هل تذكرين يا أمى عندما حكيت لى عن زوجين يهوديين جاءا ليسكنا إلى جواركما فى القدس. كانا لاجئين أيضا، أتيا من واقع مختلف. دلفا إلى الشقة المقابلة لشقتك، وشقة والديك. وقد خطَّ الشيب شعرهما فى أوروبا. فى أول ليلة أمضياها فى بيتهما الجديد وفى أرضهما الجديدة، رأيتهما يلتصقان بالراديو. وبعد ذلك كنت ترينهما كل مساء يلهثان بين محطات الإذاعة بأصابع لا تعرف الهدوء، فيسمعان لغة عربية آتية من دول أخرى، ولا يعثران على لغة أوروبية فى صحراء الكلمات. كانا لا يعرفان العبرية بعد، ويقول أحدهما للآخر، وقد أكلهما اليأس: «العرب يحاصروننا من كل حدب وصوب، كيف جئنا للعيش هنا؟».
اسمعى يا أمى، يجب أن نتفهمهم، لقد جاءوا من شرق أوروبا ليقيموا دولة لليهود هنا. ولم يعرفوا من قبل أن هناك يهودا لا يتكلمون اللغة الإيديشية، ونحن أيضا، قبل مجيئنا إلى مخيمات الإيواء المؤقت التى جهزوها لنا، لم نكن نصدق أن هناك يهودياً حقيقياً لا يتكلم اللهجة العربية اليهودية باللكنة العراقية.
وبعدما انتصروا فى الحرب، وطردوا مئات الآلاف من الفلسطينيين، ونجحوا فى تغييب العرب الذين أشاعوا الرعب فى نفوسهم، وحققوا حلمهم، وصارت لهم دولة، باتوا فى حاجة لنا لكى نملأ البيوت الخاوية التى تركها اللاجئون وراءهم. وكنا بالنسبة لهم مجرد معادلة حسابية، رغم أنهم لم يلتقوا بنا من قبل. كنا مجرد يهود لملء الفراغ الذى تركه الفلسطينيون خلفهم، كنا مجرد صفقة جيدة عقدها بن جوريون مع نورى السعيد، وعلى حين غرة، وبعد مرور ثلاث سنوات على إقامتهم للدولة، أصبح يهود العراق يمثلون واحدا على ثمانية من إجمالى السكان اليهود.
هل تذكرين شعورهم عندما رأونا نهبط من أبواب الطائرات، وأدركوا أننا عرب، لقد «نظفوا» الأرض- مؤخرا- من الفلسطينيين العرب، وها هم يحصلون فى المقابل على عرب عراقيين، لديهم نفس الشوارب، ويستمعون لنفس الموسيقى، ويتحدثون نفس اللغة واللهجة واللكنة. لقد فشلوا حتى فى التمييز بيننا، ولم يدركوا الفروق بين اللكنتين الفلسطينية والعراقية، فانفجرت سخرية القدر فى وجوههم.
لكننا فى النهاية يهود أيضا، لدينا معابدنا، ونحافظ على الصلاة أحيانا، ونصلى بالعبرية، مع أننا عرب فى كل شىء. لقد ألجمتهم الدهشة، ولم يعرفوا ما العمل مع هؤلاء العرب، فربما نتحالف مع العرب الرابضين وراء الحدود، ونأخذ منهم الدولة، لذلك قرروا إنقاذ أبنائنا، حتى لا يكبروا ويصيروا عرباً مثلنا، فليكونوا يهوداً مثلهم، وعندئذ فقط يقبلونهم فى دولتهم.
لكن ما الداعى اليوم، فهم باتوا يعرفوننا، ونحن أصبحنا نشبههم، وهم أضحوا يشبهوننا، وحَفَّ معظمنا شاربه، ونسينا اللغة العربية، واللكنة، وهم نسوا اللغة الإيديشية، ولم نعد نخيفهم كما فى الماضى، وصرنا نحلم بأمريكا مثلهم، وتسابقنا فى نسيان ماضينا، ربما لأننا سكنَّا بينهم. فقد صممنا على الإقامة فى تل أبيب، ورامات- جان، وبيتح تيقفا، وصرنا اليهود الشرقيين الوحيدين الذين عرفوهم، نحن واليمنيون، أما المغاربة فقد ألقوا بهم بعد ذلك فى «مدن التطوير» بالنقب والجليل، فعاشوا مع بعضهم البعض، ومازالوا يذكرون ماضيهم. ولم يهتم اليهود الغربيون بهم، ولم يهتموا هم باليهود الغربيين، أما نحن فقد كنا أول من ربط نفسه باليهود الغربيين.
آه يا أمى، لو بذلتم معى مجهودا كافيا لدراسة الشعر العربى، لكنت عرفت باحتمال وقوع شاعر فلسطينى فى غرام فتاة يهودية تعيش فى هذه البلاد. وكنت سأطلب منكم أن تصفوا لى «ريتا» ذات الشعر الأحمر، تلك الفتاة اليهودية الغربية بطعم توت السياج، وحبات الكريز، تلك الفتاة التى تأتى من الكرمل وهى تحمل بيتها بين ضلوعها، وتحضر فى حقيبتها قليلا من روعة البحر الأزرق إلى لقاءاتهما فى الوادى. لكنكم يا أمى لم تقرأوا علىَّ أبياتاً من شعر محمود درويش، وأنا لم أنتظر أن تكتب عنى شاعرة عربية قصيدة حب طويلة وملحمية، لم أنتظر قدومها عند أبوابى بضفيرتها السوداء الطويلة، ووجهها الجميل كبدر التمام.
وذات مساء فى بدايات شهر أغسطس، وقبل أربعة أسابيع من تجنيدى فى الجيش، دلفت وحدى إلى مقهى فى تل أبيب لكى ألقى الشعر، فسمعت «ريم» تقرض شعراً بالعبرية، وشقت كلماتها نهراً فى روحى: «القلب يشتهى.. فيصير القلب شهوة. ويرنو لاحتواء بقية العرائس.. عرائس الجسد والروح. ويتزن العقل.. فيصير العقل راجحا.. مختالا بنفسه. ويرنو لاحتواء سائر أعضاء الجسد. وأنا اختزلت جسمى فى رَحِم ترق لحال الآخرين، وتحتويهم لكى تلدهم من جديد».
عندما هبطت من المنصة الصغيرة، نظرت إلىّ ريم، فحكمت علىَّ بالحب. بدون أن تقول كلمة جلست بجانبى، شاعرة فلسطينية فى بداية طريقها، اختارتنى أنا لكى أكون حبيبها اليهودى. تبادلنا قليلا من الصمت، ثم حكت لى قصة حياتها الممزقة، وطلبت منى أن أروى لها قصتى. أخبرتها أننى ما زلت بلا قصة، وما زلت أرغب فى الإنصات إليها.
«الحب.. رَحِم»، قالت هذه الجملة عندما طلبت منها أن تشرح لى قصيدتها، واستفاضت: «فى البداية يكون الحب ضيقا، فالحب قاصر عن الاحتواء، يُحْكم حصاره حول المحبين، ويجب علينا مغازلته، ومراودته بعبارات الغزل الندية. ونحاصره بالكلمات والقصائد والأيدى. وعندما يحاول أن يستجمع قوته ويتماسك، تنهار مقاومته، وتتسع رقعته فيلد حبا جديدا، الحب مثل الرَحِم، يلد مشاعر جديدة دائما».
حكت لى عن قراءة الشعر فى الأمسيات، وفى المقاهى الصاخبة بلغة العدو، وعن العودة إلى العزلة فور انتهاء القراءة، تلك العزلة التى سرت فى أوصالها، واستوطنت أعضاء جسدها، منذ غادرت منزل أسرتها، منذ غادرها منزل أسرتها، ومنذ هجرت لغتها تقريبا، فتخلت عنها.
كلامها عن الحب أثار جنونى، وصرخت: «الرَحِم دائما عندكم هى الرَحِم، الهدف منها تناسل يتلوه تناسل. تتكاثرون، وتتناسلون لتزيد أعداد أولادكم. رَحِمك هذه تثير رعبى، وأنت تحاولين أن تمتصى بداخلها قداسة العالم كله. إنك لا تدركين أنهم علّموكِ أن تقولى رَحِم، وتعيشى طوال الوقت فى فلك الرَحِم، يجب أن تعترضى.
إنها مسألة مخيفة، ليس بسبب ما يقولونه عندنا فقط، من أن رَحِمكن هى ألد أعدائنا، ومن خلالها ستهزموننا فى النهاية، وتقضون على كل القنابل النووية التى نودعها فى أقبيتنا». ردّت علىّ بنظرة تحذير، فوجدتنى- ثانيةً- أتعجل نقلها إلى خانة الأعداء، وأتعجل بناء جدار فاصل بيننا، هى فلسطينية، وأنا يهودى، وهى ما زالت لا تعرف، ومن حقها أن تتصنّع هذه الاختلافات وقتما تشاء، أما أنا فليس من حقى.
هى قررت أن تكون علاقتنا بين رجل وامرأة. وقالت: «أنا أريد أن ألد نفسى من جديد، وأن ألدك، لتصير ابنى. وأريد آلاف الأشياء الأخرى. أريد أن ألد حيوات كثيرة فى هذا العالم الساكن الخاوى الغريب. كيف يمكنك أن تتخلى عن الرغبة فى التناسل، دون أن تغير منى؟ رَحِمى تشفق على صمت العالم، وتريد اجتراحه، وأنت تخاف من أولادى؟ فماذا لو كانوا أولادك، وجزءا منك أيضا؟ لم تقترح علىَّ امرأة، من قبل، اقتراحا كهذا، سواء كانت عربية أو يهودية، فلم أتعجل الرفض. وظللت جالسا إلى جوارها، وقررت تقليل جرعة الأيديولوجية، ومحاصرة الآلام، والتركيز فى وجهها الجميل، وأنا أيضا، بدا لى فجأة أننى صرت جميلا، بينما كنت أتطلع فى مرآة الحمام.
بدأت أتتبع رصانة كلماتها، وأنفض التراب عن كلماتى القديمة، خرجت إليها، ولم أكن أعرف إذا كنت مقدماً على ليلة حرب، أم ليلة حب، عرفت فقط أن لها جسداً قويا كالسنديان، وندياً كسهول الوديان، وأدركت أن ينبوع ابتساماتها هو مكمن غضبها. ولم أكن أعرف وقتها كم يحتاج الغضب من جهد وكد للحفاظ عليه، ورعايته، حتى لا يتلاشى، ولا يُنسى، ولا يكف لحظة عن أداء مهمته فى العالم، مهمة التذكرة، والحيلولة دون النسيان الذى هو آفة حياتنا.
من أجلها قطعت الطريق من القدس إلى تل أبيب فى ليالٍ كثيرة، وهى جاءت من يافا إلى تل أبيب، وقبلها عبرت الحاجز النفسى بين يافا العربية، ويافو العبرية. كانت ترتدى ملابس سوداء دائما، ويلحق بها شعرها الفاحم الطويل. كانت فى الثانية والعشرين من عمرها، وكنت فى الثامنة عشرة، أقطع أولى خطواتى فى دنيا العشق. لم تأخذنى إلى شقتها خوفاً من ابنة خالتها وشريكتها التى تدرس الدكتوراه بجامعة تل أبيب، فقد تخبر أهلهما بوجودى فى حياتها.
كنت أضاجعها فى سيارة أبى، وفى كل ليلة قبل عودتى للبيت كنت أظل داخل السيارة ربع ساعة، أركن فى الشارع، وأضىء النور، لألتقط الشَعْر الذى أمطر المقاعد، وغرس جذوره فى بشرتها، ولا أنتهى قبل أن تدق الساعة الثالثة صباحا.
قلت لها: أنت امرأة أسيرة بين عالمين، تسكبين الغضب السياسى بغزارة فى قصائدك المكتوبة بلغة العدو، ولا تكفّين عن إقامة العلاقات الحميمية مع الكلمات العبرية، وأنت تحاولين إغواءها لتعود إلى أحضان اللغة العربية. ها قد أعدتنى إليك، أيتها المرأة الأيديولوجية التى ترتدى قناع العاشقة.
كانت تتعامل معى وكأننى يهودى غربى لا يعرف شيئا عن الثقافة العربية، وعندما قالت: جميعكم جئتم من بولندا، وألمانيا، ثارت ثائرتى، وقلت: أنا جئت من العراق، أنتم تتعمدون نسياننا دائما، لا تريدون أن تتذكروا أننا عشنا هنا معكم، وأنكم دفعتمونا للخروج من بلادنا، للخروج من بينكم.
ردت علىَّ: أنت أول مَنْ نسى بيت آبائه فى العراق، إذا كنت تريد أن تتذكره فلماذا لا تتعلم، لماذا لا تكون يهودياً يكتب قصائده بالعربية، مثلى أنا عربية تكتب شعرها بالعبرية؟ ثم قالت: أنا فلسطينية تعيش فى إسرائيل، تقريبا مثل يهودية تعيش فى العراق، أعرف لغتين، وكلتاهما لا تعرفاننى. اليهود لا يريدون أن أتحدث العبرية، والعرب يقولون ماذا تفعل فتاة عربية باللغة العبرية.
فى ثانى أمسية بالمقهى تقمّصت دور فتاة بدوية ارتحلت فى الصحراء آلاف السنين قبل أن تخرج من الخيام، وتقصد المدينة وبيوتها الخرسانية الباردة، وشوارعها الأسفلتية الملتهبة.
على الرغم من أنها ولدت فى يافا العبرية، وكل آبائها وأجدادها ولدوا فى يافا العربية. وألقت قصيدتها أمام الجمهور: «أجهزة التكييف عوّدتنى أن أشعر بحرارة لا تحتمل فى الشوارع.. وأن أخشى رائحة عرقى. ووميض المصابيح أورثنى الخوف من انقطاع الكهرباء، والرعب من الظلام، ومن ضوء هزيل تنشره الشموع.
وهكذا مر جيل بعد جيل.. وصارت عزلة الليالى الصحراوية غير آدمية.. وقوافل الجمال باتت مشهدا ينتمى لما قبل التاريخ.. ومن علمنى حياة الترف، والخوف، والانقطاع عن ماضىَّ، وأن أبحث لنفسى عن جسد آخر، وأفكار أخرى، وأن أتطلع فى جدى وجدتى فأرى قبائل بدائية…».
عندما جلست بجانبى بينما يحتضنها تصفيق الجمهور، سألتها: هل أنت على استعداد لكتابة قصيدة كهذه بالعربية؟ هل ستنوحين على أطلال الخيام بالطريقة نفسها هناك؟ قالت إنها اتخذت قرارها، ولن تعود إلى يافا، ستنتقل للإقامة فى تل أبيب.
وأنها لم تعد تنتمى لـ«هناك». اقترحت عليها الإقامة فى القدس، وبدلا من أن تجيب، حكت لى عن أول قصيدة كتبتها، عندما كانت لا تزال تكتب بالعربية. أثناء الاحتفال بالذكرى الأولى لوفاة إسحاق رابين ألقى مدير المدرسة قصيدتها، وصفق لها الجميع. فلن تجد كل يوم فتاة فى الخامسة عشرة تكتب بالعربية الفصحى دون أخطاء نحوية. أنصتت لتصفيق الجمهور فى هذا اليوم، وكان من ضمن الحاضرين وزير فى الحكومة لا تتذكر اسمه، لكنها تتذكر مصافحته لها. ومنذ ذلك اليوم قررت أن تواصل كتابة الشعر، لكن بالعبرية.
بدأت تلقى علىَّ باللغة العربية قصيدة محمود درويش لـ«ريتا»، كانت حريصة على لحن مارسيل خليفة، وكانت تشرح لى الكلمات بالعبرية. وعلى طاولة المقهى كانت تتخيل جلسة درويش وريتا فى المطبخ بين أكواب الشاى الليلية، بينما تمطره ريتا بكلمات الغزل العبرية، وتطالبه بأن يرد عليها باللغة نفسها، وتقبّل شفتيه. ولم أعرف هل كانت تتصور أننى ريتا، وأنها محمود درويش.
استغرقت فى الشرح: «فى فراش الحب كانت ريتا تحكى له عن أمها التى تبكى ضياعها، وتلعن الدنيا، وتلعن الأغيار، والألمان، وتلعن شعبه، وتلعنه. وبعد ذلك تعانق صمته، وتتأمل كيف يدارى وجهه خلف شعيرات خشنة سمراء نابتة فى ذقنه. وأثناء هذا اللقاء الذى جمع بين شاعر فلسطينى وعشيقته اليهودية، سمعتها الحيطان تقول: «شعر ذقنك يؤلمنى كشظايا الخزف المكسور»، ورأتها الحيطان تمسك بوجهه، وتدسه بين ساقيها، تشتهى أن تدرك برَحِمها آلام طفولته، وتفض مكنون أسراره. مرت عدة لحظات، تواصل ريم روايتها، وتقلصت تلك البلاد الصغيرة، واحتشدت داخل غرفة فى منزل صغير يغص بأوهام يومية، ويحاول تجاهل اقتراب موعد تبدل الفصول. وكلما نامت ريتا كان يكتب لها، كان يكتب على إيقاع نبضات قلبها، كان يكتب أبياتاً من قصيدة ملحمية طويلة، سماها بعدما تركها «شتاء ريتا الطويل». وفى تلك الليالى كان يطالب بحقه فى سفر التكوين، وفى سفر أيوب، وفى عيد الحصاد، وفى قصائد الحب القديمة.
وعند منتصف الليل طلب من الصفحة أن تشرح له لماذا حرضت ريتا الإله ضده، لكنه لم يعرض عليها الرحيل معه إلى خارج لعنة حبهما المحاصر، إلى البحر، إلى الصحراء، إلى أراضٍ بعيدة. وفى الصباح كانت ريتا تبتعد عنه، تخشى من أسئلة حراس المدينة، تعود إلى حيها الراقى، وإلى بيتها فى المدينة، وإلى حب أمها الأبدى. تذهب إلى عملها مبكرا حتى لا يتكلم عنها أحد، ولا يسألها أحد: «أين أمضيتِ الليل يا ريتا؟»، «ما سر إرهاقك البادى؟»، «مَنْ عبث بضفيرتك الحمراء؟» وكانت تعود إليه فى المساء، تروّض الخيول الزائفة، وتتذمر من الشتاء الطويل، ومن قراءته المستمرة فى صحف الحرب.
لماذا تطيل القراءة فى عناوين الصحف، سألتنى ريم، وصوّبت نظرتها نحوى، عندما وَقَفَتْ أمامك كيف استطعتَ أن تُنكر اشتياقك إلى عبير البساتين الذى يفوح من تحت إبطيها، إلى أزرار قميصها، إلى وجهها المرمرى المزركش بالنمش المبعثر؟ ولماذا لم تؤمن أنها قد تنصت لحكاياتك. جلستَ فقط على ساقيها، وحاولت أن تنهل من ثدييها كل آلام شعبها؟ هل ظننت أنها فى النهاية قد تنصت إلى قصتك؟
استمرت ريم تحكى لى بالعربية والعبرية كيف استيقظت ريتا ذات صباح متأخرة، وغمرها شعاع نور مكسور تسلل إلى الغرفة عبر القضبان الحديدية التى تحاصر النافذة الضيقة، بعدما قطعت على نفسها وعدا أثناء نومها أن تعود إليه عندما تتغير الأيام وتتبدل الأحلام، ربما بعد انقضاء الشتاء الطويل. أخرجت من حقيبتها مسدسها الصغير، الملفوف فى كيس من النايلون الرقيق، ربما تستخدمه فى الحفاظ عليه من المطر والرطوبة. وضعته على المفرش، على ظهر مسودة مليئة بحروف عربية متصلة تعزف لها قصيدة ملحمية طويلة لم تقرأها أبدا. وعندما ذهبت، نظر هو بهدوء إلى فوهة المسدس المحشو برصاصة واحدة، وفهم أنها ظنت أنه قد يشفق على القصيدة من الحياة، فوقف يلقى القصائد أمام النافذة الخاوية، بينما تسير ريتا وتبتعد فى الشوارع، وتعود إلى بيتها فى الكرمل. كل صفحة قرأها، مزقها، وبدأ يشعر بمنفاه يقترب أكثر وأكثر مع حلول المساء، ورأى ظله فى الشباك ما زال واقفا يلقى عليها كلمات تائهة، كان يستطيع أن يشعر بروحه تكاد تخرج إلى التيه وراء شعبه.
ريم لم تكن ولدت عندئذ، وأخبرتنى أننى لم أكن قد ولدت وقتها، وأنها لم تكتب حتى الآن قصيدتها الملحمية الطويلة لعشيقها اليهودى، ربما أكتب أنا قبلها قصيدتى الملحمية عنها. لقد ذهبت، وتركتنى احتجاجا على عدم رفضى أداء الخدمة العسكرية. وعندما وقفت فى نقطة حراسة بموقع عسكرى على الحدود اللبنانية، عند سفح جبل الشيخ، داهمتنى خيالات شرقية عن فتاة بدوية ترعى أمامى قطيع خراف، ودارت بخلدى الأبيات الأولى من قصيدتى الملحمية عن ريم، وبدأت أكتب.
اسمعى يا أمى، يجب أن نتفهمهم، لقد جاءوا من شرق أوروبا ليقيموا دولة لليهود هنا. ولم يعرفوا من قبل أن هناك يهودا لا يتكلمون اللغة الإيديشية، ونحن أيضا، قبل مجيئنا إلى مخيمات الإيواء المؤقت التى جهزوها لنا، لم نكن نصدق أن هناك يهودياً حقيقياً لا يتكلم اللهجة العربية اليهودية باللكنة العراقية.
وبعدما انتصروا فى الحرب، وطردوا مئات الآلاف من الفلسطينيين، ونجحوا فى تغييب العرب الذين أشاعوا الرعب فى نفوسهم، وحققوا حلمهم، وصارت لهم دولة، باتوا فى حاجة لنا لكى نملأ البيوت الخاوية التى تركها اللاجئون وراءهم. وكنا بالنسبة لهم مجرد معادلة حسابية، رغم أنهم لم يلتقوا بنا من قبل. كنا مجرد يهود لملء الفراغ الذى تركه الفلسطينيون خلفهم، كنا مجرد صفقة جيدة عقدها بن جوريون مع نورى السعيد، وعلى حين غرة، وبعد مرور ثلاث سنوات على إقامتهم للدولة، أصبح يهود العراق يمثلون واحدا على ثمانية من إجمالى السكان اليهود.
هل تذكرين شعورهم عندما رأونا نهبط من أبواب الطائرات، وأدركوا أننا عرب، لقد «نظفوا» الأرض- مؤخرا- من الفلسطينيين العرب، وها هم يحصلون فى المقابل على عرب عراقيين، لديهم نفس الشوارب، ويستمعون لنفس الموسيقى، ويتحدثون نفس اللغة واللهجة واللكنة. لقد فشلوا حتى فى التمييز بيننا، ولم يدركوا الفروق بين اللكنتين الفلسطينية والعراقية، فانفجرت سخرية القدر فى وجوههم.
لكننا فى النهاية يهود أيضا، لدينا معابدنا، ونحافظ على الصلاة أحيانا، ونصلى بالعبرية، مع أننا عرب فى كل شىء. لقد ألجمتهم الدهشة، ولم يعرفوا ما العمل مع هؤلاء العرب، فربما نتحالف مع العرب الرابضين وراء الحدود، ونأخذ منهم الدولة، لذلك قرروا إنقاذ أبنائنا، حتى لا يكبروا ويصيروا عرباً مثلنا، فليكونوا يهوداً مثلهم، وعندئذ فقط يقبلونهم فى دولتهم.
لكن ما الداعى اليوم، فهم باتوا يعرفوننا، ونحن أصبحنا نشبههم، وهم أضحوا يشبهوننا، وحَفَّ معظمنا شاربه، ونسينا اللغة العربية، واللكنة، وهم نسوا اللغة الإيديشية، ولم نعد نخيفهم كما فى الماضى، وصرنا نحلم بأمريكا مثلهم، وتسابقنا فى نسيان ماضينا، ربما لأننا سكنَّا بينهم. فقد صممنا على الإقامة فى تل أبيب، ورامات- جان، وبيتح تيقفا، وصرنا اليهود الشرقيين الوحيدين الذين عرفوهم، نحن واليمنيون، أما المغاربة فقد ألقوا بهم بعد ذلك فى «مدن التطوير» بالنقب والجليل، فعاشوا مع بعضهم البعض، ومازالوا يذكرون ماضيهم. ولم يهتم اليهود الغربيون بهم، ولم يهتموا هم باليهود الغربيين، أما نحن فقد كنا أول من ربط نفسه باليهود الغربيين.
آه يا أمى، لو بذلتم معى مجهودا كافيا لدراسة الشعر العربى، لكنت عرفت باحتمال وقوع شاعر فلسطينى فى غرام فتاة يهودية تعيش فى هذه البلاد. وكنت سأطلب منكم أن تصفوا لى «ريتا» ذات الشعر الأحمر، تلك الفتاة اليهودية الغربية بطعم توت السياج، وحبات الكريز، تلك الفتاة التى تأتى من الكرمل وهى تحمل بيتها بين ضلوعها، وتحضر فى حقيبتها قليلا من روعة البحر الأزرق إلى لقاءاتهما فى الوادى. لكنكم يا أمى لم تقرأوا علىَّ أبياتاً من شعر محمود درويش، وأنا لم أنتظر أن تكتب عنى شاعرة عربية قصيدة حب طويلة وملحمية، لم أنتظر قدومها عند أبوابى بضفيرتها السوداء الطويلة، ووجهها الجميل كبدر التمام.
وذات مساء فى بدايات شهر أغسطس، وقبل أربعة أسابيع من تجنيدى فى الجيش، دلفت وحدى إلى مقهى فى تل أبيب لكى ألقى الشعر، فسمعت «ريم» تقرض شعراً بالعبرية، وشقت كلماتها نهراً فى روحى: «القلب يشتهى.. فيصير القلب شهوة. ويرنو لاحتواء بقية العرائس.. عرائس الجسد والروح. ويتزن العقل.. فيصير العقل راجحا.. مختالا بنفسه. ويرنو لاحتواء سائر أعضاء الجسد. وأنا اختزلت جسمى فى رَحِم ترق لحال الآخرين، وتحتويهم لكى تلدهم من جديد».
عندما هبطت من المنصة الصغيرة، نظرت إلىّ ريم، فحكمت علىَّ بالحب. بدون أن تقول كلمة جلست بجانبى، شاعرة فلسطينية فى بداية طريقها، اختارتنى أنا لكى أكون حبيبها اليهودى. تبادلنا قليلا من الصمت، ثم حكت لى قصة حياتها الممزقة، وطلبت منى أن أروى لها قصتى. أخبرتها أننى ما زلت بلا قصة، وما زلت أرغب فى الإنصات إليها.
«الحب.. رَحِم»، قالت هذه الجملة عندما طلبت منها أن تشرح لى قصيدتها، واستفاضت: «فى البداية يكون الحب ضيقا، فالحب قاصر عن الاحتواء، يُحْكم حصاره حول المحبين، ويجب علينا مغازلته، ومراودته بعبارات الغزل الندية. ونحاصره بالكلمات والقصائد والأيدى. وعندما يحاول أن يستجمع قوته ويتماسك، تنهار مقاومته، وتتسع رقعته فيلد حبا جديدا، الحب مثل الرَحِم، يلد مشاعر جديدة دائما».
حكت لى عن قراءة الشعر فى الأمسيات، وفى المقاهى الصاخبة بلغة العدو، وعن العودة إلى العزلة فور انتهاء القراءة، تلك العزلة التى سرت فى أوصالها، واستوطنت أعضاء جسدها، منذ غادرت منزل أسرتها، منذ غادرها منزل أسرتها، ومنذ هجرت لغتها تقريبا، فتخلت عنها.
كلامها عن الحب أثار جنونى، وصرخت: «الرَحِم دائما عندكم هى الرَحِم، الهدف منها تناسل يتلوه تناسل. تتكاثرون، وتتناسلون لتزيد أعداد أولادكم. رَحِمك هذه تثير رعبى، وأنت تحاولين أن تمتصى بداخلها قداسة العالم كله. إنك لا تدركين أنهم علّموكِ أن تقولى رَحِم، وتعيشى طوال الوقت فى فلك الرَحِم، يجب أن تعترضى.
إنها مسألة مخيفة، ليس بسبب ما يقولونه عندنا فقط، من أن رَحِمكن هى ألد أعدائنا، ومن خلالها ستهزموننا فى النهاية، وتقضون على كل القنابل النووية التى نودعها فى أقبيتنا». ردّت علىّ بنظرة تحذير، فوجدتنى- ثانيةً- أتعجل نقلها إلى خانة الأعداء، وأتعجل بناء جدار فاصل بيننا، هى فلسطينية، وأنا يهودى، وهى ما زالت لا تعرف، ومن حقها أن تتصنّع هذه الاختلافات وقتما تشاء، أما أنا فليس من حقى.
هى قررت أن تكون علاقتنا بين رجل وامرأة. وقالت: «أنا أريد أن ألد نفسى من جديد، وأن ألدك، لتصير ابنى. وأريد آلاف الأشياء الأخرى. أريد أن ألد حيوات كثيرة فى هذا العالم الساكن الخاوى الغريب. كيف يمكنك أن تتخلى عن الرغبة فى التناسل، دون أن تغير منى؟ رَحِمى تشفق على صمت العالم، وتريد اجتراحه، وأنت تخاف من أولادى؟ فماذا لو كانوا أولادك، وجزءا منك أيضا؟ لم تقترح علىَّ امرأة، من قبل، اقتراحا كهذا، سواء كانت عربية أو يهودية، فلم أتعجل الرفض. وظللت جالسا إلى جوارها، وقررت تقليل جرعة الأيديولوجية، ومحاصرة الآلام، والتركيز فى وجهها الجميل، وأنا أيضا، بدا لى فجأة أننى صرت جميلا، بينما كنت أتطلع فى مرآة الحمام.
بدأت أتتبع رصانة كلماتها، وأنفض التراب عن كلماتى القديمة، خرجت إليها، ولم أكن أعرف إذا كنت مقدماً على ليلة حرب، أم ليلة حب، عرفت فقط أن لها جسداً قويا كالسنديان، وندياً كسهول الوديان، وأدركت أن ينبوع ابتساماتها هو مكمن غضبها. ولم أكن أعرف وقتها كم يحتاج الغضب من جهد وكد للحفاظ عليه، ورعايته، حتى لا يتلاشى، ولا يُنسى، ولا يكف لحظة عن أداء مهمته فى العالم، مهمة التذكرة، والحيلولة دون النسيان الذى هو آفة حياتنا.
من أجلها قطعت الطريق من القدس إلى تل أبيب فى ليالٍ كثيرة، وهى جاءت من يافا إلى تل أبيب، وقبلها عبرت الحاجز النفسى بين يافا العربية، ويافو العبرية. كانت ترتدى ملابس سوداء دائما، ويلحق بها شعرها الفاحم الطويل. كانت فى الثانية والعشرين من عمرها، وكنت فى الثامنة عشرة، أقطع أولى خطواتى فى دنيا العشق. لم تأخذنى إلى شقتها خوفاً من ابنة خالتها وشريكتها التى تدرس الدكتوراه بجامعة تل أبيب، فقد تخبر أهلهما بوجودى فى حياتها.
كنت أضاجعها فى سيارة أبى، وفى كل ليلة قبل عودتى للبيت كنت أظل داخل السيارة ربع ساعة، أركن فى الشارع، وأضىء النور، لألتقط الشَعْر الذى أمطر المقاعد، وغرس جذوره فى بشرتها، ولا أنتهى قبل أن تدق الساعة الثالثة صباحا.
قلت لها: أنت امرأة أسيرة بين عالمين، تسكبين الغضب السياسى بغزارة فى قصائدك المكتوبة بلغة العدو، ولا تكفّين عن إقامة العلاقات الحميمية مع الكلمات العبرية، وأنت تحاولين إغواءها لتعود إلى أحضان اللغة العربية. ها قد أعدتنى إليك، أيتها المرأة الأيديولوجية التى ترتدى قناع العاشقة.
كانت تتعامل معى وكأننى يهودى غربى لا يعرف شيئا عن الثقافة العربية، وعندما قالت: جميعكم جئتم من بولندا، وألمانيا، ثارت ثائرتى، وقلت: أنا جئت من العراق، أنتم تتعمدون نسياننا دائما، لا تريدون أن تتذكروا أننا عشنا هنا معكم، وأنكم دفعتمونا للخروج من بلادنا، للخروج من بينكم.
ردت علىَّ: أنت أول مَنْ نسى بيت آبائه فى العراق، إذا كنت تريد أن تتذكره فلماذا لا تتعلم، لماذا لا تكون يهودياً يكتب قصائده بالعربية، مثلى أنا عربية تكتب شعرها بالعبرية؟ ثم قالت: أنا فلسطينية تعيش فى إسرائيل، تقريبا مثل يهودية تعيش فى العراق، أعرف لغتين، وكلتاهما لا تعرفاننى. اليهود لا يريدون أن أتحدث العبرية، والعرب يقولون ماذا تفعل فتاة عربية باللغة العبرية.
فى ثانى أمسية بالمقهى تقمّصت دور فتاة بدوية ارتحلت فى الصحراء آلاف السنين قبل أن تخرج من الخيام، وتقصد المدينة وبيوتها الخرسانية الباردة، وشوارعها الأسفلتية الملتهبة.
على الرغم من أنها ولدت فى يافا العبرية، وكل آبائها وأجدادها ولدوا فى يافا العربية. وألقت قصيدتها أمام الجمهور: «أجهزة التكييف عوّدتنى أن أشعر بحرارة لا تحتمل فى الشوارع.. وأن أخشى رائحة عرقى. ووميض المصابيح أورثنى الخوف من انقطاع الكهرباء، والرعب من الظلام، ومن ضوء هزيل تنشره الشموع.
وهكذا مر جيل بعد جيل.. وصارت عزلة الليالى الصحراوية غير آدمية.. وقوافل الجمال باتت مشهدا ينتمى لما قبل التاريخ.. ومن علمنى حياة الترف، والخوف، والانقطاع عن ماضىَّ، وأن أبحث لنفسى عن جسد آخر، وأفكار أخرى، وأن أتطلع فى جدى وجدتى فأرى قبائل بدائية…».
عندما جلست بجانبى بينما يحتضنها تصفيق الجمهور، سألتها: هل أنت على استعداد لكتابة قصيدة كهذه بالعربية؟ هل ستنوحين على أطلال الخيام بالطريقة نفسها هناك؟ قالت إنها اتخذت قرارها، ولن تعود إلى يافا، ستنتقل للإقامة فى تل أبيب.
وأنها لم تعد تنتمى لـ«هناك». اقترحت عليها الإقامة فى القدس، وبدلا من أن تجيب، حكت لى عن أول قصيدة كتبتها، عندما كانت لا تزال تكتب بالعربية. أثناء الاحتفال بالذكرى الأولى لوفاة إسحاق رابين ألقى مدير المدرسة قصيدتها، وصفق لها الجميع. فلن تجد كل يوم فتاة فى الخامسة عشرة تكتب بالعربية الفصحى دون أخطاء نحوية. أنصتت لتصفيق الجمهور فى هذا اليوم، وكان من ضمن الحاضرين وزير فى الحكومة لا تتذكر اسمه، لكنها تتذكر مصافحته لها. ومنذ ذلك اليوم قررت أن تواصل كتابة الشعر، لكن بالعبرية.
بدأت تلقى علىَّ باللغة العربية قصيدة محمود درويش لـ«ريتا»، كانت حريصة على لحن مارسيل خليفة، وكانت تشرح لى الكلمات بالعبرية. وعلى طاولة المقهى كانت تتخيل جلسة درويش وريتا فى المطبخ بين أكواب الشاى الليلية، بينما تمطره ريتا بكلمات الغزل العبرية، وتطالبه بأن يرد عليها باللغة نفسها، وتقبّل شفتيه. ولم أعرف هل كانت تتصور أننى ريتا، وأنها محمود درويش.
استغرقت فى الشرح: «فى فراش الحب كانت ريتا تحكى له عن أمها التى تبكى ضياعها، وتلعن الدنيا، وتلعن الأغيار، والألمان، وتلعن شعبه، وتلعنه. وبعد ذلك تعانق صمته، وتتأمل كيف يدارى وجهه خلف شعيرات خشنة سمراء نابتة فى ذقنه. وأثناء هذا اللقاء الذى جمع بين شاعر فلسطينى وعشيقته اليهودية، سمعتها الحيطان تقول: «شعر ذقنك يؤلمنى كشظايا الخزف المكسور»، ورأتها الحيطان تمسك بوجهه، وتدسه بين ساقيها، تشتهى أن تدرك برَحِمها آلام طفولته، وتفض مكنون أسراره. مرت عدة لحظات، تواصل ريم روايتها، وتقلصت تلك البلاد الصغيرة، واحتشدت داخل غرفة فى منزل صغير يغص بأوهام يومية، ويحاول تجاهل اقتراب موعد تبدل الفصول. وكلما نامت ريتا كان يكتب لها، كان يكتب على إيقاع نبضات قلبها، كان يكتب أبياتاً من قصيدة ملحمية طويلة، سماها بعدما تركها «شتاء ريتا الطويل». وفى تلك الليالى كان يطالب بحقه فى سفر التكوين، وفى سفر أيوب، وفى عيد الحصاد، وفى قصائد الحب القديمة.
وعند منتصف الليل طلب من الصفحة أن تشرح له لماذا حرضت ريتا الإله ضده، لكنه لم يعرض عليها الرحيل معه إلى خارج لعنة حبهما المحاصر، إلى البحر، إلى الصحراء، إلى أراضٍ بعيدة. وفى الصباح كانت ريتا تبتعد عنه، تخشى من أسئلة حراس المدينة، تعود إلى حيها الراقى، وإلى بيتها فى المدينة، وإلى حب أمها الأبدى. تذهب إلى عملها مبكرا حتى لا يتكلم عنها أحد، ولا يسألها أحد: «أين أمضيتِ الليل يا ريتا؟»، «ما سر إرهاقك البادى؟»، «مَنْ عبث بضفيرتك الحمراء؟» وكانت تعود إليه فى المساء، تروّض الخيول الزائفة، وتتذمر من الشتاء الطويل، ومن قراءته المستمرة فى صحف الحرب.
لماذا تطيل القراءة فى عناوين الصحف، سألتنى ريم، وصوّبت نظرتها نحوى، عندما وَقَفَتْ أمامك كيف استطعتَ أن تُنكر اشتياقك إلى عبير البساتين الذى يفوح من تحت إبطيها، إلى أزرار قميصها، إلى وجهها المرمرى المزركش بالنمش المبعثر؟ ولماذا لم تؤمن أنها قد تنصت لحكاياتك. جلستَ فقط على ساقيها، وحاولت أن تنهل من ثدييها كل آلام شعبها؟ هل ظننت أنها فى النهاية قد تنصت إلى قصتك؟
استمرت ريم تحكى لى بالعربية والعبرية كيف استيقظت ريتا ذات صباح متأخرة، وغمرها شعاع نور مكسور تسلل إلى الغرفة عبر القضبان الحديدية التى تحاصر النافذة الضيقة، بعدما قطعت على نفسها وعدا أثناء نومها أن تعود إليه عندما تتغير الأيام وتتبدل الأحلام، ربما بعد انقضاء الشتاء الطويل. أخرجت من حقيبتها مسدسها الصغير، الملفوف فى كيس من النايلون الرقيق، ربما تستخدمه فى الحفاظ عليه من المطر والرطوبة. وضعته على المفرش، على ظهر مسودة مليئة بحروف عربية متصلة تعزف لها قصيدة ملحمية طويلة لم تقرأها أبدا. وعندما ذهبت، نظر هو بهدوء إلى فوهة المسدس المحشو برصاصة واحدة، وفهم أنها ظنت أنه قد يشفق على القصيدة من الحياة، فوقف يلقى القصائد أمام النافذة الخاوية، بينما تسير ريتا وتبتعد فى الشوارع، وتعود إلى بيتها فى الكرمل. كل صفحة قرأها، مزقها، وبدأ يشعر بمنفاه يقترب أكثر وأكثر مع حلول المساء، ورأى ظله فى الشباك ما زال واقفا يلقى عليها كلمات تائهة، كان يستطيع أن يشعر بروحه تكاد تخرج إلى التيه وراء شعبه.
ريم لم تكن ولدت عندئذ، وأخبرتنى أننى لم أكن قد ولدت وقتها، وأنها لم تكتب حتى الآن قصيدتها الملحمية الطويلة لعشيقها اليهودى، ربما أكتب أنا قبلها قصيدتى الملحمية عنها. لقد ذهبت، وتركتنى احتجاجا على عدم رفضى أداء الخدمة العسكرية. وعندما وقفت فى نقطة حراسة بموقع عسكرى على الحدود اللبنانية، عند سفح جبل الشيخ، داهمتنى خيالات شرقية عن فتاة بدوية ترعى أمامى قطيع خراف، ودارت بخلدى الأبيات الأولى من قصيدتى الملحمية عن ريم، وبدأت أكتب.