محمد البنا - براعة القفز بين المشاهد.. قراءة في نص القصة القصيرة حكايات خزانة مغبرة للأديبة السورية: إيمان السيد

حكايات خزانة مغبرة
للأديبة السورية: إيمان السيد.
النص:

أريد مواجهة العالم بنُسَخِه المختلفة، علَّني أعرفُه على حقيقته دون رتوشٍ، أو عمليات تجميلٍ، كأن أصبح الطفلة ذات الضفيرتَين، تلك التي تتسلَّق أعمدة النور في وَضَح النَّهار متسابقةً مع أخيها، الذي يكبرها سنًا، فيعنِّفُها أبوها لقِصَر تنورتِها، وينهاها عن ممارسة اللَّعب البريء، ويخبِّئها في جلباب المساء خوفًا من الشاب الذي قد أكونه بعد عقدٍ ونصفٍ من الزمن، وقد صرتُه في نسخته الأخرى، فتاةً بهية الطَّلعة فحرمه/ حرمها أبي من الذهاب إلى المدرسة الثانوية، رغم تفوِّقها على أترابها، فصارت الشوارع تمدُّ لها ألسنَتها وهي تقول لها:
لقد فاتك الكثير!
كلما مدَّ/ مدَّت أختي رأسَها من نافذة غرفتها، لتراني، وأنا أمارس لعبة كرة القدم مع فتية الحيِّ، فيُغريني لباس أخي الرِّياضي الذي سرقتُه من خزانته قبل بدأ المباراة بين الفريقَين، صِبيةُ حيِّنا مقابل صبي الحيِّ المجاور، وقد غيَّرتُ اسمي من بيلسانَ إلى قيصرَ، كي لا يكلِّفني الاسم الأول ثمنًا باهظًا سأعجز عن تسديده لا محالة، ورغبةً مني في أن يدفعَ الآخرون تكلفة اسميَ الآخر.. سيَّما بعد أن صار بإمكاني تبادل السِّباب والشَّتائم مع أقراني لدى أول "فاول" أقترفه، أو في حال كَسِبَ الفريقُ الخصمُ "جول" بضربةٍ مباشرةٍ هزَّتْ شباك مرمانا بسبب ضعف تقدير قدمي في التشويط، فيضعوني في منتصف خط الدفاع كي يأتي الهدف مسدَّدًا إلى رأسي السفلي بدل من رأسي العلوي، وبذا أكون قد أدَّيتُ ثمن طيشي كاملاً، فأقرر- بعد توقيع الجزاء القاسي عليَّ- العودة إلى نسختي الجميلة إلى "بيلسان"، التي بقيت محبوسةً وراء النافذة "تفصفص" بزر عباد الشمس بين أسنانها الناصعة، وتقلِبُ رأسها إلى الوراء ضاحكةً بجنون، وهي تشاهد مسرحية (سُكّ على بناتك) وفوزية "سناء يونس" البنت البكر، تصرخ في وجه أبيها فؤاد المهندس: " بابا يا بابااا، احذر هذه المنطقة"
مشيرةً إلى مؤخِّرتها العريضة، بملامح متوجِّعةٍ بسبب قسوة الضربة المباشرة التي تلقتها توًا منه لعصيانها أوامره، فأخرج من النافذة لأجدَني مساءً في نسختي الثالثة، أبًا يستعدُّ للخروج مع أصدقائه للسهر والعربدة في أحد الملاهي الليلية، البعيدة عن منزلنا مسافة البعد عن نسختي الصباحية في عمله كمستشار، وأغتنم فرصة اقتراب الراقصة من أبي، بنهدَيها شبه العاريَيْن، لأقفز في جسدها وأعيش فيه نسخةً بشريةً غريبةً قد لا تهيُّؤها لي الظروف مرةً أخرى، وأبدأ بالتمايل والغنج على أغنية "قدُّك الميَّاس يا عمري" بصوت صباح فخري، وقد شَخُصتْ لقديَ المياس العيون، وشهقتِ الأنفاس مع التواءاته الأفعوانية، وامتلأتْ النفوس بالسُّكر ونشوة الاشتهاء، وبعد أن ينهيَ أبي نخب كأسه السابعة معي كراقصةٍ ماجنةٍ، أخرجُ من جسدها بسرعةٍ، وأستبقه إلى بيتنا؛ لأستقرَّ في جسد أمي التي كانت نائمةً على حافة السرير، وما إن استقرّتْ روحي في جسدها حتى وجدتني أبكي.. أبكي بحرقةٍ بسبب المنام الذي كنت أراه عن زوجي، وهو يداعب الراقصة التي كنتُها منذ قليلٍ، وما يلبثُ أن يلفظَني جسدُ أمي خارجه، وقبل أن أُكمل عيشَ نُسخٍ أخرى مازلتُ أتمنى أن أعيشَها، وجدتُني خزانةً مغطَّاةً بالأتربة، فيها كلَّ ألبسةِ النُّسَخِ التي أودُّ أن أرتديَها.

إيمان فجر السيد/ سوريا

القراءة
أول ما تبادر لذهني وأنا أقرأ هذا النص الخفيف السريع في حركته، العفوي في تلقائيته السردية..كان نص " لحظات حرجة" للأديبة الجزائرية الصديقة فايزة عبد السعيد ، ذلك للتشابه الشديد بينهما في تخيلي لبطلتيه، وأيضًا للتدفق السردي الذي ميزهما ونص " صديقي السيد سين للأديبة المصرية الصديقة سماح رشاد عن معظم النصوص التي قرأتها في الآونة الأخيرة.
هذا النص اجتمعت فيه عدة أسباب تضافرت جميعها لنجاحه نجاحًا يلمسه القاصي والداني، ويشهده المحب والكاره إن وُجد.
ولنبدأ بالفكرة، ففكرة النص تتعلق بقوة بأحد أهم قضايانا في مجتمعاتنا الشرقية خاصة، الا وهى قضية الجندرية، والغبن الذي تتعرض له الأنثى في مجتمعٍ يتسيده الذكور، وهى فكرة وإن كثر الحديث عنها وتعرضت لها أقلام أدباء ومصلحين ومنظرين وفلاسفة ومفكرين ومهتمين بالشأن النسائي؛ لا تزال وستستمر في التعرض لها إلى أن يتم معالجة هذه القضية الشائكة، ومن بين المتعرضين لها هذا النص الذي بين أيدينا.
السبب الآخر من أسباب نجاح هذا النص هو طرافة معالجته، معالجة خفيفة الظل التقمص اتسمت بالمرح وانتزاع الابتسامة من أروقة قلوب قارئيه، كما وخزت قلوبهم الذكور، ازدواجية المعايير ، الإناث، ليتني كنت ذكرا )نعم فهذا الذكر الأخ، الأب، الزوج ازدوجت معاييره
إلتزام وصرامة يقابلها الوجه الآخر له، إنحلال واستحقاق ما لا يحق له، والأنثى بطلة النص ها مجتمعها يدفعها دفعًا للتخلي عما خلقها الله له أم، أخت زوجة، وتتمنى أن تصير ذكرًا من عظم الغبن الذي شعرت به وتعاني منه منذ وعت عيناها الدنيا.
وثالث الأسباب كان براعة التنقل من مشهدٍ لمشهد من تقمص إلى تقمص، سلاسة وأي سلاسة، كراقصٍ محترفٍ يجيد القفز من حبلٍ إلى حبل، وكل الحبال ممتدة في فراغٍ محيط، تتابعه أعين المشاهدين دهشة وتلتهب الأكف تصفيقًا له.
معالجة أدهشتني بما اتسمت به من حرفية أكدتها ذهنية واعية وقلم يعرف ماذا يكتب.
معالجة اتسمت بتقنية التناظر والتقاطر المشهدي بين الحال ونقيضه، فها هى تلعب الكرة مع أقرانه الذكور وفي ذات الوقت نراها خلف نافذتها إشارة سيميائية للسجن تراقب في حسرة مرح الذكور وحريتهم غير المقيدة خارج أسوار سجنها
"وأنا أمارس لعبة كرة القدم مع فتية الحيِّ، فيُغريني لباس أخي الرِّياضي الذي سرقتُه من خزانته قبل بدأ المباراة"
"العودة إلى نسختي الجميلة إلى بيلسان التي بقيت محبوسةً وراء النافذة تفصفص بزر عباد الشمس بين أسنانها الناصعة"
تتكرر التقنية تباعًا فيما تلا من مشهديات مزدوجة
"وبعد أن ينهيَ أبي نخب كأسه السابعة معي كراقصةٍ ماجنةٍ، أخرجُ من جسدها بسرعةٍ، وأستبقه إلى بيتنا؛ لأستقرَّ في جسد أمي"

أبٌ يستعدُّ للخروج مع أصدقائه للسهر والعربدة في إحدى الملاهي الليلية، لتنهي القصة بخاتمة رائعة وضعت فيها كل أوجاعها وآلامها حين شبهت نفسها بالخزانة المغبرة أتربة، كما زنزانة بلا نوافذ علتها غبرة الغبن "وجدتُني خزانةً مغطَّاةً بالأتربة، فيها كلَّ ألبسةِ النُّسَخِ التي أودُّ أن أرتديَها"
الحقل الدلالي: أجادت الكاتبة توظيف الكلمات الدالة بدقة عما تريد إيصاله لذهن القارئ، حتى أنها لجأت لألفاظ غير عربية (فاول/ جول) رغم وجود اللفظة العربية (خطأ/ هدف) لما لها من شيوعٍ عالمي للناطقين بأي لغةٍ أخرى بمن فيهم ناطقو اللغة العربية باختلاف لهجاتهم المحلية، كما نجحت في توظيف الكلمات المساعدة بقوة على سلاسة الدفقة السردية فبدت القصة كدفقة شعورية متصلة كما في قصيدة النثر..لننظر مثلا على سبيل المثال لا الحصر إلى ( الطفلة الضفرتين، تنورتها، أخوها، يعنفها أبوها، تتسلق أعمدة النور، ينهاها، يخبئها، بيلسان قيصر، تتمايل، تغنج، أبكي)
بيلسان/ قيصر :البيلسان نبات ذو زهور بيضاء محببة ورائحة ذكية تشبه المسك، ويستخرج منه العطور..وهنا براعة في تحديد الإسم لأنثى بينما يقابله تحديد آخر قيصر كإسم للذكر..والقيصر كما هو معروف الحاكم بأمره المتسلط المسيطر، في مقارنة ذكية ولماحة بمكر عن النعومة الأنثوية والتعنت الذكوري.
الخطاب السردي: نجحت الكاتبة في توصيل فكرتها عن القضية الشرقية المعاصرة الأهم، معبرةً عن صرخة أطلقتها نيابةً عن بنات جنسها، بطريقةٍ ساخرةٍ التقمص، لتلقي بصيصًا من ضوء على معاناتها كأنثى في مجتمع لا يقيم وزنًا إلا لذكوره.
التقنية السردية: إن التقنية السردية التي اتبعتها الكاتبة بالقفز من مشهدٍ لآخر من جسدٍ لآخر بسلاسة ويسر ومهارة، كانت من أهم أسباب نجاح القصة.

محمد البنا - القاهرة في ١٠ حزيران ٢٠٢٣

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى