د. محمد عبدالله القواسمة - أين قبر أمّنا؟

كنت أزور قبرها من وقت لآخر. أعرف القبر بأنه قريب من الطريق الرئيسية في المقبرة. أميّزه من بين القبور المتواضعة، وأقرأ ما كتب عليه: " الفاتحة. هذا قبر الحاجة صفية حمدان. رحمها الله. 16/11/ 1988م". أقرأ الفاتحة، وأدعو لها بالمغفرة والرحمة، وأودعها وأنا أتذكّر ما قاسته من أجلنا، ومن أجلي خاصة، وأطلب منها أن تسامحني على شقاوتي أيام الطفولة والصبا، وأعود إلى البيت والحزن يغمرني؛ فلا أصحو منه إلا بعد مكابدة مرة.

اليوم جئت المقبرة بعد صلاة الظهر مع أخي. هالنا تغير المكان. حقول من القبور، تحيط بها المقابر الخاصة ذوات الأسوار العالية بأبوابها الحديدية المزخرفة، كأنها أبواب قصور أو فيلات حديثة، تعلوها كتابات بالخطوط كبيرة الحجم، تُفصح عن أصحابها؛ "مقبرة آل فلان"، و"مقبرة عائلة فلان". والقبور كلها تحتضنها أشجار الزينون، وبعض القبور قد تهدمت شواهدها، وبُعثرت مصاطبها بتأثير الزمن والريح والمطر. ولاحظنا خزانات ضخمة من الماء عند كثير من القبور. بدت المقبرة كأنها مزرعة زيتون خصبة، أو ضاحية هادئة من ضواحي المدن التي هجرها أهلها.

أوقف أخي السيارة على جانب الطريق، تحت شجرة كينا وارفة. ترجلنا من السيارة ونحن نتلفت في المكان، فقد أحيط بأسوار المقابر الخاصة. اتجهنا نحو القبر. سألت أخي إن كنا في الاتجاه الصحيح. أجابني بأنه يعرف القبر معرفة أكيدة، فهو في الصف الرابع من القبور التي في ذلك الموضع، وأنه جدد الكتابة على الشاهد منذ مدة قليلة، بل وكتب اسم المرحومة على أحد جانبي القبر.

لم نجد قبر أمنا. ذهب كل منا في ناحية يبحث عنه بين القبور. أعيانا البحث. الكتابات باهتة على الشواهد، ولا تكاد تبين على جوانب كثير من القبور.

لا بد من معرفة قبر أمنا. أين ذهب؟ هل اختفى بين هذه التغيرات التي طرأت على المقبرة؟ هل امتدت مقبرة خاصة على قبر أمنا وابتلعته. ما العمل حتى نجد القبر؟ اقترح أخي أن نذهب إلى المسؤولين في المقبرة؛ فعندهم الخبر اليقين والقدرة على مساعدتنا. انتبه إلينا صاحب كشك على مدخل المقبرة يبيع المياه والمشروبات، وقال ليس لكم إلا جمال إنه جوجل المقبرة يعرف القبر حتى لو كان في أواخر السبعينيات من القرن الماضي. نادى على جمال، وجاء وهو يبتسم، كأنه وقع على كنز ثمين.

زودنا جوجل باسم أمنا، وعدنا معه إلى القبور. بدأت الشمس تتهيأ للمغيب، ويئس جوجل من العثور على القبر. ونصح برؤية عبد اللطيف المسؤول عن المقبرة؛ فربما عنده الحل لهذا الضياع.

دخلنا مكتب عبد اللطيف. شاب نحيل متهالك رغم اقترابه من الأربعين، خلفه خزائن فيها سجلات الموتى. أعلمنا أن في السجلات التي خلفه أرشيفًا لمن مات بعد عام 2012 أما من مات قبل ذلك فلا يعلم أين قبره إلا أقاربه وأهله. وحين أظهر أخي الخوف أن يكون القبر قد أزيل، وضمت أرضه إلى إحدى المقابر الخاصة، احتد الرجل، وقال إنه يعمل في المقبرة منذ خمسة عشر عامًا، ولم يعتد أحد على قبر لا بنبش ولا بالإزالة؛ فللقبور حرمة لا أحد يجرؤ على انتهاكها.

هكذا فشلنا في العثور على قبر أمنا. تلونا الفاتحة على روحها وعلى أرواح من في المقبرة، وعدنا أدراجنا وفي عقل كل منا تصطرع التساؤلات والأفكار:

ما جرى لهذه المقبرة؟ هل وصلت إلى ساكنيها قيم السوق؛ فتحول جزء كبير من أرضها إلى مقابر خاصة مزودة بالماء والأضواء والكاميرات الخفية، وترك الجزء الآخر لتغيب قبوره المتواضعة بين الأشواك وأشجار الزيتون؟ إنها صورة لما صارت إليه المناطق المسكونة في المدن والأرياف والمخيمات ففيها القصور، وفيها بيوت التنك والصفيح والمنازل المتهالكة. إنها حياة الأموات الجديدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى