أ. د. عادل الأسطة - غزة وأبناؤها وغُزاتها: هل تتواطأ الأرض مع الفلسطيني؟

منذ بداية الحرب في ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣، كثر الحديث عن مستقبل غزة بعد انتهاء المعارك، وكثرت المشاريع التي تفكر فيها إسرائيل كما لو أنها متأكدة من النتيجة.
شخصياً لم أكن أبدي رأياً لقناعتي بأن النهاية التي ستؤول الحرب إليها هي ما سيقرر مستقبل القطاع وسكانه. وفي مساء الإثنين ٦ / ١١ / ٢٠٢٣، سمعت الرأي نفسه من السياسي الفلسطيني منير شفيق من على فضائية الجزيرة.
كان السؤال الذي يراودني منذ بداية الحرب البرية هو: هل ستتواطأ الأرض مع أبنائها فتكون مقبرة لدبابات الغزاة؟
في ١٠ / ١٠ / ٢٠٢١، نشرت مقالاً في جريدة «الأيام» الفلسطينية تحت عنوان «زكريا الزبيدي وإخوانه: قراءة غسان كنفاني في زمن مختلف». توقفت فيه أمام هروب زكريا ورفاقه الخمسة وأثرت أيضاً السؤال نفسه مسترجعاً ما كتبه كنفاني في روايته «العاشق» والفدائي الفلسطيني عبد الكريم وملاحقة الضابط الإنجليزي الكابتن (بلاك) له، وعدم نجاحه في إلقاء القبض عليه، وعودته يخاطب نفسه شاعراً بالخيبة والمرارة والتعب: «إن الأرض ذاتها هي المتواطئة والشريكة، وإنك كي تقبض على عبد الكريم عليك أولاً أن تلقي القبض على الأرض». ويبدو أن إسرائيل تدرك هذا وتصر عليه، ولذلك لم تكتف بقصف غزة جواً وتدميرها وتهجير مواطنيها، فلكي تنهي حكم «حماس» وتلقي القبض على مطلوبها رقم ١ يحيى السنوار أو عبد الكريم المعاصر، عليها أن تلقي القبض على الأرض.
فكرة تواطؤ الأرض مع أبنائها، ودورها في كسب الحرب، فكرة راودت فلسطينيين كثراً، وأوردها كتاب عديدون في نصوصهم القصصية والروائية، وغالباً ما لفتت انتباهي وأنا أقرأ تلك النصوص، بل وأنا أقرأ أيضاً ما كتبه دارسو روايات كنفاني، مثل رضوى عاشور وفاروق وادي عن الفرق بين صحراء الكويت في «رجال في الشمس» وصحراء النقب في «ما تبقى لكم». قتلت الأولى الفلسطيني ولم تتعاطف معه بخلاف الثانية.
كان المثل الذي يكرره الفلسطينيون، بعد أن يئسوا من تحرير الدول العربية لفلسطين، هو «ما بحرث الأرض غير عجولها»، ورأوا أن الفلسطيني هو من يفهم أرضه، فيعاملها بحنو وحدب، وبالتالي تعطيه غير ما تعطي غيره. برز ذلك في رواية إميل حبيبي «المتشائل» وفي إحدى قصص جمال بنورة أيضاً.
في «المتشائل» مثلاً، يكتب حبيبي عن عمل الفلسطينيين عمالاً ومزارعين في المستوطنات فتعطي الأرض الخير الكثير، لأنهم ذوو صلة بتربتها، والطريف أن (إيلان بابيه) يفتتح كتابه «الفلسطينيون المنسيون: تاريخ فلسطينيي ١٩٤٨» بالكتابة عن المستوطنين الأوائل الذين جاؤوا إلى فلسطين، فوفر لهم السكان المأوى وعلموهم أيضاً الزراعة، «بل قدموا لهم النصائح في مسائل الزراعة والحراثة، وكانت معرفة أهل صهيون بهذا الموضوع ضئيلة إن لم تكن معدومة». كان سكان مستوطنة «زخرون يعقوب» راضين بالمزارعين العرب الذين يعملون في الحقول، مع أن هذا أغضب اليهود الذين يؤمنون بالعمل العبري النقي، كما يرد في «المتشائل».
جمال بنورة وظف المثل في أحد نصوصه وهو يكتب عن تظاهرات الطلبة ضد جنود الاحتلال، والطريف أنه أورده على لسان جندي إسرائيلي تفهم سبب إصرار الفلسطينيين على مقاومة المحتلين وشجاعتهم في ذلك، ولم يكن بنورة القاص الوحيد الذي وظف هذا المثل.
في الروايات الفلسطينية التي كتبت عن انتفاضة الأقصى، وتناولت اجتياح البلدة القديمة في نابلس، ومنها رواية سحر خليفة «ربيع حار»، تجري بين الشخصيات حوارات عن مدى قدرة المقاومين على صد جنود الاحتلال ومنعهم من اجتياح المدينة، ويرد على لسان أحدهم:
«نحن هنا أبناء البلد نعرف تفاصيل أزقتنا ومداخلها ومخارجها وأسرار المخابئ والحارات. هم سيكونون مثل الصيع في هذا اللغز لأن أزقتنا والزواريب هي فعلاً لغز، ولا يقدر على اللغز إلا أهله. فليستعدوا للقاء الموت.. سنفاجئهم من خلف الدور ومن العتمة، ومن فوق لتحت نقفز كالجن وسنريهم الموت ونجوم الظهر». هذا الكلام الذي ورد في الرواية لم يتحقق على أرض الواقع، فخلال شهر تقريباً تمكن الإسرائيليون من اجتياح المدينة. هل سيحدث الشيء نفسه في قطاع غزة أم أن الأنفاق التي أقيمت تحت الأرض والقتال بين أنقاض البنايات التي هدمها الطيران الإسرائيلي سيحقق مقولة: إن الأرض تتواطأ مع أبنائها، وإنه لا يمكن المقارنة بين نابلس وغزة، وبين ما جرى مع زكريا الزبيدي وإخوانه حين هربوا من السجن، فالأرض حيث كانوا تغيرت تماماً وهوّدت وصار الإسرائيليون منذ ٧٥ عاماً أكثر دراية بها؟
غزة ما زالت بأيدي أبنائها، وكانت لعقدين من الزمان تحت سيطرتهم بالكامل، ومن حافظ على سرية قرار الهجوم في ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ قادر على الحفاظ على سرية مخطط الأنفاق.
منذ بداية الحرب وهناك كثيرون يتساءلون إن كان مقاتلو المقاومة الفلسطينية تسللوا إلى غلاف غزة عبر الأنفاق. وكلما نجحت مجموعة منهم، في أثناء المعركة، التسلل إلى مغتصبات العدو، اندهشوا من طريقة تسللهم، وفي الحرب الدائرة أيضاً انقلبت دبابة إسرائيلية في الجولان السوري فنقل صحافي الخبر وعقّب: «الأرض بتكرههم».
من سيحسم المعركة؟ وهل ستتواطأ الأرض مع أبنائها فتكون مقبرة لدبابات الغزاة؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى