في مسلسل لوسيفر، يصوب الشيطان نظره إلى أي بشري ويسأله:
- ما هي رغبتك الحقيقية؟
تتقلص ملامح البشري ويتحدث عن رغبته، رغبته المكبوتة، كحب امرأة أو قتل شخص ما.
الرغبة هنا رغبة جزئية، إذ أنها لا تعني سوى أهداف مؤقتة في الحياة. ولكنها ليست أهدافاً شمولية، لا تعني مشروعاً وجودياً. والحق يقال أنني كلما سألت نفسي هذا السؤال حرت جواباً، ليس لأنني لا أملك مشروعاً وجودياً، ولكن لأنني أسال عن حقيقة هذا المشروع الوجودي، في وجود ينتهي بالموت. وإن كانت عبثية كامو وبيكيت ويونسكو وآدموف وغيرهم منذ الكلبيين لم تطرح إجابة عميقة بعمق السؤال، فإن تجاهل هذا السؤال يكون منطقياً، وسيستتبع ذلك تجاهل فكرة الهدف الكلي أو المشروع الوجودي، أو حتى تمييز الرغبة لكل من الراغب والمرغوب، ومسألة التوق، وعدم التملك وخوف الفقد.
إن كل شيء يضعنا هنا، في اللحظة، في الآن، ومع ذلك فنحن نسعى للهروب من هنا ومن اللحظة ومن الآن باستمرار. وهكذا يبدو الاختلاف بيننا كبشر وبين الحيوانات أكثر وضوحاً، الحيوانات التي لا تبحث عن ضمانات مستقبلية إلا في حالات غريزية محضة، كدفن الفرائس في الأرض من أجل ضمان الغذاء في موسم القيظ والجفاف والمجاعات أو من أجل السبات الشتوي. أما البشري فقد وسع من نطاق بحثه عن الضمانات، ضمانات للمستقبل، رغم أنه لن يحصل على أي ضمانات، فالضمانات هي نفسها تحتاج لضمانات وهكذا.
تمتلئ شركات التأمين بعقود التأمين، التي تؤكد تفكير البشري باستمرار في المستقبل، وخوفه، وتأقيت ما يملكه، حتى روحه التي يؤمن عليها لتحقيق ضمانات للخَلَف. وهو نفسه البشري الذي يكد ويتعب ليضمن قدرته على بناء منزل يحميه، وتوفير أموال تضمن له رفاهية المستقبل. مع ذلك فلا شيء- بعد كل هذا- مضمون. لا يملك البشري أي ضمانات لأي شيء، وهكذا ستبدو إجابة السؤال عن الرغبة عبثية جداً. لم يحقق أي شيء ضمانات للبشري، لا التعليم ولا المال. بل كان ضمانه دائماً في اللحظة، لذلك يفكر البعض كثيراً قبل اقتحام المجهول، ويضيعون وقتاً كثيراً قبل اتخاذهم للقرار. وعندما نقرأ رواية زوربا لكزانتزاكس قد لا نفهم فلسفة زوربا الرجل الذي يحيا في اللحظة الآنية حتى يموت واقفاً. ذلك أن المسألة ليست بهذه البساطة، ففكرة أن نتخلى عن المستقبل ونغرق في الآن ليست سهلة، لأن كل ما يحيط بنا يدفعنا للخوف. الخوف من فقد الوظيفة، الخوف من ضياع مستقبل الأولاد، الخوف من الطلاق، الخوف من عدم المذاكرة خوفا من السقوط في الامتحانات، الخوف من الخروج من المرض لو خرجنا في قيظ الصيف أو تحت مطر الخريف.. إن الخوف هو ما يغرس المستقبل في أدمغتنا، وليس عدم الرضى عن الحاضر، لأن عدم الرضى هو نفسه خوف، كذلك فإن قدراتنا ومواهبنا المحدودة فضلاً عن قيود المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية تكبل قدرتنا على الانطلاق داخل اللحظة. وهكذا يعتقل المستقبل لحظتنا التي نعيشها وهي الأكثر ضماناً ويلقي بنا في زنازين المستقبل الذي بلا ضمانات. والأشياء تبدو مؤقتة برمتها، والأشياء أقصد بها كل شيء. لا أحد يستطيع أن يقلد زوربا بعناية، رغم أننا قد نتوق للمغامرات، ولكن المغامرات المدروسة والمؤمنة، ولذلك فإن مشاهدتنا للذبح في فيلم أجنبي لن تماثل أبداً مشهداً لذبح حقيقي عند فيديوهات المتطرفين. والعلاقات عبر الانترنت تتمتع بأمان أكثر من تلك الحقيقية. لا أحد يملك ضمانات للمستقبل، وهكذا فإننا نفتت الرغبات، ونجزؤها لرغبات أصغر فأصغر فأصغر. حتى نوزع المخاطر. تماماً كما يفعل المستثمرون. أي أننا لن نستطيع التأكيد على رغبة كلية تحسم حركتنا الآنية وتوجهها نحو شيء واحد سنعتبر بلوغه هدفاً جوهرياً للحياة. إن من يتمتعون بهذه القدرة هم قلة من البشر، ويجب أن يمتلكوا نفيا نفسيا للموت، أو يطرحون مفهوما تحسينياً للموت. الأوائل أنانيون والثواني آيديولوجيون. وهم باختصار ينفون حقيقة الموت بمزاعم متوهمة. ومع أن أغلب البشر يفعلون ذلك لكنهم يفتقرون لشجاعة مواجهة الواقع كما يفعل الأنانيون والآيديولوجيون. إذ تنقصهم الإرادة اللازمة للإقدام متخلين عن استقرارهم اللحظي بلا استمتاع. ومع كل ذلك، فإن أغلب البشر يبحثون عن ضمانات للمستقبل، وهكذا هم يشتركون مع الأنانيين والآيدولوجيين في فقدهم للحظة على نحو أو آخر. يضحِّي الأنانيون والآيدولوجيون بضمانات اللحظة مستهدفين المستقبل، ويضحى غيرهم بضمانات اللحظة من أجل تحقيق ضمانات للمستقبل. هؤلاء الأخيرون، يستيقظون فجأة ليجدوا انفسهم وقد خسروا أعمارهم في تعقب الضمانات المستحيلة، ويجدو أنفسهم وقد تحولوا لحشرات كغيرغوري في رواية كافكا. والمغامرون مثل زوربا، ذلك الذي يعتبر مغامراً لأنه تبع شغف اللحظة هو من يكون قد عاش لحظته، إن زوربا -في الحقيقة- لم يغامر إلا بالتوقعات. الأنانيون والآيديولوجيون قد يصلوا إلى أهدافهم، سواء كانت تتمركز حول تحقيق نجاحات مستقبلية خاصة بهم أو تحقيق مشاريع عظيمة تخدم البشرية، لكنهم سيكونون قد خسروا اللحظة أيضاً، خسروا عمراً مديداً من الحياة..
إننا كلما قلبنا المسألة وجدناها تحمل وجهاً سلبياً وآخر إيجابي. ذلك أن سؤال:
- ما هي رغبتك الحقيقية؟
سؤال لا يتبادر إلى الذهن إلا من خلال تصوراته الجزئية، لأنها تصورات المستقبل القريب، الأقرب إلى اللحظة، أي تقف وسط ما بين ما هو مضمون وما هو غير مضمون.
- ما هي رغبتك الحقيقية؟
تتقلص ملامح البشري ويتحدث عن رغبته، رغبته المكبوتة، كحب امرأة أو قتل شخص ما.
الرغبة هنا رغبة جزئية، إذ أنها لا تعني سوى أهداف مؤقتة في الحياة. ولكنها ليست أهدافاً شمولية، لا تعني مشروعاً وجودياً. والحق يقال أنني كلما سألت نفسي هذا السؤال حرت جواباً، ليس لأنني لا أملك مشروعاً وجودياً، ولكن لأنني أسال عن حقيقة هذا المشروع الوجودي، في وجود ينتهي بالموت. وإن كانت عبثية كامو وبيكيت ويونسكو وآدموف وغيرهم منذ الكلبيين لم تطرح إجابة عميقة بعمق السؤال، فإن تجاهل هذا السؤال يكون منطقياً، وسيستتبع ذلك تجاهل فكرة الهدف الكلي أو المشروع الوجودي، أو حتى تمييز الرغبة لكل من الراغب والمرغوب، ومسألة التوق، وعدم التملك وخوف الفقد.
إن كل شيء يضعنا هنا، في اللحظة، في الآن، ومع ذلك فنحن نسعى للهروب من هنا ومن اللحظة ومن الآن باستمرار. وهكذا يبدو الاختلاف بيننا كبشر وبين الحيوانات أكثر وضوحاً، الحيوانات التي لا تبحث عن ضمانات مستقبلية إلا في حالات غريزية محضة، كدفن الفرائس في الأرض من أجل ضمان الغذاء في موسم القيظ والجفاف والمجاعات أو من أجل السبات الشتوي. أما البشري فقد وسع من نطاق بحثه عن الضمانات، ضمانات للمستقبل، رغم أنه لن يحصل على أي ضمانات، فالضمانات هي نفسها تحتاج لضمانات وهكذا.
تمتلئ شركات التأمين بعقود التأمين، التي تؤكد تفكير البشري باستمرار في المستقبل، وخوفه، وتأقيت ما يملكه، حتى روحه التي يؤمن عليها لتحقيق ضمانات للخَلَف. وهو نفسه البشري الذي يكد ويتعب ليضمن قدرته على بناء منزل يحميه، وتوفير أموال تضمن له رفاهية المستقبل. مع ذلك فلا شيء- بعد كل هذا- مضمون. لا يملك البشري أي ضمانات لأي شيء، وهكذا ستبدو إجابة السؤال عن الرغبة عبثية جداً. لم يحقق أي شيء ضمانات للبشري، لا التعليم ولا المال. بل كان ضمانه دائماً في اللحظة، لذلك يفكر البعض كثيراً قبل اقتحام المجهول، ويضيعون وقتاً كثيراً قبل اتخاذهم للقرار. وعندما نقرأ رواية زوربا لكزانتزاكس قد لا نفهم فلسفة زوربا الرجل الذي يحيا في اللحظة الآنية حتى يموت واقفاً. ذلك أن المسألة ليست بهذه البساطة، ففكرة أن نتخلى عن المستقبل ونغرق في الآن ليست سهلة، لأن كل ما يحيط بنا يدفعنا للخوف. الخوف من فقد الوظيفة، الخوف من ضياع مستقبل الأولاد، الخوف من الطلاق، الخوف من عدم المذاكرة خوفا من السقوط في الامتحانات، الخوف من الخروج من المرض لو خرجنا في قيظ الصيف أو تحت مطر الخريف.. إن الخوف هو ما يغرس المستقبل في أدمغتنا، وليس عدم الرضى عن الحاضر، لأن عدم الرضى هو نفسه خوف، كذلك فإن قدراتنا ومواهبنا المحدودة فضلاً عن قيود المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية تكبل قدرتنا على الانطلاق داخل اللحظة. وهكذا يعتقل المستقبل لحظتنا التي نعيشها وهي الأكثر ضماناً ويلقي بنا في زنازين المستقبل الذي بلا ضمانات. والأشياء تبدو مؤقتة برمتها، والأشياء أقصد بها كل شيء. لا أحد يستطيع أن يقلد زوربا بعناية، رغم أننا قد نتوق للمغامرات، ولكن المغامرات المدروسة والمؤمنة، ولذلك فإن مشاهدتنا للذبح في فيلم أجنبي لن تماثل أبداً مشهداً لذبح حقيقي عند فيديوهات المتطرفين. والعلاقات عبر الانترنت تتمتع بأمان أكثر من تلك الحقيقية. لا أحد يملك ضمانات للمستقبل، وهكذا فإننا نفتت الرغبات، ونجزؤها لرغبات أصغر فأصغر فأصغر. حتى نوزع المخاطر. تماماً كما يفعل المستثمرون. أي أننا لن نستطيع التأكيد على رغبة كلية تحسم حركتنا الآنية وتوجهها نحو شيء واحد سنعتبر بلوغه هدفاً جوهرياً للحياة. إن من يتمتعون بهذه القدرة هم قلة من البشر، ويجب أن يمتلكوا نفيا نفسيا للموت، أو يطرحون مفهوما تحسينياً للموت. الأوائل أنانيون والثواني آيديولوجيون. وهم باختصار ينفون حقيقة الموت بمزاعم متوهمة. ومع أن أغلب البشر يفعلون ذلك لكنهم يفتقرون لشجاعة مواجهة الواقع كما يفعل الأنانيون والآيديولوجيون. إذ تنقصهم الإرادة اللازمة للإقدام متخلين عن استقرارهم اللحظي بلا استمتاع. ومع كل ذلك، فإن أغلب البشر يبحثون عن ضمانات للمستقبل، وهكذا هم يشتركون مع الأنانيين والآيدولوجيين في فقدهم للحظة على نحو أو آخر. يضحِّي الأنانيون والآيدولوجيون بضمانات اللحظة مستهدفين المستقبل، ويضحى غيرهم بضمانات اللحظة من أجل تحقيق ضمانات للمستقبل. هؤلاء الأخيرون، يستيقظون فجأة ليجدوا انفسهم وقد خسروا أعمارهم في تعقب الضمانات المستحيلة، ويجدو أنفسهم وقد تحولوا لحشرات كغيرغوري في رواية كافكا. والمغامرون مثل زوربا، ذلك الذي يعتبر مغامراً لأنه تبع شغف اللحظة هو من يكون قد عاش لحظته، إن زوربا -في الحقيقة- لم يغامر إلا بالتوقعات. الأنانيون والآيديولوجيون قد يصلوا إلى أهدافهم، سواء كانت تتمركز حول تحقيق نجاحات مستقبلية خاصة بهم أو تحقيق مشاريع عظيمة تخدم البشرية، لكنهم سيكونون قد خسروا اللحظة أيضاً، خسروا عمراً مديداً من الحياة..
إننا كلما قلبنا المسألة وجدناها تحمل وجهاً سلبياً وآخر إيجابي. ذلك أن سؤال:
- ما هي رغبتك الحقيقية؟
سؤال لا يتبادر إلى الذهن إلا من خلال تصوراته الجزئية، لأنها تصورات المستقبل القريب، الأقرب إلى اللحظة، أي تقف وسط ما بين ما هو مضمون وما هو غير مضمون.