د. أحمد الحطاب - جامعةٌ وعالمٌ عربيان يُغرِّدان خارجَ السِّرب!

باستثناء الفترة الواقعة بين القرن الثامن والقرن الثالث عشر/الرابع عشر، لا وجودَ للعالم العربي إلا على المستوى الجغرافي. إنه موجودٌ على خارطة العالم لكن يكاد لا يكون له تأثيرٌ على باقي دول العالم لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الجيوسياسي أو الجيواستراتيجي. وبقاءه يواجه تحدِّياتٍ يتزايد حجمُها ونِِطاقُها على الدوام. باستثناء الموارد الطبيعية، إذا وُجِدت، فإن نقطَ قوَّته ليست سياسية ولا اقتصادية ولا عِلمية ولا تكنولوجية…

في المجال السياسي، كل القرارات التي تسيِّر العالم تُتَّخذ خارجَ نطاقه الجغرافي، وفي غالب الأحيان، دون عِلمه.

على المستوى الاقتصادي، ناتِجُه الداخلي الخام الإجمالي produit intérieur brut ضعيفٌ بالمقارنة مع ما يُنتِجه العالمُ الغربي من ثروات وحتى مع ما تُنتِجه بلدانُ جنوب شرق آسيا.

على المستوى العلمي، العِلمُ يتمُّ إنتاجُه خارج الرقعة الجغرافية للعالم العربي، وبالأخص، يتمُّ إنتاجُه في العالم الأنجلوساكسوني. وعلى المستوى التِّكنولوجي، التكنولوجيات والبيوتكنولوجيات والنانوتكنولوجيات والذكاء الاصطناعي… مفرُّ إنتاجها يوجد خارج العالم العربي.

إن هذا الواقعَ المؤلم والمُروالذي له تداعيات على موقع العالم العربي على المستوى العالمي، يُبيِّن بوضوح أن هذا العالم العربي ليس إلا تابعٌ ممتاز أو متابعٌ للسياسات المُفكَّر فيها والمطبوخة في غيابه. كما يُبيِّن هذا الواقع أن العالمَ العربي ليس إلا مُقلِّدا ممتازا للاقتصاد الذي تتِمُّ حِياكةُ أموره خارجَ نطاقه الجغرافي، دون أن ننسى، كذلك، أن العالمَ العربي ليس إلا مستهلِكا ممتازا للعِلم والتكنولوجيا اللذان يتمُّ إناجُهما خارجَ بلدانه.

وضعٌ يُرثى له، دام ويدوم منذ تقهقر الحضارة العربية الإسلامية في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر. فترةٌ وضعت نهايةً لمُفكِّري وعلماء هذه الحضارة، ومعهم، نهاية الفكر النقدي. فترةٌ تزامنت مع هيمنة الفكر الديني الذي، في غياب الفكر النقدي، ثبَّط الإبداعَ créativité والابتكار innovation على المستويات الفلسفي، العلمي، التِّكنولوجي…

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا، على كل عقلٍ جيِّدِ التركيب وحصيفٍ وسديدٍ، هو : "لماذا بقي الوضعُ على حالِه طيلةَ الفترة الواقعة بين القرن الثالث عشر والقرن الواحد والعشرين"؟ أو، بعبارة أخرى، لماذا لم تكن 8 قرون كافية لتقويمِ هذا الوضع، وبالتالي، إرجاعُ العالم العربي إلى سكَّة التَّقدُّم والتنمية؟ في نظري، الجواب على هذا السؤال بسيطٌ للغاية.

من جهةٍ، يبدو أن التقاءَ السياسة بالدين لم يكن صائبا، بمعنى أن هذا الأخير شكَّل عائقا مهمّاً في وجه الفكر النقدي وكذلك في وجهِ كل ابتكارٍ بجميع أشكالِه. وهو الشيءُ الذي يتناقض مع مضمون القرآن الكريم الذي يدعو بني آدم إلى إعمارِ الأرض، وذلك بالاستفادة من الموارد التي سخَّرَها اللهُ سبحانه وتعالى لعبادِه. عِلما أن البشرَ لا يمكنهم إعمارُ الأرض دون أن يستعملوا ملكاتِهم الفكرية لإنتاج المعارف النظرية والتَّطبيقية!

ومن جهة أخرى، جلُّ القادة العرب يفكِّرون ولا يزالوا يفكِّرون حصريا في بقائهم في السلطة. بل أكثر من هذا، إنهم وظَّفوا الدينَ واستعانوا بفقهائه وعلمائه لضمان هذا البقاء في السلطة.

انطلاقا من هذه الاعتبارات، ليس من الغريب أن نرى، من جهة، ما يُسمَّى بالجامعة العربية، فارغةَ الروح والمضمون، ومن جهة أخرى، أن نرى قِمماً عربيةً تتحوَّل إلى أماكن للبلاغة والأبَّهة والغرور. فهل من الممكن جمعُ بلدانٍ عربية حول مصيرٍ مشتركٍ ونبيل بينما كل بلد من هذه البلدان له أجندةٌ خاصة به وله مصالحٌ ورؤى خاصة به…؟ فهل من الممكن جمعُ بلدان حول قضيةٍ نبيلةٍ بينما هذه البلدانُ لا تتحكَّم حتى في مضائرها الخاصة؟

إذن، ليس من الغريب أن الجامعة العربية وقِمَمَها لم تستطع أن تجدَ حلولا للمشاكل التي تُعرضُ عليها، سواءً كانت هذه المشاكل سياسيةً، اقتصادية، ثقافية أو اجتماعية، وذلك منذ إنشائها سنةَ 1945. إن هذه الأخيرة ليست إلا مؤسسة تهدر الأموالَ بدون جدوى، وبالأخص، قِمَمُها ليست إلا مكانا للتباهي و لعرض وحدةٍ عربية مغشوشة ومنافقة!

في كل قمة، يتمُّ ترديدُ وتكرارُ نفس المواضيع ونفس الممحاور ونفس النفاق ونفس ذرِّ الرماد على العيون ونفس الأقوال المنفوخ فيها… يتغيَّر الأشخاصُ والخطاب لا يتغيَّر، عديمُ الجدوى، منفوخٌ فيه، غير لائق… وخصوصا المشاكل التي بشأنها، العين بصيرة واليد قصيرة.

والمشاكل التي تهمُّ مباشرةً الشعوبَ العربية، فلا تُناقش أو نادرا ما تُناقش. من بين هذه المشاكل، أذكر على سبيل المثال :

-محاربة الفقر والأمية والتَّصحُّر ونذرة المياه…
-كيفية إيجاد اقتصاد مشترك جاذب ومنتِجٍ للثروات وللقيمات المضافة.
-كيفية تحسين جودة التَّعليم والتَّربية.
-كيفية تسهيل تنقُّل الأشخاص والبضائع بين مختلف بلدان الجامعة العربية.
-كيفية النهوض بالثقافة و تحويلها إلى منتج له مردودية عالية.
-كيفية ضمان واستدامة التَّكامل بين الاقتصادات العربية.
-كيفية إنشاء المقاولات وضمان وخلق مناصب الشغل…

كم أتعبوا طبلةَ tympan آذاننا بخُطبٍ فارغة، غير مجدية ومُمِلَّة! وكم أتعبوا نفسَ الآذان بشعاراتٍ لا معنى لها وعلى رأسها، شعار الوحدة العربية! علما أن هذه الأخيرة لا يمكن أن تتحقّق دون التَّفكير فيها مليا ومسبقا، أي هضمُها من طرف جميع أعضاء الجامعة واستيعاب فوائدها وتداعياتها من جميع النواحي. يبدو أن حكَّامَ العرب يريدون بناءَها فقط بالخُطبِ الرنانة، الوِجدانية والعاطفية. على أرض الواقع، لن تتحقَّقَ أبدا ما دام هناك اختلافٌ بين الأعضاء وبين طبيعة تحالُفاتِها. حكَّامنا يريدون خلقَ هذه الوحدة بالتَّمنِّيات البعيدة كل البُعد عن الواقع وعن المنطق.

حكَّامٌ لا يستفيدون من دروس الماضي ولا يكثرتون بالمستقبل! من قمة إلى أخرى، يُعيدون نفسَ الهُراء، نفس النِّفاق، نفسَ التَّباهي، نفسَ التَّظاهر بالعظمة، نفسَ البعد عن الواقع ونفسَ جمودِهم حول رؤية للعالم تتناقض مع تلك التي تتبنَّاها شعوبُهم.

و ما أختم به هذه المقالة، هو أن الجامعة العربية لم تستطع أن تُحرِّكَ القضيةَ الفلسطينيةَ ولو بقيد أُنمُلةٍ منذ أن تأسَّست سنةَ 1945 وإلى يومنا هذا. ما استطاعت وتستطيع أن تفعلَه هو تنديدُ ما تقوم به إسرائيل من عدوان على الضفة الغربية وعلى غزة، وإصدار البيانات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع. بل لم تستطع أن تجدَ حلولا لفلسطين ولا بما يقع في اليمن والسودان والعراق وسوريا وليبيا وتونس والصومال…

لوكان العالمُ العربي ومعه العالم الإسلامي قويين بما لكلمة "قوة" من معنى على جميع الأصعدة، جيوسياسيا وجيواستراتيجيا، فهل ستتجرَّأ أية جهة من جهات العالم أن تغرسَ إسرائيل في قلب العالم العربي؟ وهل ستتجرَّأ الولايات المتَّحدة وحليفاتُها الدول الغربية احتلالَ العراق؟ وهل ستستطيع الولايات المتحدة خلقَ قواعد عسكرية في العديد من البلدان العربية؟ وهل…

لك اللهُ يا وطني العربي!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى