أ. د. سعيد شوقي - معلقة امرئ القيس قراءة تفكيكية تأويلية (1)

1-
توطئة :
ظل الإخلاص العلمي قائما ؛ لمقاربة النصوص العربية القديمة بمناهج غربية حديثة ؛ لمزيد من الاستيعاب المعرفي ، والتوسع النقدي ، والسبر الدلالي ، والكشف الجمالي ( ) . واستمرت المحاولات حثيثة ؛ لفعل الهدف نفسه ؛ فكانت هذه الدراسة .
وكما يتبدى في عنوان البحث ؛ فإن ثمة مصطلحات نقدية وأدبية أربعة ؛ ثلاثة منها نقدية : القراءة والتفكيك والتأويل ؛ ترهص بالمنهجية المرصودة ؛ لمقاربة مادة الدراسة . بالإضافة إلى رابع أدبي : المعلقة ؛ مضاف إلى صاحبها امرئ القيس ، بما يوضح النسب التطبيقي المبتغى .
ويسوغ التأويل تقدم القراءة في عنوان البحث ، وكذلك التفكيك ، إذ لا تأويل نص لمتلق – بلا قراءة ، ولا تفكيك ؛ مثلما يسوغ وجود التأويل في نهايته ، فلا وجود لتأويل حق بلا قراءة ، ولا تفكيك ، كما سيبين هذا في قابل البحث .
والحق أن منهج الدراسة في القراءة والتفكيك والتأويل ، الذي فضلناه ، ونصها الجاهلي الذي اصطفيناه ، كلاهما قد اختار الآخر ، وجذبه إليه ؛ فمعلقة امرئ القيس لم تستقم مفرداتها لنا في الفهم والاستيعاب مع أي منهج نقدي حديث آخر ، إلا بعد تتبعنا لهذا المنهج .
وحقيقة ، لقد أجهدنا هذا المنهج كثيرا ، في فهمه واستيعابه النظري ؛ لأن جل مفاهيمه ، ومقولاته فلسفية ، جدلية ، تنظيرية ، تتسم بالتجريد ، وبقلة النصوص التطبيقية . كذلك أجهدنا ضفر مفردات معلقة امرئ القيس المتنوعة ، والمتباعدة ، والمتشاكلة ، في خط تأويلي واحد . وكم صحبنا النص وصاحبه ؛ تخيلا بالمعيشة لأيام وأسابيع وشهور ؛ حتى اتسق لنا تأويل مفرداته ، وجمع تنوع موضوعاته ، في قراءة رابطة ، متسقة ، كما سيبين .
1-1
مادة البحث :
سوف نسوق الحديث عن مادة البحث مقدما ، قبل تفصيل منهجيته فيما بعد ؛ ليس تطبيقا لغلبة عادة البحوث العلمية في فعل ذلك ؛ وإنما لتبيان كيف سوغت مادة البحث منهجيته ، كما ألمحنا ؛ الفعل الذي نشترط ممارسته عندما توضع النصوص على محك خيارات المناهج .
تتمثل مادة هذا البحث في معلقة امرئ القيس الشهيرة :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ *** بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
ولقد اخترنا نص المعلقة المثبت في ديوان امرئ القيس ، وملحقاته بشرح أبي سعيد السكري المتوفى (275هـ) ، بدراسة وتحقيق : د. أنور عليان أبو سليم ، ود. محمد علي الشوابكة ، المجلد الأول ، إصدار : مركز زايد للتراث والتاريخ ، الطبعة الأولى ، 2000م . وتم اختيار هذا الثبت لأبي سعيد السكري ، دون غيره من أثبات دواوين امرئ القيس المطبوعة والمحققة ؛ لأن أبا سعيد السكري جمع في شرحه " روايات العلماء من القرنين : الثاني والثالث الهجريين ؛ كأبي عمرو بن العلاء (154هـ) ، وحماد الراوية (156هـ) ، والمفضل الضبي (178هـ) ، ويونس بن حبيب (182هـ) ، وهشام الكلبي (206هـ) ، وأبي عمرو الشيباني (206هـ) ، وأبي عبيدة (206هـ) ، والأصمعي (216هـ) ، وابن الأعرابي (230هـ) ، وأبي نصر (231هـ) ، ومحمد بن حبيب (245هـ) ، وابن السكيت (245هـ) ، والزيادي (249هـ) ، والأحول (250هـ) ، وأبي حاتم السجستاني (255هـ) ، والرياشي (257هـ) " ( ) ؛ ولأن المحققين لثبته أنجزاه برواية المفضل الضبي من نسخة الطوسي ، مما لم يرو أبو سعيد السكري ، وأضافا إليه أيضا زيادات نسختي ابن النحاس وأبي سهل ( ) ؛ الشأن الذي جعل د. حسن محمد النابودة ، ونتفق معه ، يصف هذا الثبت بأنه " أهم شرح لديوان امرئ القيس؛ سعة وشمولا ؛ ودقة وعناية ، يكشف ما يكتنف معاني الديوان من غموض ، ويلقي أضواء على الظلمات التي نسجتها القرون المتطاولة أستارا كثيفة على شاعر العرب الأول " ( ) .
وغني عن القول أن امرأ القيس صاحب مادة هذا البحث ، علم ربما لا يحتاج إلى مزيد تخريج في القديم والحديث ( ) ، وكذلك جدارة شعرية مادة البحث التي هي المعلقة ، مكانة ربما لا يعوزها إسهاب إثبات ، في القديم والحديث أيضا ؛ لكن الأمر الذي يحتاج حقا إلى طرح إسهاب ، هو السؤال : لماذا كانت معلقة امرئ القيس دون غيرها من المعلقات الجاهلية، هي صاحبة الامتياز في هذا البحث ؟
ولا أحب أن تكون الإجابة متصدرة بالمكانة التقليدية لشعر امرئ القيس في الأقدمين والمحدثين ، كما ألمحت ، ولا مردفة بالزخم النقدي البارز لغزارة دلالاته في الأقدمين والمحدثين أيضا ، وإن كان الأمر كذلك ، وإنما حقيقة الإجابة حقا ، تتعلق بطريقة تلقيي لمفردات معلقة امرئ القيس عبر شروح الأقدمين ، وتحليلات المحدثين ، حيت بدت مفردات معلقته ؛ بعيدة عما أشعر به من راحة استيعاب تلق لمفردات المعلقة المتنوعة في أفق ضام ، ومن ثم كان مولد هذا البحث .
فالمعلقة تبني عضويا على نقلات فهم ، تشكلها المفردات الآتية : الشاعر ، وصاحباه ، والتوقف ، والبكاء ، والدموع ، والرسم الذي لم يعف ، والرسم الدارس ، والمغامرات : ( أم الحويرث ، وأم الرباب ، وعنيزة ، وفاطمة ، ويوم منهن صالح ، ويوم بدارة جلجل ، ويوم عقرت للعذارى مطيتي ، ويوم دخلت الخدر ، ويوم على ظهر الكثيب ، ومأسل ، ودارة جلجل ) - والهموم - وقربة أقوام - والذئب - والفرس - والهاديات : ( النعاج – والثيران – والسباع ) - وصاحباه - والبرق – والسيول - ومكاكي الجواء – والسباع .
وقد كان سؤالي دوما : ما الخيط الرابط بين تفرق كل هذه المفردات في المعلقة ؟ ما الذي يربط الشاعر ، بصاحبيه ، والتوقف ، والبكاء ، والدموع ، والرسم الذي لم يعف ، والرسم الدارس ، والمغامرات ، والهموم ، وقربة الأقوام ، والذئب ، والفرس ، والنعاج ، والثيران ، والسباع ، والبرق ، والسيول ، ومكاكي الجواء ، والسباع ؟ ولقد بدا أمامي في التماس هذا الخيط ، الطريقان الشهيران في المعرفة الشعرية ، وهما : شروح القدامى ، وكتابات المحدثين ، ومن ثم توجهت صوبهما ، فبدا مردودهما كما يلي .
1-2
شروح القدامى :
تمثلت الآفة التي لحقت بشروح الشعر الجاهلي في الأغلب الأعم ، في أمرين : الأول ، وهو النظر إلى القصيدة الجاهلية من خلال وحدة البيت ، والثاني ، وهو البحث عن المعنى الظاهر للنص من خلال شرح ظاهره ؛ الوضع الذي أخفى نقديا من محيط الشعر الجاهلي ، اتجاه الوحدة في الانفعال والطبع ، رغم وجودهما فيه إبداعيا ( ) .
الأول ، يذهب – فيما يقول قدامة بن جعفر - " إلى أن المعنى الواحد ينبغي أن يكون على قدر البيت الواحد ، فلو امتد إلى بيت ثان ، كان ذلك عيبا من عيوب الشعر ، سماه المبتور ، وضرب لذلك أمثلة ، منها قول عروة بن الورد :
فَلَو كاليَومِ كَانَ عَلَىَّ أمْرِي *** ومَنْ لكَ بالتَّدَبُّرِ في الأُمُورِ
فهذا البيت ليس قائما بنفسه في المعنى ، ولكنه أتى بالبيت الثاني بتمامه ، فقال :
إذا لَمَلَكْتُ عِصْمَةَ أُمِّ وَهْبٍ *** علَى مَا كَانَ مِنْ حَسَكِ الصُّدُورِ ( )
وسمى الصولي هذا النوع من الارتباط باسم المضمن ( ) ، وسماه أبو هلال ( ) ، وابن رشيق ( ) التضمين .
وترتب على هذا ، أن النقاد العرب تأثروا بوحدة البيت في اعتباراتهم لبنية القصيدة ، ولم يتصوروا أن وحدة الشعور هي التي ينبغي أن تتحكم في هذه البنية ( ) . كذلك فإن تحليلاتهم " تكاد تكون خالية من الروح التحليلية للقصيدة العربية كوحدة فنية قائمة بذاتها " ( ) ، " فالناقد يبحث عن بيت القصيد ، والبيت الذي يجري مجرى المثل ، الذي يبلغ الذروة بلاغة وسبكا ومعنى ، ويفضلون القصيدة التي بها جملة من عيون الأبيات على تلك التي تخلو منها ، وإن جمعت من الترابط ووحدة الموضوع وفنية العرض القدر الكبير " ( ) .
هذا ، وبرغم ما وُجد في التراث من إشارات لوحدة القصيدة ، مثل تلك التي وردت عند ابن طباطبا ( ) ، ووردت عند الحاتمي ( ) ، ووردت عند المرزوقي في قوله عن عمود الشعر من أنه يكون من أقسامه " التحام أجزاء النظم والتئامها " ( ) ؛ إلا أنهم كانوا " يقصدون بذلك الانتقال من كل جزء من أجزاء القصيدة التقليدية إلى الجزء الآخر على نحو جيد ، على حسب ما جرت به تقاليد القصيدة العربية منذ الجاهلية " ( ) ، وليس حسب المفهوم الحديث للوحدة ، التي تعني أن كل عمل فني كامل في حد ذاته ، فلو أضفنا إليه شيئا، أو حذفنا منه جزءا ، تكون النتيجة إما انهيار العمل كلية ، أو خلق عمل جديد ( ) .
والثاني ، يذهب - فيما يرى د. حميد لحمداني – إلى " فكرة التقاط مضمون الرسالة من النص ؛ اعتقادا بأن هناك دائما مضامين ثابتة ، وحقائق نهائية بخصوص المعاني النصية ، وما على الناقد أو الشارح إلا استخراج هذه المضامين من السطح الظاهري للغة ، تماما كما كانوا يفعلون مع السطح الظاهري للغة في النصوص الدينية ( ) .
وإذا كان هذا الفعل قد يصح قسرا مع النصوص الدينية ، فإنه لا شك لا يصح طوعا مع النصوص الأدبية ، فلقد ترتب على ذلك أن بدا النص الشعري مشروحا من ظاهره كلغة الحياة العادية ، لا الأدبية ، دون تعمق في مسيل عمقه .
وللنظر في بيت من أبيات امرئ القيس ، كما جاء في شرح الديوان ؛ لنوضح الأمر ، وليكن بيته الأشهر:
ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ مُلْقٍ سُدُولَهُ *** عَلَيَّ بأَنْوَاعِ الهُمُومِ لِيَبْتَلِي
" يقول : أظلم وأرخى من ظلمته حتى كأنه موج البحر إذا حلَّت ظلمته ، وسدوله : ستوره ، الواحد : سدل ، ويقال : سدل ثوبه يسدله : إذا أرخاه ولم يضمه ، قال : وكانوا يكرهون السدل في الصلاة . وقوله : بأنواع الهموم ؛ أي بضروب الهموم ، ليبتلي : لينظر ما عندي من الصبر والجذع . قال : وهذا مثل قوله : لتبلون مني هذه الفلاة صبرا عليها كموج البحر؛ في كثافة ظلمته " ( ) .
وكما يتضح من الشرح ، وغيره من الشروح المطردة بالكيفية ذاتها لأبيات المعلقة في شرح الديوان ؛ فإن شراح الشعر القدماء ، كما يرى د. أحمد جمال العمري ، ونتفق معه " داروا حول محور واحد لم يحيدوا عنه ... لقد فهموا أن الشرح ما هو إلا تلخيص موجز للمعنى ... وأنه يتحتم عليهم تفسير كل ما في النص ، من لغة أو نحو أو أخبار أو بلاغة ؛ لذلك جاءت شروحهم في معظمها ، وقد غلب عليها لون أو أكثر من هذه الألوان ... كانوا يعرضون الشعر ويشرحونه كعامل مساعد لتوضيح علوم أخرى ، كالنحو واللغة ، وكان هذان العلمان يدرسان لأجل القرآن الكريم والحديث الشريف ... وكان لذلك أثره الواضح في هذا التراث التفسيري الجم ، حتى لقد أصبح من التجاوز في التعبير أن نسمي مجموعة الشروح القديمة شروحا أدبية " ( ) .
1-3
كتابات المحدثين :
لم تتبد في كتابات المحدثين دراسة تأويلية كاملة لكل مفردات المعلقة و"ثيماتها"، وما وجدناه من دراسات يندرج تحت نوعين :
الأول : يقتطع بيتا أو بيتين أو أكثر من المعلقة ، يمثل في نظر صاحبه وحدة معنوية مستقلة في المعلقة ، يدرجها صاحبها ضمن مشروعه التأويلي ، أيا كان نوعه التأويلي ؛ جماليا كان أو أسطوريا . ويمثل هذا بامتياز د. مصطفى ناصف في جل ما كتب ، ولنقتبس مثلا فيما قدمه في كتابه : قراءة ثانية لشعرنا القديم ، في تأويله لفرس امرئ القيس بأنه أشبه بالجهد الذي يبذل لإنزال المطر ، يقول: " ولو تصورنا فرس امرئ القيس غير مقترن بهذه الفكرة ؛ لما عرفنا بسهولة كيف أعجب المتقدمون به ؛ فإنزال المطر هو في الواقع جهد إنساني مبذول بحيث لا يقف الإنسان مكتوف اليدين ، أو مسلوب النشاط ينتظر المطر في لحظات مفاجئة لم تخطر له على بال " ( ) .
الثاني : يأخذ "ثيمة" من "ثيمات" المعلقة ويوسعها تأويلا دون غيرها من "ثيمات" ، أيا كان نوعه التأويلي أيضا ؛ جماليا كان أو أسطوريا ، ويمثل هذا عامر الحلواني في بحثه : شعرية العلامة المائية في معلقة امرئ القيس ، حين أخذ – كما يبدو من العنوان – "ثيمة" الماء موضوعا لدراسته . وكما بدا من نتائج تحليله أن شعرية المعلقة " مدارها على الفيض المعنوي لصورة الماء ، وتراسلها اللفظي والدلالي ؛ باعتبارها المدخل الأساس إلى فهم الوجود وتمثله ، من خلال فكرة الصراع القائمة على اجتماع المتناقضات وتفاعلها ، والمجسدة ثنائية الموت والانبعاث " ( ) .
وكما بدا في الاتجاهين ، فإن أيا منهما لم يربط كل مفردات المعلقة و"ثيماتها" ، في خيط منهجي واحد ، يمكن أن يستوعبها كلية في تعالق لغوي كلي ، يدور بها ومعها ، في دلالة متسقة ؛ ومن ثم بدا الأمر مقلقا بالنسبة لي في تفهم المعلقة ، حتى التقيت بالتأويل ؛ فوجدته مناسبا تماما ؛ لربط تشرزم تفرقها اللغوي و"الثيمي" والدلالي في خيط دلالي واحد ، كما بينت ، وكما سيبين .
2-
سؤال التأويل :
قد لا يجد التأويل حظه العظيم في العمل على النصوص الأدبية في محيطنا العربي ، في القديم والحديث ، لأسباب غير فنية ، شكل جلها الخوف من زيغ التأويل للنصوص الدينية ، التي لا يعلم تأويلها إلا الله ، ومن ثم تحمل كارها عن زيغ غيره عبء صنيعه . وقد لا يجد نصيبه من الشهرة ، وسط زمرته من المناهج النقدية الحديثة ، التي أخذت صيتها كاملا ، وسارت في الآفاق ؛ لسمة فنية فيها ، جعلتها تصب فورة عملها على المعنى ، في الوقت الذي تعتمد فيه المناهج الأخرى ، على إقصاء المعنى : كاللسانيات ، والمناهج الوصفية ، وأدبية الأدب ، والشكلية الروسية ، والبنيوية الشكلية . وقد يتهم بأنه لا يمتلك أرضية خاصة به ، وأنه يتابع المعنى ويدركه حيثما حل بلا إجراءات محددة ( ) . وقد يتوه عند من يقدره وينتصر له ما بين سمات نفسية ، أو اجتماعية ، أو تاريخية ، أو لاهوتية ، أو قانونية ، أو جمالية . وقد لا ينهض بنفسه عند تأويل أي نص أدبي دون مؤازرة مكوكية من علوم ونظريات ومناهج أخرى ، كالبلاغة ، والسميائيات ، والتفكيكية ، ونظرية التلقي . وقد لا تبين مصطلحات فهمه دون ترسيم حدودها ، كالمتداخل فهما فيه بين التفسير ، والتأويل . وقد تتوزع بين مقاصد ثلاثة : مقصد النص ، ومقصد المؤلف ، ومقصد المؤول أو القارئ . وقد يتشاجر بسببه ما بين فهم حرفي لبناء سطح النص ، وكهوف غائرة في تلافيفه البينية العميقة . وقد يختلف فيمن يقاربه بين كونه مثاليا خارقا للعادة أو غير ذلك . وقد يشكك في طرحه الأخير ما بين القطع باليقين المفرط أو الاحتمال الممكن . قد يقترف ذلك كله ؛ لكن المؤكد أنه لم يعد ملقى على الهامش النقدي المنهجي يلعب دور الفقير القريب ( ) ، بل شرع يزاحم متن المقاربات النقدية : النظرية والتطبيقية ، بتقدم واضح على الصعيد الغربي أو خافت على الصعيد العربي . الأمر الذي لفت نظرنا إليه ضمن منظومة المناهج النقدية الحديثة ، وأوضح لنا إمكاناته الكامنة بالقوة Potentially في مقاربة نوعية معينة من النصوص ، لا شك أن معلقة امرئ القيس تنتمي إليها باقتدار ، كما أشرنا ؛ لذا سينصب صنيعنا على تحويل تلك القوى الكامنة فيه إلى قوة فعلية Actually ، تنسغ فعلها في فعل قراءة لنص معلقة امرئ القيس .
2-1
وللتأويل مثل معظم العلوم الحديثة تراث ذاخر بالمصطلحات والمقولات والمفاهيم والإجراءات ، ينبسط طولا من اليونان إلى عصرنا الحاضر ، ويتسع عرضا من النصوص الدينية إلى الأدبية ، ويمتد عمقا من كشف أسطح الدلالة إلى سبر أعماقها ، ومن خلال التداخل والتقاطع بين الطول والعرض والعمق يتشكل مفهومه .
وحقيقة لا طائل لهذا البحث من سوق كل ما نوقش عن التأويل ؛ مصطلحات ومقولات وماهيات وإجراءات ، في تطاولها وتعارضها وتقاطعها عبر أزمنتها المختلفة ، ونصوصها المتعددة ، ودلالاتها المتنوعة ( ) ؛ اختزالا لصفحاته المحددة افتراضيا في عروض النشر ؛ وتركيزا على ما يحتاجه البحث من تنظير واضح ومركز على مفهومه ؛ يفيد بشكل مباشر وعملي في الممارسة التطبيقية ؛ وبناء على ذلك ؛ فإن ما سنسوقه من فهم مجرد للتأويل ، هو ما نظن أنه يخدم عرضنا التأويلي لمعلقة امرئ القيس ؛ دون غيره .
2-2
حين تبدى مصطلح التأويل في فضائنا العربي الحديث ، بدا ترجمة للمصطلح الأجنبي الهيرمنيوطيقا " Hermeneutics " ، بطريقة الـTransliteration ؛ محتفظا باجتهاد نطقه الأجنبي بحرف عربي : هيرمنيوطيقا ( ) – هرمنوتيك ( ) - هرمنيوتك ( ) ، ثم شق طريقه عبر الـ Translation بنطق ولفظ عربيين : التأويل ( ) – نظرية التأويل ( ) – فن التأويل( ) - فلسفة التأويل ( ) - التأويلية ( ) ؛ الأمر الذي ربط لفظ الهرمنيوطيقا " Hermeneutics " بلفظ التأويل، وربط لفظ التأويل بلفظ الهيرمنيوطيقا " Hermeneutics " ، وكأنهما من المشترك اللفظي ، الذي يجعل استبدال أحدهما بالآخر أمرا ممكنا .
والحق أن لفظ التأويل لم يتضح ارتباطه بالهيرمنيوطيقا جليا وخالصا ، إلا بعد رحلة طويلة من فك اشتباكات مصطلحات أخرى معها . فلقد اشتركت الهيرمنيوطيقا في تاريخها الطويل لفظيا ومعنويا ، مع معان ثلاثة ، هي : التلاوة والترجمة والتفسير ( ) . إذ لا تخلو المصطلحات الثلاثة السابقة من بعد هيرمنيوطيقي ، أهَّلَهَا لفعل ذلك ؛ فالتلاوة كان لها ببعدها التنويعي في الأداء ملمح تأويلي غير موجود في النص المكتوب ( ) ، والترجمة عانت المشاكل التأويلية نفسها عند نقلها لنص ما من لغة إلى أخرى بالطريقة نفسها التي يعانيها المؤول في نقل معنى نص ما إلى القارئ ( ) ، والتفسير شكل من أشكال التأويل بما يقوم به الذهن من وضع عبارات تتصل بصدق شيء ما أو بكذبه ( ) ، كما سيُفصل .
ومع التحديث عبر العصور سعت الهيرمنيوطيقا جاهدة ، أن تخلص نفسها من المعاني الثلاثة السابقة ، وتجعل لفظ التأويل خالصا لوجهها . وقد تم لها ذلك إلى حد بعيد ، فلقد تخلصت من معنى التلاوة ، محتفظة في ممارسة عملها عليه باسمها وشرطها ، وفعلت الفعل نفسه مع الترجمة ، وإن كانت ما تزال مرتبطة بها في بنية الإشكالات المتبادلة في عمليهما التواصلي ( ) ، وفي التفسير بدا الانفصال صعبا ؛ للتوافق الطويل بين بعض عمليهما بصفة عامة لأزمنة طويلة ؛ ولالتصاق بعضهم ببعض في العمل على النصوص الدينية ؛ ولتبادل التسمية بينهما في أحايين كثيرة على نصوص خاصة بهما ؛ ولتساوي معنى الجذر اللغوي الأجنبي لهما ، سواء في جذر الهيرمنيوطيقا " Hermeneus " ، الذي يعني : " المفسر " ( ) ، أو في جذر التفسير " Exegeisthai " ، الذي هو : تفسير أو شرح النص ( ) ، ليس هذا فقط، ولكن في الجذر اللغوي العربي أيضا ، فالتأويل يلتبس بالتفسير ، والتفسير يلتبس بالتأويل في الجذر : أوَّل : " وأَوَّله وتَأَوَّله : فَسَّره " ( ) .
ولقد حاول الشريف الجرجاني ، الفصل بين المصطلحين بطريقة مبسطة في تراثنا العربي في كتابه التعريفات ، إذ يبين أن التأويل : " هو صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى يحتمله ، إذا كان المحتمل الذي يراه مما يوافق الكتاب والسنة " ( ) ... أما التفسير : فهو توضيح معنى الآية وشأنها وقصتها ، والسبب الذي نزلت فيه بلفظ يدل عليه ظاهره ( )، ويضرب مثلا للفارق بين الكلمتين بقوله تعالي " يخرج الحي من الميت " ( ) ، ويقول : " فإذا أريد إخراج الطير وهو حي من البيضة وهي ميت فهذا تفسير ، أما إذا أريد به إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل فهذا تأويل " ( ) .
وحقيقة فإن الفصل بينهما بهذه البساطة ، يمكن أن يتم على مستوى الدرس والتعريف ، أما على مستوى واقع الممارسة ؛ فإن التفسير قابع في التأويل ، وضرورة من ضروراته ، وخطوة من خطواته ؛ فإذا كان أهم ما يتميز به التفسير، واتضح من تعريفات ما سبق ، هو أنه يمارس عمله " داخل أفق من المعاني والمقاصد المُلَم بها أصلا . وهو ما يسمى في مجال الهيرمنيوطيقا " الفهم المسبق " Pre - understanding " ( ) ؛ فإن هذا الفهم المسبق ، الذي هو التفسير، يعد في ممارسة عمل الهيرمنيوطيقا ، الخطوة الأولى في قدمها صوب النص ، إذ لا بد للهيرمنيوطيقا حين تمارس عملها أن يتم لها " توافر قدر معين من الفهم المسبق للموضوع ، وإلا فلن يحدث تواصل على الإطلاق " ( ) .
إن الهيرمنيوطيقا " Hermeneutics " تتميز عن التفسير " Exegesis " في كونها منهج هذا التفسير وأصوله وأحكامه ، فإذا كان التفسير وقفا على الشرح أو التعليق الفعلي ، فإن الهيرمنيوطيقا هي قواعد هذا التفسير أو مناهجه أو النظرية التي تحكمه ( ) .
التفسير إذا شرح وتعليق ، والهيرمنيوطيقا دفة التحريك المنهجية التي تقود هذا الشرح وهذا التعليق ، مثلما تقود غيره من آليات تكنيكات أخرى ، مثل التحليل والتفنيد والبرهنة والإحصاء ، إلخ ؛ بغية إنجاز عملها .
من هنا وُضع التفسير في موضعه في مقاربة النص بالطريقة التي تستقيم لذاته ، ووُضع التأويل في موضعه الأصوب في أفق الهيرمنيوطيقا . على أن ثمة تمايزا طفيفا بين التأويل والهيرمنيوطيقا يتمثل في الفارق بين آليات العمل ومُنتَجَه ، إذ اختصت الهيرمنيوطيقا بآليات العمل ، بينما اختص التأويل بمنتجه . فالمنتج هو التأويل ، وآليات العمل هي الهيرمنيوطيقا ، وإن كان الفصل بينهما بحدة ، غير موجود على أرض الممارسة ؛ لطبيعة الجدلية القائمة بين الآليات والمنتج فيهما ، إذ المنتج الهيرمنيوطيقي يأخذ سمته من طبيعة الآليات ؛ وعلى ذلك بدت تعريفات مصطلحيهما طامحة لفعل ذلك ؛ فالهيرمنيوطيقا ، هي : " نظرية التأويل وممارسته"( )، وهي التي تهتم " بتكوين الإجراءات والمبادئ المستخدمة في الوصول إلى معاني النصوص " ( ) ، والتأويل هو : المعاني اللغوية المحددة في العمل الأدبي ( ) ، أو هو بعبارة أخرى : مرامي العمل الفني ومقاصده الموضحة ككل باستخدام وسيلة اللغة ( ) .
وبهذا الفارق يكون اللفظ الأنسب لترجمة الهيرمنيوطيقا إلى العربية – في نظرنا - هو: التأويلية ؛ ليعبر عن معنى مصطلحه في ممارسة آليات التأويل على النص ، بغية الكشف عن تأويله ، تماما مثل الأسلوبية التي تكشف عن الأسلوب ، والشكلية التي تكشف عن الشكل ، والبنيوية التي تكشف عن البنية ، وإن كان المكشوف عنه محددا سلفا في بنية النص فيما ذكرت بنسبة كبيرة ؛ فإن الحال في تأويل التأويلية غير ذلك ؛ لأن التأويلية في كل عملية جديدة للنص ذاته تكتشف معنى تأويليا جديدا ، وهذا مرتكز أساسي في عمل التأويلية .
3-
سؤال القراءة والتفكيك :
( في الجزء القادم )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى