أ. د. لطفي منصور - ذكرُ الشمسِ في شعْرِ المتنبِّي:

ذَكَرَ المتنبِّي الشمسَ في شعرِهِ في عَشَراتِ الأبيات.كان يعجببُه ضِياؤها الصّافي ونورُها الْمُشِّعُّ ، مُبَدِّدُ الظَّلامِ وقاهرُهُ ويمْلَأُ الأفًُقَ حياةً وبهجَةً. وقد وظّفَ الشاعِرُ الشمسَ لأغراضٍ شَتَّى. منها لوَصْفِ شِعْرِهِ الذي طَبَّقَ الآفاقَ ، ومَلَأَ الدُّنْيا كالشمس، فقالَ: من الرَّمَل
إنٌَ هذا الشِّعْرَ في الشِّعْرِ مَلَكْ
سارَ فَهْوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيا فَلَكْ
فإذا ما قِسْنا شِعْرَهُ بشعرِ الآخَرين نجدُهُ قَدْ مَلَكَ شعرَهم، وصارَ يَجوبُ الدُّنْيا كالشّمسِ ضِياءً ونورا.
ويذكّرُني ببيتِه المبدعِ: من الطويل
أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعْرًا فَإِنَّمَا
بِشِعْري أتاكَ الْمادحونَ مُرَدَّدا
عَمَدَ الشّاعِرُ إلى التشبيهِ البليغ الذي انحذفتْ منه أداةُ التشبيهِ ووجْهُ الشَّبَهِ. فقالَ مِنَ الْمُنْسَرِح:
الشَّمْسُ قَدْ حَلَّتِ السّماءَ وَمَا
يَحْجُبُها بُعْدُها عَنِ الْحَدَقِ
الشمَّمْسُ خبَرُ المبتدَأِ المذكور قَبْلَ هذا البيت، وهو شعره. يعتبرُ الشاعِرُ الشَّمْسَ حِلْيَةً وزينَةً للسّماءِ. وكذلكَ شِعْرُهُ زينَةُ دُنْيَا الشِّعْرِ. شعرُهُ يجعلُ البعيدَ قريبًا لحُسنِهِ ورغبَةِ النَّاسِ فِيهِ، كالشمْسِ لا يحجُبها عَنِ العيونِ بُعْدُها الساحقُ.
واعتبَرَ المتنبِّي نفسَه في رِفْعَتِهِ وعُلُوِّ قَدْرِهِ، واختلافِهِ عن سائرِ البشَرِ، أنَّهُ وَليدُ الشّمْسِ ، فعندما جَاءَ إلى هذه الدُّنْيا تساءَلَ النَّاسُ: هلِ الشّمْسُ تُنْجِلُ. أي تلدُ أنجالًا. يقول من المتقارَب:
وَقَدْ وَلَدَتْكَ فقالَ الْوَرَى
ألَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ لا تُنْجِلُ
الورَى: المخلوقات ويعني بها البشر.
ثمّ توجَّهَ إلى حاسديهِ من الشعراء وَقَالَ لهم: أنتم في تعَبٍ دائبٍ تحاولون مجاراتي ومشابهتي
ألَمْ تعلموا أنا الشّمسُ؟
وَفِي تَعَبٍ مَنْ يَحْسُدُ الشّمْسَ ضَوْءَها
وَيَجْهَدُ أنْ يَأْتِي لَهَا بِضَرِيبِ
الضٌريب: المثيل
ضَوْءَها: بدلُ اشتمالٍ من الشمس.
ويستمرّ شاعرَنا الكبير في نعتِ نفسهِ وشعرِهِ حتى لو مدحَ الآخَرين في أحوالٍ كثيرةٍ كانَ يعني نفسَه وَأَنَّه هو الشمسُ، بل هو فوقَها. يَقُولُ من البسيط:
مَنْ كانَ فَوْقَ مَحَلِّ الشمسِ موضِعُهُ
فَليسَ يَرْفَعُهُ شَيْءٌ وَلا يَضَعُ
إِنَّهُ يرى أنّ شِعْرَهُ كالشمسِ في كَبِدِ السماء، وفلَكُ الشِّعِرِ يدورُ حَوْلَه. يقول من الكامل:
كالشمسِ في كَبِدِ السَّمَاءِ وضَوْؤُها
يَغْشَى البلادَ مشارِقًا وَمغارِبا
ألَمْ يقلْ أبو الطَّيِّب في داليَّتِهِ الْمُعْجِزةِ: من الطويل:
وما الدهرُ إِلَّا مَنْ رُواةِ قَصائِدي
إذا قُلْتُ شِعْرًا أصبحَ الدّهْرُ مُنْشِدا
فَسارَ بِهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّرا
وَغَنَّى بِهِ مَنْ لا يُغَنِّي مُغَرِّدا
وأكتفي ببيتِ قصيدِ هذه النخبة ببيتٍ من أجمَلِ ما قرأْت: من البسيط
خُذْ ما تراهُ وَدَعْ شيئًا سمعتَ بِهِ
في طَلْعَةِ الشمسِ ما يُغْنيكَ عَنْ زُحَلِ
لماذا أيُّها الْمُتَلقي تستهدي بِزُحَلَ (الشعر الرديء) وعندكَ الشمسُ يكفيكَ طلعتُها؟
وبعدُ أيها الأصدقاء هذا غَيْضٌ من فَيْض، ما جِئتُ به كالوشْلِ عِنْدَ اللُّجّةِ. ولو أستقصي ما عِنْدَ أبي الطيِّب من أبيات ذكرَ فيها الشمسَ لاحتجتُ إلى كتاب.

أ. د. لطفي منصور
أعلى