ليلى تبّاني - قراءة في رواية "بغداد و قد انتصف اللّيل فيها" للفيلسوفة الروائية التونسية حياة الرايس

عدالة جندرية و إنجاب جديد
حياة .... امرأة ليست ككلّ امرأة كانت ، وكلّ امرأة ستكون أو هي كائنة ، و لكن فيها من الزّيادة عليها زيادة ماء السّيل على ماء النّهر ما زاده إلاّ امتلاء و فيضا ، عذبة عذوبته و سلسة الانطلاق وساحرة الانسياب تماما مثله لا تستسلم لقيودهم و لو أقاموا جبالا من السّدود ، ولا تبالي بهم و لو وضعوا لها سجنا من الحدود ، فإن استفحلوا وقالوا : لو عندك الفرار فعندنا القيود ، تقول حينها واثقة : إن كان حصانكم جموح فأنا العنود .
"بغداد وقد انتصف اللّيل فيها "، رواية للأديبة التونسية "حياة الرايس " تعدّدت الطبعات للرواية ومعها القراءات لكنّ السحر واحد ، ففي كلّ قراءة نكتشف ركنا يضيء جانبا مهمّا من الحياة ، وها أنا أقرؤها و يفتنني البعد الفلسفي الأهم من الرواية ، فبفضل هاته الرواية السّيرية ترسم لنا حياة الرايس نفسها عبر هذه اللّوحة الشاملة للطريق الذي سارت فيه ، هاته اللّوحة التي لن نجدها في أيّة مصادر أخرى ، لم تتحدّث حياة الرايس إلى أي شخص على هذا النّحو من التفصيل عن أسرتها وعن دراستها في كل مراحلها بدءا من الكتّاب إلى الجامعة ، عن دراستها الجامعية قي بغداد في عهد حكم الرئيس المخلوع "صدّام حسين" وحزب البعث ، لم أكن أعرف شخصيا سوى القليل جدّا عن بغداد ونمط العيش فيها ، إلاّ بعد قراءتي للرواية ، و في هذا السياق تقصّ علينا حياة الرايس عن العديد من المشاهير وفق تصوّراتها ، وبقدر كبير من التحفظ ، وعن آخرين أقلّ شهرة ، ولكن أشدّ قربا إليها ، إنّها في هاته الرواية تتذكّر بحماس ، كلّ مراحل حياتها وتتحدّث عنها بإسهاب واستفاضة ، لتعطينا صورة غير رسمية عن حياة امرأة رائعة قلّما نصادف مثيلاتها . إنّ ما نكاد نراه رؤيا العين و نحن نقرأ ما تم حكيه في الرواية ، إنّما هو مشهد من تاريخ أمّة تمتدّ ربوع جغرافيتها من المحيط الى الخليج ، فتأخذنا في نزهة على ضفاف دجلة على أطراف بغداد ، وطيلة الرحلة لا تفتأ تغادر عبق ياسمين نابل ومشموم الفل التونسي .
رواية تتعالق فيها السيرة الذاتية مع التاريخية ، فتعرضها بأسلوب حكائي آسر تطغى عليه الهوية الفلسفية للكاتبة ، تؤكّد الكاتبة أن تحضّر الشعوب والأمم بمقدار شيوع الفلسفة فيها، وما الفلسفة سوى ذلك التفكير النقدي الحرّ الذي لا يرضى بمقتضيات التقليد والعرف خاصة إذا كانا في صورة بالية بل يُخضع المسائل لتمحيص دقيق يستجيب لمقتضيات العقل ، وتطرح مسألة مهمّة جدا ، تُعنى بالمرأة وحقوقها ومكانتها حتى عرفت في كتاباتها اللاّحقة بنصيرة المرأة وكاتبتها .
تؤكد حياة أنه آن الأوان لكي تتجاوز الفلسفة النسائية مفاهيم الإخضاع والهيمنة و التبعية ، و بات من حقّ المرأة أن تتجاوز طور التحرر الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وأن تتخطى أزمة الضحية التابعة ، لإنّ إقصاء المرأة على مدى التاريخ كان بسبب مسوّغات بائسة لا مبرّر لها علميا ومنطقيا، و تضع تجربتها فخرا وحجاجا لمن يشكّك من قريب او من بعيد ، فهي المرأة المتفوّقة منذ ان كانت طفلة في الكتّاب ، و أمل والدها في تعويض ما كان يمكن من ولده البكر أن ينجزه .
الفيلسوفة حياة الرّايس نتاج طموحها و آمالها ، و لا شك أنّ الآمال العظيمة تصنع الأشخاص العظماء، فالعظمة ميزة لا تُتاح لجميع الناس وإلاّ فقدت معناها ، إنها شعلة متّقدة داخل الإنسان ، رجلا كان أو امرأة ، فالعظيم عظيم بنفسه وأفعاله ، والعظيمة عظيمة بوجودها وأفعالها. ولا داعي للتأكيد بأن كل امرأة عظيمة تكون وراء كل رجل عظيم ، أو أن كل امرأة عظيمة يوجد خلفها رجل عظيم. لقد رسخ في ذاكرتي بل في قناعتي ما ورد في الفصل الثّامن الموسوم بـ " البحث عن عشبة الخلود "
فتقول في مقطع قوي جدا وعميق : " و بدأت أسحب نفسي من عالم النساء الكائنات بغيرهنّ لا بذواتهنّ ، قصارى ما تحلم به إحداهن ...أن تكون أمّ فلان أو زوجة فلان ...مقصية مرّة أخرى من عالم النساء ، بعد ما أقصيت من عالم الأطفال ....و أخلّص نفسي من الإقامة الجبرية في الآخر ....زوجة أو أمّا أو عاشقة ...." ص 73 . إنّها تعتبر الزواج أسرا و استعبادا ، و قد بلغت من العلم مبلغا لا ترى فيه أن حريتها وحرية المرأة عموما ، محدودة بسلطة رجل بين كلمتين : لا ، و نعم . فآثرت أن تتخلّص من الحب والزواج بالوقوع فيه لتعرفه ، وعرفته لتتّقيه على نفسها ، و تتّقيه لتبتلى به ، فتصرفه في منافعها ، فلا تجد لها في الاجتماع زوج ، ولكن لها الحبّ ، و ليس لها فيه أهل لبعدهم ، لكن لها الجمال . فالمتأمّل بعد الكلام يدرك فلسفة الكاتبة في الحياة ، و التي تركّز فيها على القيم الكبرى للكون و أسطقسات الخلود ...الحق ...الخير ...الجمال . تقول في ذات الفصل من الرواية : "....إنّ الرّجل يكتب ، تعويضا عن حرمانه من تجربة الولادة عند المرأة ، و لكن لماذا تكتب المرأة ؟ سؤال فلسفي عميق للأديب الكبير محمود المسعدي ، اعتمدته الروائية حياة الرايس في مستهلّ الفصل الثامن من روايتها ، والذي أراه شخصيا أهمّ فصل في الرواية على الإطلاق ، فتتفوّق فيلسوفتنا في الإجابة عن السؤال و تبرير علّة الخلود عند المرأة . لتعيد صياغة التساؤل : مالذي أوهمني أن الخلود مع القلم وليس مع الولد ؟ ...."
عذرا أيّتها الصديقة ، لقد قرأتك كما لم تكتبي ربما ، فمهما أكتب ومهما أفسّر ما كتبت ، فلا يزال وراء السؤال ذلك المعنى الدقيق الذي لا يظهره الجواب ، وذلك المعنى المعجز الذي هو بلاغة فوق البلاغة ، تلك الحياة الجميلة كما اشتهيناها لا كما اشتهتنا . وتلك هي علّة الكتابة .
أن تكتب المرأة ، يعني أن تكون هي في هيأتها هي ، لا أن تكون هي بهيأتهم ، أن تكتب المرأة يعني أنها تنجب ذاتها في كل حبل فكري راق
أن تكتب المرأة يعني أن تجيب في كلّ مرة عن السؤال : وماذا بعد ؟
ذلك السؤال الذي يعقب الإحباط الذي يصيب النساء بعد زواجهن وانجابهن الأولاد والأحفاد ، فتقف حائرة مخذولة لا تعرف الردّ والاجابة
سوى أن تتساءل في سرّها : وماذا بعد ؟ وأين أنا ؟ وماذا أنجزت ؟ تزوّجت لأُنْسب لغيري و أُسعده و أنجب له أولادا ليستمر نسله واسمه ، وقفت وراءه ليكون عظيما ، عشت أكرّس جهودي لأصنع أمجاده ، فأين أمجادي ورضاي ؟ تلك الأسئلة التي تحرص المرأة على أن لا تظهرها حتى لا تعلن هزيمتها . والمؤسف حقاّ أنّها ستظلّ جاثمة على صدورهن ما حيين . لتحيلنا الفيلسوفة حياة الرايس إلى قناعة أن المجد والخلود للكتابة وليس لغيرها ، فوحدها الكتابة تعوّض غائية الفعل الجنسي، وهي الغائية الإنجابية في حالة تعذر تحقيقها وبلوغها. ترى فيلسوفتنا ان العقم قد يقود أغلبية النساء إلى التحسّر عن أنوثتهن ، لتحال بالتقادم إلى أزمة هوية مستلبة من صنع الرجل ، و لن تتحرّر إلاّ بمدى قدرتها على الخروج من أصفاد الصورة النمطية التي صنعها المجتمع، وهي بهذا مهّدت للتنظير في مفهوم "الجندر" . فترى حياة الرايس أن لا عوض للمرأة عن هويتها الضائعة وسط الغطرسة الجندرية ، سوى الكتابة و الابداع بشكل عام ، لأنّهما ستغدوان فعلا إنجابيا بامتياز، كأنّي بها في هاته الرواية وضعت حجر الأساس لنظرية بنيت على أركان متينة تواجه تغيرات الزمان والمكان ، نظرية تؤسس للمرأة العظيمة الخالدة التي لا تزول بزوال وظائفها البيولوجية ، امرأة مدادها بلازما ، و قلمها حبل سرّي ، و نصّها المرقون مولود جديد .

ليلى تبّاني من الجزائر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى