د. محمد عبدالله القواسمة - الرواية القاتلة.. ‏

من المتعارف عليه أن الرواية شأنها شأن الأدب عامة تدافع بأسلوب فني عن القيم والمبادئ الإنسانية، وتتبنى الدفاع عن الحق، وكشف الظلم والفساد، وفضح الظالمين والمفسدين، وتهدف إلى تحرير الإنسان من كل مظاهر العبودية، وتنقية قلبه من العواطف القاسية، وعقله من الأفكار الشريرة للوصول إلى مجتمع يسوده الحب والسلام، ويتمتع أفراده بالحرية والكرامة. تلك أهم مواصفات الرواية الإنسانية التي تعارف عليها البشر منذ نشوء الرواية في القرن السابع عشر مع رواية "دون كيشوت" حتى عصرنا الحالي تقابلها الرواية القاتلة، فكما توجد هويات قاتلة لقوى الشر والظلام، مثلما يرى أمين معلوف، توجد روايات قاتلة، تتمرد على طبيعة الأدب، وتطمس دوره في حمل الهم الإنساني، ويكتبها عادة روائيون يدعون إلى القتل والسلب والنهب، وإهانة الآخرين ووصفهم بأنهم حشرات أو حيوانات بشرية، ليبرروا العنف تجاههم. مع الاحتراس أن ليس كل رواية تتحدث عن القتل رواية قاتلة؛ فلا تخلو رواية من القتل والعنف، إنما الرواية القاتلة هي التي تدعو بطرائقها الفنية والجمالية إلى القتل والتحريض عليه؛ للقضاء على قوم أو شعب أو جماعة من الناس.

تتجلى الرواية القاتلة - كما أرى - في الأنواع الآتية:

أولًا: رواية تقدم القتل بطريقة حالمة. مثل رواية "أرض قديمة جديدة: إذا أردتم فإنها ليست خرافة" 1902 لتيودور هرتزل مؤسس الصهيونية، والأب الروحي للدولة اليهودية. وهي رواية، كما يظهر من عنوانها الرئيسي والفرعي، تقوم على الحلم بإقامة دولة صهيونية على أرض فلسطين بعد تفريغها من أهلها، بالقتل والتهجير. ويتأسس هذا الحلم من خلال زيارة، بطل الرواية الصهيوني فريدريك فينبرغ وصديقه المسيحي كينجز كورت لفلسطين، ووصف أهلها بأنهم متخلفون يعيث فيهم المرض والفقر.

ثانيًا: رواية تمجد القتل، لكن بطريقة ناعمة، أي يبدو ظاهرها إنسانيًا وفي ثناياها تأييد الباطل والقتل، مثل رواية الإسرائيلي عاموس عوز "أسطورة عن الحب والظلام"2002م، وهي مذكرات شخصية، تُظهر قصة عاموس وأسرته، أو كما يصرح نفسه بأنها قصة ميلاد إسرائيل، يعرضها من خلال الأحداث التي مرت بعائلته في أثناء هروبها من وجه النازية إلى فلسطين. ويتكشف فيها موقف عوز السياسي الذي خدم في الكيوبتسات الإسرائيلية التي أقيمت على الأرض العربية؛ وهو موقف عنصري حين لا يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، ولا عن العنف الذي يمارسه بنو جلدته على الفلسطينيين.

ثالثًا: رواية تدعو إلى القتل. مثل رواية ليون أوريس "الخروج Exodus " 1958م التي صدرت بعد النكبة، وهي تصف اللاجئين الفلسطينيين في غزة بأنهم لصوص وقتلة، وعالة على الأمم المتحدة، ولا ينفع معهم إلا القوة، ويجب إبادتهم؛ فهم مثل غيرهم من العرب لا يفهمون غير لغة الإبادة. ويبدو أن ما قامت به العصابات الصهيونية من مجازر على امتداد التاريخ الفلسطيني، وما يجري الآن في غزة إثر عملية "طوفان الأقصى " ما هو إلا تنفيذ لما جاءت به رواية أوريس هذه.

كانت تلك أنواع الرواية القاتلة ونماذجها. وهي، كما تظهر للقارئ، تتوافر في الرواية التي يكتبها روائيون صهاينة، مدفوعين بنزعة عنصرية وعدوانية مبنية على حب السيطرة، وامتلاك أرض الآخرين، والرغبة في العنف والعدوان، وإشعال الحرائق في كل مكان. وإذا ما وجدت روايات تناولت الموضوع الفلسطيني لروائيين صهاينة لا تتبنى وجهة النظر الصهيونية القائمة على القتل والاستعلاء، فهي روايات كتبها أصحابها بعد أن استيقظت ضمائرهم إثر خدمتهم في الجيش الإسرائيلي وممارسة القتل ضد الفلسطينيين، كما رواية "خربة خزعة" التي تحكي عن قرية خزعة التي ترمز إلى كلّ القُرى الفلسطينيّة التي تمّ هدمها وتشريد أهلها وقتلهم على يد العصابات الصهيونيّة. وهي من أعمال الروائي الإسرائيلي يزهار سميلانسكي، فكان ضابط استخبارات في فرقة الجيش التي كلفت بتطهير القرى الفلسطينية من سكانها عام 1948م. وهو يعترف في حديث صحفيّ أنه كان ضمن الوحدات العسكرية التي كلفت بهدم البيوت وحرقها، وقتل من يُشتبه بهم من السكان، وطردِ الباقين منهم، ومنعهم من العودة إلى قراهم.

لا شك أن مثل هذه الروايات تبعث العار لدى كثير من الروائيين والأدباء، وهم يرون روايات ليست على مستوى رفيع من الأدب بمعناه الأخلاقي، أو على مستواه بمعناه العاطفي والوجداني، كما يجدون فيها نقضًا لمقولة دوستويفسكي "الجمال سينقذ العالم" فالجمال الذي ينتج عن الرواية القاتلة كما في نماذجها الصهيونية خاصة سيدمر العالم لما في تلك الرواية من دعوات إلى قتل الإنسان وهدم حياته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى