د. محمد عبدالله القواسمة - الرواية وطوفان الأقصى

ما حدث في اليوم السابع من تشرين أول(أكتوبر) هذا العام عندما انطلق من غزة المقاومون العرب الفلسطينيون لأول مرة في التاريخ العربي، وهاجموا بإمكاناتهم البسيطة، وآلاتهم المصنوع بعضها محليًا الجيش الإسرائيلي، الذي كان يصف نفسه بأنه الجيش الذي لا يقهر، والجيش الذي ينبغي أن تخضع له شعوب المنطقة، وألحقوا به في معركة أطلقوا عليها "طوفان الأقصى" هزيمة نكراء، وألزموه أن يهرب إلى الملاجئ المحصنة، وأسروا كثيرين من جنوده وضباطه.

ولكنه بعد هذه الهزيمة، وقد اعتاد على الغطرسة في معظم المعارك التي خاضها، يُجن جنونه فيجمع قوته، ويستعين بقوى أخرى أكثر منه شرًا وعدوانًا، ويضرب في كل اتجاه، ويمنع الماء، ويقطع الكهرباء عن قطاع غزة بأكمله، ويهدم المنازل والمستشفيات، ويمسح بعض الأحياء عن الأرض مسحًا تامًا؛ ليكسر شوكة المقاومين، ويروي ظمأه للانتقام.

لقد زودت هذه الحرب وما جرى فيها من بطولات وتضحيات الأدباء والروائيين خاصة بموضوع تجسد على أرض الواقع، وهو: كيف يفجر الظلم واستمراره طاقات الإنسان وإبداعاته ليواجه عدوه، وكيف تهزم القلة صاحبة الحق الكثرة الباغية، وكيف تتفوق الأسلحة المتواضعة على الأسلحة المتطورة الفتاكة من مدرعات، وطائرات، ودبابات، وكيف يتولد من القمع والجوع والحصار قوة تجرف كل السيول في طريقها.

لقد تكوّن للأدباء العرب ومؤرخيهم موضوع مهم جدير بأن يُحيكوا منه الروايات، ويؤلفوا فيه الكتب، ويتغنوا به؛ لتخليد هذا الصمود الأسطوري والتضحيات التي قُدمت من شعب لا يكره أحدًا، ولكنه يحب وطنه، وعلى استعداد أن يفتديه بكل شيء.

ولعل الروائيين أقدر من غيرهم على تخليد هذا الحدث؛ لأن الرواية فن المجتمع بلا ريب، وتستطيع أن تعرض الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأي مجتمع أو جماعة أو طبقة عرضًا حيًا، كما فعل تولستوي في روايته "الحرب والسلم" عندما عرض أحوال روسيا في أيام غزو نابليون لها عام 1812م، وكما قدم هوجو أحوال فرنسا في القرن التاسع عشر من ضمنها حروب نابليون أيضًا في رواية "البؤساء"، وكما عبر نجيب محفوظ في كثير من رواياته عما جرى بعد نكسة حزيران، وعادل الأسطة عن واقع المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية بعد الاحتلال الإسرائيلي في روايته" ليل الضفة الطويل"، وقبلهما ما كتبه غسان كنفاني من روايات عن نكبة فلسطين عام1948م.

ومما يسهل على الروائيين تناول هذه الحرب "طوفان الأقصى" توافر عناصر فن الرواية فيها من أحداث، وصراع، وشخصيات، ومكان، وزمان. فالأحداث عظيمة تتمحور حول حدث عظيم، وهو مباغتة عدو شرس. والصراع واضح بين الخير والشر والحق والباطل يفجر عواطف وأشجان بما يسببه من فقد وموت، والشخصيات نموذجية في التضحية، والفداء، والصبر، والتجمل. والمكان مقدس يستحق الدفاع عنه. والزمن هو زمن النضال، والدفاع عن المقدسات، وكرامة الإنسان، والمحافظة على الأرض والناس من التهجير والفناء.

لا شك أن موضوع هذه الحرب جدير بالكتابة عنه وتقديمه حيًا للأجيال القادمة. فالمعروف أن الحرب في صورة عامة تظهر حال الإنسان من بؤس وحزن، وتفاؤل ويأس، وصدق ونفاق، وجبن وشجاعة. ولعل تناول ما يجري على الأرض أجدى للروائيين من الهروب إلى الماضي بتوظيف الأحداث التاريخية في رواياتهم، وأجدى من الكتابة في الموضوعات العجائبية والغرائبية فليس غير الواقع منبعًا للإبداع، الواقع الذي يواجه فيه الإنسان المظلوم عدوه القوي وينتصر عليه.

إن رابطة الكتاب الأردنيين كانت موفقة في بيانها الذي صدر عنها في دعوة المثقفين والكتاب إلى الاشتباك الفاعل، والاقتراب من هذه القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، وبيان ما يواجهه الفلسطينيون من قتل وتدمير وتهجير بسب هذه الحرب. ولعل المقصود في الدرجة الأولى من هذا النداء هم الروائيون؛ لأن ولوج الروائي هذا الموضوع يقربه من نبض الناس، ونبض الحياة، ويجعل منه شاهدًا رئيسيًا على الأحداث، وموثقًا فنيًا لها، ومثقفًا عضويًا يساهم في تقدم الإنسان، وتعزيز صموده، وتقوية عزيمته في مواجهة الطغاة والظُّلام. فإذا كان الشاعر نبي أمته الذي يدلها على طريق الصواب فإن الروائي فضلًا عن ذلك هو لذي يبرز أعمالها، ويعزز صمودها، ويقوي شوكتها، ويديم بقاءها في وجدان الناس وعقولهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى