"شتان ما بين جنس القصة وجنس الرواية، كلاهُما لا يخوضهما إلّا عارف".. حوار مع الكاتب العراقي (محمد الأحمد) - اجراه: هشام ال مصطفى

• هل يوجد فرق في شخصية القارئ "محمد الأحمد" الغزير القراءة الذي سبق له قدم العشرات بل المئات من عروض الكتب في الصحف العربية والمواقع الإلكترونية وبين الروائي "محمد الأحمد" الذي ينتج بصمت.
- هذا السؤال مُعَقد: متداخل، ولن يسأله شخص عابر، لا يقيّم الفرق بين الاسمين. دعني أقول ان الفرق شاسع بين الشخصين. برغم الغموض الذي احتل محتوى السؤال، فما بين الأول والثاني مسافة هائلة من السنوات والخبرة، الاول بقيّ في محيطه بين اصدقائه ومحبيه كائناً محافظاً على الصورة التي عرف بها.. عادي، هادئ الطباع، سهل القياد. يقرأ في كل مكان همهُ أن يشتري الكتب ويتعلم، يحب الموسيقى.. وهكذا من بقية الصفات التي انتَ تعرفها ويعرفها عنهُ غيرك من الاصدقاء المقربين.. أما الآخر (محمد الأحمد) الاديب الذي تعلم كثيراً ليعمل بكل جدية، والذي مضى في عزلته الحقّة لا يعرف نفسه جيداً، لأنه واجه الاسئلة المصرية بكل عقل. توقف عند نفسه وتأريخه الانساني الشمولي، متنصلا من كل المعارف السابقة التي تخصصه ككائن، قرأ التاريخ العقلي لأصل الانسان، وفهم حركته. سافرَ كثيرا في رفوف المكتبات، ولو سالتهُ عن نفسه قد لا يمكنه ان يعرفها، الا من خلال كتب سوف يكتبها مستقبلا. يقول باني مازالتُ ابحثَ عن نفسي في هذا العالم الذي كشفتهُ الرواية. الرواية درسٌ وعلمٌ.. بل انها علمُ العلومِ وما انا إلّا باحثٌ يحاول ان يتعلمَ ليُعلِّم. ثمة فرقٍ بين الذي يتعلم ليعلم وبين الذي يعلم لأجل ان يتعلم.. تراه لا يعرف نفسه. عندما كتب أراد أن يقيم راياً حول جدوى وجوده المعرفي.
فانا أهتمّ كثيراً بما اقرأ، ولا أحفل بالعالم، الانترنيت جعلني أصل سريعاً وبلا كلفة الى كتب مهمة في حياتي يجب ان يقرأها ايُ فردٍ منا، وهذه الكتب مازلتُ أظنها بأنها الكتب الأحقّ التي سوف تُعلمني ما سأكتبهُ مستقبلاً، فانا لم اكتب ما يستحق الاهتمام. الكتابة ان تجعلها تطرق العالَم بمطرقة العالِم (عالم بالفتحة والعالم بالكسرة).. أسمعُ موسيقى كثيراً، لتساعدني على ايقاعٍ ثابتٍ يعتمرُ في داخل رأسي. لابدَ من قهوة الصباح كل صباح، ومثلها كل مساء.. استسلم الى القراءة، ابحث كثيراً في الكتب عن الإتقان، واحياناً أحتفي بالكتب الطيبة التي دائماً اقترحها على اصدقائي. لأني لستُ عائشاً من أجل شيء يستحق العيش سوى الكتاب. على هذه الارض ما يستحق الحياة، أسميهِ الكُتب. أتنفس كل مرة بكتابٍ جديدٍ، وانا أختار الاصدقاء على أساس علاقتهم بالكتاب. فالذين لا يحفلون بالكتب لا احفل بهمُ على الاطلاق.. عالمي محدود لا يتجاوز قدح الشاي أو القهوة، وتنمية تسجيل الملاحظة الدقيقة التي تعلمني إياها الكتب..

• سبق ان صدرت ثمان روايات مهمة قد باتت من بين أهم الروايات العربية، وكذلك صدرت لك ثمان مجامع قصصية. لماذا التجريب في جنسين مختلفين؟

- الابداع يعني ان تقول جديداً على مستوى الفكرة الجديدة، لم يسبق لأحد قولها، قبلك. القول يعني الابتكار، الابتكار بأشكاله يعني سبق مجايليك في ابتكارك. القصة فن القول، كذلك الرواية. ولكن؛ شتان ما بين الجنسين الادبيين، كلاهُما لا يخوضهما إلّا عارف، قارئ حصيف، حيث للأولى مساحة واسعة لمن يعرف بها، مثلما للثانية كذلك. أرى نفسي في منطقة أخرى... منطقة لعلها خارج مساحة التجنيس، لي مفاهيمي الخاصة في التجنيس الأدبي غير المساحة التي يختص بها النقاد. إذ سبق ان اطلعتُ كثيراً على المدارس الثقافية وعروضها من الطروحات الأدبية التي تفرّق ما بين القصة والرواية. وجدت الاولى تناقش مشكلة تودّ حلها، صورة تشبه علامة السؤال، السؤال الذي قد يسألهُ عابر واجهته مشكلة. أما الرواية فهو يكشف عن (حالة/ مشكلة) عايشته طويلاً، مشكلة لها جوانبها المتعددة، بتعدد زوايا كشفها. الرواية فن الكشف التام. الرواية الناجحة هي التي تعطي معلوماتٍ كافيةٍ عن ظرف تلك المشكلة. الرواية تبحث عن شمولية الحل الناجع.. انت تكتب قصةً يعني أنك تشير سريعاً الى موقفٍ واضحٍ، ولكنك لو كنت تكتب رواية، فذلك سوف يُكلفك جمعاً لمعلومات وافية. الرواية العالمية التي وصلتنا من اللغات الاخرى فيها حكاية متكاملة عن أصل المشكلة بغرض مواجهتها.. استخدامك لمفردة الهجرة جعلني اقول بانها يا صديقي وراء العشب والماء، بحثا عن الخضرة والوجه الحسن. أن تكتبَ يعني أن تتعلم جيداً ما عليك فعله، وكشفه، والتنفس عبره.

• رواية متاهة أخيرِهم الشهيرة جاءت من المحلية الى العالمية بعد ان نقلت الى أربع من اللغات العالمية الإنكليزية والبرتغالية والعبرية والفارسية. وحسب علمي ان الطبعة الإنكليزية ظهرت قبل طبعتها العربية، ومازالت طبعاتها غير العربية تحقق المزيد من المبيعات حسب ما يظهره موقع الأمازون الخاص بالكتب الإلكترونية مكتبة "الكندل"

- الرواية لم تقرأ جيدا من لدن اغلب القراء في الداخل – بسبب الشحّة في توزيع المطبوع على ورق- ولم يتعود القارئ العربي على التعامل بجدية مع النشر الإلكتروني – إلا مؤخرا- لن يخف عنك أغلب القراء يبحثون عن الكتاب الورقي وسوف تظهر الطبعة العربية قريبا عن مطبوعات الاتحاد العام لكتاب العراق- لان رواية "متاهة أخيرهم" أرادت أن تثَبِتَ الصورة، وان تدخل الى المكتبات كي أحافظ عليها من الضياع والنسيان. صورةٌ جميلةٌ عن محيط كان في غايةِ الجمالِ والدعّةِ والمحبةِ. انها مرحلة تأريخ الفن والثقافة والاشياء السامية. لم تكن سوى صورة حقيقة عن عالمٍ حقيقي.. وثيقة فنون ومعارف عن الوجه الانثروبولوجي للعراق عن التسلسل الثقافي حضاري في بغداد عن السينما في ديالى والتي لم تكن إلّا مَعْلَماً من المعالمِ التي تفتخر بها المدينة العائمة فوق بحرٍ من البرتقال الطيّبِ.. هل تحبّ ان تتذوق البرتقال؟ هناك طعم خاص في بعقوبة كنا نشمّهُ في دروبها الآن، ولو تعرفَ أحدٌ ما لما نسيهُ مثلي..

• انت متزوج من الروائية العراقية كُليزار أنور؟.

- نعم وبكل فخر فقد اضاف لي ذلك الكثير. لأنها من بيئة ثقافية أُخرى ونشأةٍ مختلفة لها ليس ما لدينا. لقد تجددت حياتي وكأني لم أحيا من قبلها. تجددتُ لأن الكاتب كما تعرف بانه امام متطلبات – مواجهة- حقيقة مع عالم الكتابة. الكتابة تتطلب ظروف خاصة لأجل يبقى الكاتب كاتباً، الكتابةُ تحتاج منك ان تبقى تقرأ وتتعلم لتنتج كتاباً ينفرد بوجهةِ النظر. الثقافة تحتاج الى تنوّع عقلي، وتحتاج الى اختلاف لينتج تبايناً قيّماً بين الأفكار. زواجيَ من كاتبةٍ لها وجهة نظر في الكتابة تختلف عن وجهتي. ذلك الاختلاف أضافَ لكليّنا أن نثبتَ معاً ونواجه تيار الحياة بكل وعي.. الرجل منّا يحتاجُ الى أمرأه تؤمنُ بهِ، مثلما تؤمنُ بنفسها.. لأنهُ سرُّ وجودها أو هي سرّ وجوده، أو الإثنين سِرُّهُما واحد.

• لماذا لم تدخل مضمار الجوائز؟

- السبب هو إني لم اسعَ للمشاركةِ في مسابقات الجوائز. المسابقات لها انشغالاتها، وانا اسعى الى انشغالاتي الدقيقة جداً. الجوائز لن تقيّم الاعمال وتعطيها أهمية، الكتاب ذاته هو الذي يعطي لنفسه الاهمية. الجوائز تحتاج الى "صياد جوائز" وشروطي لا تتوافق مع المؤسسات المانحة.. الجوائز هي التي تبحث عن الاعمال الجديدة، وليست الاعمال الجديدة هي التي تبحث عن الجوائز.. أرى ان الوقت لم يحن حتى أُقدم أعمالي الى الجوائز فأنا أرى نفسي غير قادر عن المزاحمة. الكتاب الجيّد هو الذي يخترق كل المُسميات. ألم تلاحظ أن "متاهة أخيرهم" تُرجمت الى الانكليزية وطبعتها العربية الأولى لم تتجاوز الثمانين نسخة! وصلت لأنها مادة غير قابلة على ان تحصرها مؤسسة أو تُروج لها جهة. الجائزة تحتاج الى مؤسسة داعمة لكي تروج من خلال كتابك لقضية ما، وكما تعرف بان (محمد الاحمد) كاتب صعب أن يجير عمله لجهة داعمة، فتلك الافكار الحرة تبقى افكارٌ حرّة في رأسهِ..

• ما هو تعريفك الشخصي للغربة؟.

- الغربةُ في عصرِ الانترنيت ليست غربة. الغربة أن تكونَ بين أهلكَ وذويكَ وتشعرُ بالاختلافِ والبعدِ. عالم الانترنيت واتصالاته يجعلك تعرف جيدا أنك بكبسةِ زرٍّ تكون مع عالم مهما بعدت عنه قريبٌ. الأنترنيت قرّب المسافات والغربة باتت بمفهوم جديد لن تحدده اللغة.. حيث تسيّد اللغة الانكليزية وباتت اللغة الإنكليزية وطناً للجميع. الكلُّ ينتمي إليها بصفتهِ باحث عن المعرفة..

• ما مدى ايمانك بالكتابة؟

- أن يؤمن بأنهُ كائنٌ محدودٌ ويجب أن يتجاوز حدوده بما لديه من إمكانيات معرفية. أن يجدَ منفذاً يستطيع من خلاله أن يتأمل ما وهبته الطبيعة من امكانياتٍ حقيقية. ان تكتسب معرفة لا يعني إنك تتميَّزَ بها، وحدكَ. لكن أن تُترجمها الى البسطاءِ من الناس حتى يفهمونَّها. أن تسهِّل لهمُ ماهيةَ معرفة الأفكار المصيريّة، واسئلتها، ان تشرح لهم بما لديك من معرفة حيوية. لتبدد الجهل. فالشخص الذي تعلمه اليوم سوف يتعلمُ منك، وسوف يتعلمُ أكثر من غيرك ايضاَ ليعود ويعلِّمك مجموع ما تَعلَمهُ. الانسانُ كائنٌ كتابي يجمع المعلومات ويطبخها طبخاً، يؤرشفها، يعيدُ تنظيمها وفق عصره.. ليصنع الوجبة الملائمة...

•. كأني اعيد السؤال فأنت تقرأ كثيرا وتكتب قليلا ماذا تقول؟.

- سبقَ أن قلتُ أني قارئ وباحث عن الكتاب الجيّد. وأرى من الجدير بيّ أن اقترح لأصدقائي مادة جديدة. سبقَ أن سعيتُ لأجلها. الكتابةُ متعبةٌ وشاقةٌ. وتأخذ مني أغلى خلايايّ.. أكتب الجديد. لأني أرى الموقف الذي امامي لا يستحق فيه الوقوف الا الجديد المفيد... طموحي في القراءة ذلك البعد العميق الذي أفتخر فيّ. القراءةُ ضوءٌ كاشفٌ يجعلك اللائق لما تنتجه من تفكيرٍ جديدٍ. الفكرةُ الجيدةُ تُثبتَ أكثر من غيرها لأنها حيويةٌ تشغلُ مكانها دائماً. ليست لدينا نظرية نقدية عربية. وهذا من بين الأهم الذي أودّ أن أُخبركَ به. السلطان مازالَ مُمسِكاً بسيفه.. رغم أن وكالة (ناسا) أخبرتنا بحقائق الأمور، ولم تعد خافية تلك الأمور المطموسة عن الجمع المؤمن بأنها نظرية "الهيمنَةَ والامتلاك". العاقلُ ينزع عنهُ القناعات البالية، ويواجه العالم ليكون واحداً بين أهلِ الارضِ، وحيث لم يعد "الزمان" محجوزابين الكتب الصفر.. ما زال محمد الأحمد في مرحلة القارئ الجيّد وليست مرحلةِ الكاتب الجيّد. فأنا كاتب لم يكتب كتبه المهمة (بعدُ)، أو لم تصدر لهُ كتبهُ المهمة (بعد).. الكتب الجيّدة هي التي تحمل صاحبها عالياً، وليست تلك الكتب التي يطبعها على حسابهِ ويوزّعها بنفسهِ. ثم لن يجد بينهم من يقرأها له بجديّة. الكتب الجيّدة هي التي تجعل من الأخرين يبحثون عنها، وعندما يجدونها يقرؤونها بجديّةٍ وشغفٍ حقيقي..

• سبق وان كتبت عن العديد من روايات "نجيب محفوظ" هل تكشف لي عن سر ذلك؟

- السؤالُ ملتفٌّ وقد يحتاج الى توضيح. كأنما السؤال يتأرجح ما بين الفلسفة والواقع حيث عمق كتبات (محفوظ).. ذلك الكاتب العظيم الذي عَلًمني الكثير وجعلني في مواجهة مباشرة مع ذاتي العُليّا. الرجل درس الإنسان المُحب لمكانهِ، وقد علمني ان البيئة المحلية هي المعرفية التي يبحث القارئ العالمي.. كحال أغلب العظماء الذينَ كتبوا وبهرونا بمورثاتأهاليهمُ. لم يفكروا بآلية (من ينتج) فرض الكتابة (آلة قمعية) تفرض أفكارها على العالمين، وتصادر منهم الحق في العيش، كما يفكر بعض الكتاب الذي تدفعهم (أيدولوجيات فاطسه)؛ ليست لها مكانا على خريطة عصر التكنولوجيا.

‏20- تموز - 2022




حوار اجرته جريدة النهار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى