بل إن النظر إلى الشعر الجاهلي بأن فيه المقدس وفيه المدنس كاف لتسخيف المدنس والتقليل من أهمية المقدس، وبالتالي إهانة هذا الشعر بكامله، والطعن في صحته ووجوده.

إن إساءة استخدام المصطلح والتعسف في استخدامه يعود في رأيي لأسباب، منها: رغبة بعضهم في لفت الانتباه، أو التمشي مع الفكر الغربي في إرجاع كل شيء إلى أصول دينية أو دنيوية تحت مسمى مقدس ومدنس، حتى الجسد الأنثوي فيه المقدس والمدنس حسب هذا الفكر، أو تجاوب مع الفكر السياسي الذي جاء مع انتشار الإرهاب بعد ما حدث لبرجي التجارة في نيويورك عام 2001م، وربما جاء تقليدًا لما صار عليه النقد ما بعد الحداثي، الذي يبحث عن كل ما هو غريب وعجيب؛ سعيًا وراء تدمير الإنسان ونفي كينونته.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى