أ. د. عادل الأسطة - سر الآباء: بن تسيون وابنه

قديماً قالت العرب: العرق دساس. هل كان ثمة مفارقة في الأمر حين كتب راحلنا إميل حبيبي في أخريات أيامه، أو قبلها بقليل، ان العرق دساس؟ كان إميل شيوعياً طيلة عمره، فكيف أخذ يكرر هذا في آخر أيامه، وقد يكون، ان لم تخني الذاكرة، اورده في احدى رواياته؟ كيف؟ أنا فوجئت أيضاً حين قرأت "لاعب النرد" لدرويش، وحين قرأت أيضاً بعض المقابلات الأخيرة، أخذ يتحدث عن الحظ، وان لم يغفل المهارة والاجتهاد.
هل ما تعلمناه في طفولتنا يظل يلازمنا، فاذا ما حاربنا في فترة الشباب والفتوة يعود ويظهر في زمن الشيخوخة؟
قديماً قالت العرب: العرق دساس، وقديماً ورد أيضاً: الابن سر أبيه. هذا مثل أحياناً نكرره، علماً أننا نكرر نقيضه أيضاً: وردة تخلف شوكة وشوكة تخلف وردة، وقد يخرج من بيت الطبال زمار، و.. و..
تذكرت ما قالته العرب، وتذكرت ايضاً ايراد إميل حبيبي له، الثلاثاء الماضي. أخذت أقرأ ما نشره ملحق "المشهد الاسرائيلي، الذي يوزع مع "الأيام"، عن والد رئيس وزراء دولة ابناء العمومة (بنيامين نتنياهو) واسمه (بن تسيون نتنياهو)، ومما ورد في المشهد "اذا اردتم فهم نتنياهو فعليكم التعرف على والده".
كانت صحيفة (نيويوركر) الاميركية نشرت في العام 1998 تقريراً عن (نتنياهو)، وتم فيه تخصيص قسم كبير منه للأب. وقد قيل فيه، يومها، للصحيفة السطر المقتبس سابقا "اذا أردتم فهم نتنياهو فعليكم التعرف على والده"، وكان الأبن لمح مراراً الى والده وعلاقته به وبأفكاره. حين عارض الابن خطة فك الارتباط مع قطاع غزة في العام 2005، وكان يومها وزير مالية في حكومة ارئىل شارون، قال نتنياهو: "لكوني ابن مؤرخ لا أريد ان يذكروني كوزير في حكومة الانسحاب".
طبعاً اعتماداً على ما سبق فعلينا الا نتأمل نحن، أهل فلسطين، الكثير من رئيس وزراء دولة ابناء العمومة. وربما تدعم تجربة سابقة ما قيل لفظا. ليس هذا هو المهم في الأمر، المهم هو ما قاله الأب في المقابلة عن العرب والفلسطينيين أيضاً.
يرى الاب ان العرب لا يفهمون سوى لغة القوة فاظهارها هو "الوسيلة الوحيدة التي من شأنها جعل العرب يتراجعون عن موقفهم الرافض".
والأب يكره العرب، فالعربي انسان في الصحراء، لماذا؟ لانه لا يحترم القانون. لأن بامكانه ان يفعل كل ما يريده في الصحراء. ويرى الأب ان حل الدولتين غير قائم. لماذا؟ لانه لا يوجد هناك شعب اسمه الشعب الفلسطيني. هؤلاء الفلسطينيون ليسوا شعباً. انهم وهم، وقد انتجوا لانفسهم صورة شعب من اجل تبرير حربهم ضد دولة اليهود.
ليس الأب ضد إقامة دولة للفلسطينيين، انه ايضاً ضد اعادة الجولان لسورية، "وعموماً نحن لا نعيد اراضي من بلادنا التي احتللناها بحرب بطولية وبضحايا". وحين سئل الاب ان كان ابنه يختلف عنه (معاريف 3/4/2009) أجاب: "من الجائز ان بيبي يسعى نحو أهداف كالتي لدي". لكن بطرق مختلفة يحتفظ بها لنفسه، لانه اذا كشف عنها، فانه سيلغي قيمة الاهداف ويكشفها".
حتى اللحظة لم أقر بما توصل اليه إميل حبيبي في أخريات حياته: العرق دساس، ولا أدري ان كان (بيبي) سيفعل ويمارس ما يعتقد به والده الذي أشار في اللقاء الى تأثير الوالدين على الولد "كان لزوجتي تسيلا رحمها الله تأثير قوي جداً على الاولاد" وان كان الاب قال أيضاً: وليس دائماً تتطابق افكاري مع افكار بيبي بصورة كاملة".
هل ما قاله (بن تسيون) عن العرب جديد؟ هل فوجئنا نحن قراء المشهد الاسرائيلي به؟"الشعب الفلسطيني مجرد وهم! الحل مع العرب بالقوة المرعبة والفورية والمفرطة للغاية".
أنا شخصياً لم أفاجأ بأقواله، كانت السيدة (غولدا مائير) تقول: لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطيني. وكانت الادبيات الصهيونية تكرر: هذه الضفة لنا وتلك ايضاً. وكانت الروايات الصهيونية التي درسها كنفاني ومعين بسيسو، بخاصة رواية (اكودس) لليون ادريس، ومذكراتي الحربية ليائيل دايان تقول ما قاله والد (نتنياهو)، عمر (بن تسيون) الان تسع وتسعون سنة، ولعله تربى مع تلك الروايات، وظلت تلح على ذهنه. لقد تشربها في طفولته وربى ابنه عليها. واذا كان العرب قالوا: العرق دساس، وسر الآباء في الابناء، فعلينا ألا نتأمل خيراً، وعلينا ان نقرأ المكتوب من عنوانه. هل سأغدو مثل إميل حبيبي؟

بعيداً عن السياق... قريباً من السياق
أتذكر أبي
أتذكر أبي. ولد في يافا وهاجر الى نابلس. كان عمره واحداً وعشرين عاماً في العام 1948، وسينفق، في المنفى، بقية عمره، سيموت وعمره اثنان وثمانون عاماً أنفق ثلاثين منها في مخيم للاجئين يعاني وينتظر العودة الى مكان مولده: إلى يافا، ولا يعود اليها بعد العام 1967 الا زائراً. كان أبي يحدثني عن اصدقاء له يهود، عن صموئىل وآخرين، وبعد النكسة التقى ببعض هؤلاء، وأظنهم كانوا يهوداً شرقيين يتكلمون العربية، علماً أن أبي كان يتقن العبرية، وعلى الرغم من مرور تسعة عشر عاماً على النكبة لم ينس، فقد أخذ يتكلمها وهو يعمل سائقاً في شركة (ايجد). (العلم في الصغر كالنقش في الحجر).
هل كان أبي الذي طرد من يافا، وعاد اليها لزيارتها وليرى بيته فيها، وليشرب فيه القهوة فقط، هل كان يحدثني بحقد عن اليهود، هؤلاء الذين اصابه رصاصهم في اثناء الهجرة، وهؤلاء الذين أراد محاربتهم في العام 1967، فقد حمل السلاح وتطوع أيام النظام الاردني، قبل هزيمة حزيران بقليل، هل كان يحدثني بحقد عن اليهود.
أتذكر أبي وحديثه عن ابناء العمومة، ابناء العمومة الذين نعتهم أمل دنقل في قصيدته "لا تصالح" بأنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك، أتذكر حديث أبي عنهم، فلا أراه حديثاً حاقداً أو ناقماً، ولا أراه حديثاً يقوم على فكرة الدم، الدم العربي النقي. لم ينطق أبي بما انطق به السياب مومسة في قصيدته "المومس العمياء": خير الدماء دمي، كما يقول أبي، فضاجعوني يا رجال كان أبي يتحدث عن صداقات، كأن ما كتبه محمود درويش في قصيدته "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" عن الجندي، كأنه كلام أبي نثراً، بلغة عادية دارجة لا فصيحة، فقد كان أبي يتحاور مع (صموئيل) الذي كان يقول لأبي: اذا انتصرت بريطانيا في الحرب العالمية فستكونون حميرنا ونركبكم، وأما اذا انتصرت المانيا فسنكون حميركم وتركبوننا. وحتى اللحظة ركبنا الاسرائيليون.
لم يقل أبي لي، ذات يوم، ان اليهود مجرد وهم. انهم ليسوا شعباً. كان يتحدث عنهم على انهم بشر عاديون، ولهذا صادقهم وصادق فتياتهم أيضاً. أبي ليس مؤرخاً مثل والد (نتنياهو)، وليس متعلماً، فهو سائق أنهى الصف الخامس الابتدائى ترى أيهما أكثر وعياً انسانياً، أيهما ذو ضمير انساني حي: أبي أم والد (نتنياهو)؟ هل أنا مثل أبي، و(نتنياهو) مثل أبيه؟ لست أدري!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى