عصري فياض - خطيئة التطبيع... ثقافة أوسع من مديات مرتكبيها

منذ أن زرع المشروع الاستعماري الغربي الحديث " إسرائيل" في الجسد العربي في النصف الاول من القرن الفائت، والتعامل الطبيعي التلقائي مع هذا الجسد بالرفض والمقاومة،سواء كان ذلك بالثورات والهبات،كما في فلسطين البقعة المستهدفة مباشرة بالمشروع،أو بالحروب التي خيضت مع دول الجوار مثل سوريا ومصر والأردن ولبنان التي نال بعض أراضيها وشعوبها احتلال وعدوان،والتي ساندها كثير من الدول العربية غير المجاورة لفلسطين،مثل العراق والكويت والمغرب وليبيا والجزائر وتونس في رد وصد هذا العدوان في حروب ومواجهات عدة.إلا أن مصر بقيادة الرئيس الاسبق أنور السادات،وبعد آخر حرب خاضها مع اسرائيل في السادس من اكتوبر من العام 1973،بدأت تجنح لانهاء حالة الصراع بينها وبين "اسرائيل"،ونقل فضائها التي ورثتها من زمن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي كان متعاونا مع المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي الى الفضاء الغربي الامريكي،فكانت زيارة السادات للقدس في العام 1977أول ثغرة تفتح في جدار الرفض العربي الاسلامي الرسمـــي والشعبـــــــي لــــــوجود " إسرائيل " وشرعيتها في المنطقة،وبالرغم من توقيع أنور السادات ومناحم بيغن اتفاقية كامب ديفيد في ربيع العام 1978،والتي نصت فما نصت عليه التطبيع الكامل بين الدولتين رسميا وشعبيا،إلا انه وبعد مرور خمسا وأربعين عاما على الاتفاقية،يمكن القول أن الجانب الرسمي منها كان حاضرا في التطبيع إلى حد ما،لكنَّ التطبيع الشعبي من جانب الشعب المصري وهيئاته ومؤسساته وقواه الحيّة قارب الصفر،بل ان "اسرائيل" في وعيّ ووجدان الشعب المصري لم تتغير،حتى أن قتل السادات في السادس من اكتوبر من العام 1981 كان أحد أسبابه ودوافعه هي العلاقة مع دولة الكيان كما افاد منفذوا عملية الاغتيال خالد الاسلامبولي ورفاقه اثناء التحقيق معهم،وكما علق على تلك العملية الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عندما قال :- "هذا يعني (يقصد الاغتيال) أن القضية الفلسطينية تعيش في وجدان الشعب المصري".
وبعد حرب الخليج الثانية وتداعياتها التي كان منها عقد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991 لبحث حل قضية الشرق الاوسط كما وعدت ادارة بوش الاب الانظمة العربية،وتشكيل الوفد الاردني الفلسطيني المشترك،ومن ثم انقسامه لوفدين مستقلين،نتج عن ذلك اتفاقية اوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و"اسرائيل" التي تنص على الاعتراف المتبادل ونبذ العنف من قبل م ت ف،واقامة حكم ذاتي مؤقت لمدة خمس سنوات،ومن ثّمَّ التفاوض على القضايا المؤجلة وهي الاستيطان واللاجئين والقدس والمياة والدولة والحدود،لكن "إسرائيل" تنكرت لهذه الحقوق الملزمة،وجعلت حكوماتها المتعاقبة الاستحاقات التي وقعت عليها حبرا على ورق بالرغم من أنها حصلت على اعتراف بسيداتها وشرعيتها على نحو 78% من مساحة فلسطين.
الشعب الفلسطيني بغلابيته رفض تلك الاتفاقية بالرغم من أنها غيّرت بعض الشيء ولمدة بسيطة حال الشعب الذي كان يرزح تحت حكم الاحتلال المتجبر،وجاءت بعد انتفاضية شعبية استمرت ستة سنوات،رغم ذلك لم يتغير المزاج الشعبي الفلسطيني تجاه هذا الكيان،بل على العكس من ذلك،حصلت عمليات مقاومة ضد "اسرائيل" لم تحصل من قبل،ونمت قوى مقاومة جديدة رافضة للاعتراف بذلك الكيان،وحصدت هذه القوى قاعدة شعبية نالت فيما بعد تأييد كاسح بين الجماهير الفلسطينية تمثل بفوز حركة حماس في انتخابات عام 2006،وبقي التعاون والتنسيق بين مركبات السلطة او بعضا منها،وبين " اسرائيل" بشكل خجول باستثناء التعاون والتنسيق الامني الذي ترفضه الضروريات الميدانية كما تبرر عن ذلك السلطة الفلسطينية،رغم ان مؤسسات م ت ف وعلى رأسها المجلس المركزي والمجلس الوطني اوصيا مرارا وتكرارا بإقافه وإلغائه.
أما الاردن التي وقعت اتفاقية وادي عربة في السادس والعشرين من تشرين اول من العام 1994،والذي كانت أهم بنوده انهاء حالة الحرب بين الاردن والكيان وحل قضايا الحدود والمياه،وتطبيع العلاقات،فإن التطبيع الذي ارادته " اسرائيل" بين الشعب الاردني توأم الشعب الفلسطيني في جغرافيته وحسه ومعاناته لم تحصل عليه ابدا،فتكاد كل شرائح وطبقات المجتمع الاردني لا تختلف في عدائها لدولة الكيان بشكل كاسح ايضا.
والحال ايضا في دولة الامارات والبحرين والمغرب والسودان،تلك الدول التي لا شأن محسوس وملموس لتوجهات شعوبها في اتخاذ القرارات المصيرية كمسألة اقامة علاقات مع "اسرائيل" والتطبيع معها،فالأمارات والبحرين رضختا لأوامر ادارة ترامب الذي عمل وماكنته الاعلامية لشيطنة ايران،وجعلها العدو الاول والوحيد للعرب،وأن تلك الدول بحاجة للتحالف مع امريكا واسرائيل للوقوف في وجه ايران وإطماعها كما يزعمون،أما السودان فإن رفع العقوبات التي لا زالت ترزخ تحتها منذ عقود لا يمكن رفعها الا من خلال "اسرائيل"،وكذلك المغرب،فإن قضية الاعتراف بملكيتها وحقها في الصحراء الغربية " الساقية الحمراء" همها الاول،لذلك طبعت،ووسعت دائرة التطبيع للتعاون العسكري والثقافي والسياحي والاقتصادي،وأُجبر سعد الدين العثماني رئيس العدالة والتنمية الذي كان يرأس الحكومة المغربية في العام 2020 على التوقيع،فإنهارت شعبية حزبة في الانتخابات التي تلت التوقيع من 125 مقعدا الى 13 مقعدا.
وفي هذه الايام ما يجري من مباحدثات ومفاوضات في السر والعلن لاطلاق التطبيع الرسمي بين دولة الكيان والسعودية بإشراف امريكي،فإن الامير السعودي المتنفذ محمد بن سلمان يهدف من خلال تطبيعه مع دولة الكيان ثلاثة أمور،الاول توقيع اتفاق دفاع استراتيجي مع الولايات المتحدة،وإنشاء مفاعل نووي للاغراض السلمية مبدئيا،والثالث شراء عتاد عسكري متطور من الولايات المتحدة،كل هذه الاهداف عنوانها الهاجس والتخوف من ايران بالرغم من الاتفاق الذي جرى بينه وبين وإيران برعاية صينية.
إذا جوهر التطبيع بين بعض الانظمة العربية واسرائيل،لم يخرج عن كونه مصلحة لتلك الانظمة المتجبرة والتي لا تعير لرأي شعوبها أي اهتمام،فما جرى للإعلاميين "الاسرائليين" في دورة كأس العالم التي عقد العام الفائت في العاصمة القطرية الدوحة،أظهر موقف الجماهير العربية من "إسرائيل"،وردة الفعل من قبل الشعب العربي الليبي قبل اسابيع بعد فضيحة لقاء وزيرة الخارجية الليبية مع نظريها الاسرائيلي،ايضا يؤكد تلك النتيجة،حتى أن الجماهيـــر العربية ولو قامت " اسرائيل" بإعطاء حقوقها المسلوبة لن تقوم بالتطبيع الشعبي مع دولة الكيان،وأسوق مثال على ذلك عندما ابدى رئيس حكومة العدو الاسبق رابين في العام 1996 الانسحاب الكامل من الجولان المحتل مرة واحدة مقابل السلام والتطبيع، أبلغ كوادر حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا السيد فاروق الشرع وزير الخارجية آنذاك انهم لن يطبعوا مع هذا الكيان حتى لو اعاد كل الحقوق العربية المسلوبة.
لذلك التطبيع خطيئة في وعيّ الشعوب العربية،ومرتكبوها أقل مكانة،واقصر عمراً،وأكثر قبحا من مساحات نظرة الامة لهذا الكيان مهما حاول العالم الاستكباري والمتنفذون تجميله.
*كاتب فلسطيني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى