إيمان فجر السيد - عن الدِّيوان النَّثري حين غنى المحار... للشاعرة لين هاجرالأشعل- تونس.

يعدُّ المحارُ واحدًا من أهمِّ أنواع الرَّخويات التي تعيش في البحاروالمحيطات ملتصقًا بصدفاته على الصُّخور البحريَّة، ويُعتبر من أهمِّ العناصر المكونة للنِّظام البيئيِّ؛ لأهميَّة دوره في تصفية المياه من الملوِّثات، بالإضافة إلى كونه واحدًا من أهمِّ الوجَبات الشهيَّة حول العالم نظرًا لما يحمله من فوائدَ عظيمةٍ للإنسان.

ليست كلُّ أنواع المحار تنتج اللؤلؤَ الحقيقيَّ؛ حيث ينتمي المحار الحقيقيُّ إلى عائلة المحاريَّات تلك التي تتواجد في أغلب محيطات العالم خاصة ًفي المياه الضحلة، والمستعمرات المائيَّة التي تعُرف بالشُّعَب المرجانيَّة، وبما أنَّ الإنسانَ إبنُ بيئته، ويُعرف بلكنة وطنه، متأثرًا بجغرافيتَّه قبل تاريخه؛ سنحاول معرفة سرَّ تسمية شاعرتنا لديوانها الشعريِّ بهذا الاسم: حين غنَّى المحار....
لين هاجر الأشعل أديبة جميلةٌ تكتب القصة القصيرة جدًا والشِّعر النثريِّ والمقالات الأدبيَّة، عربيَّة الهوى، غربيَّة الفكر، إبنة تونس الخضراء التي جمعت بين عراقة الشَّرق وسحرالغرب، تُونس التي نجحتْ في جذب السُّياح إليها، تقع على بعد مرمى حجرٍ من أوربا، وعلى ساحل البحرالمتوسط في منتصف المسافة بين المحيط الأطلسي ودلتا النيل، يُعتبر شاطئ مدينة سوسة الرَّملي الشَّاسع من أطول الشواطئ المغطَّاة بأشعة الشَّمس الذَّهبيَّة يقول( توريس) وهوصاحب أهمِّ مدونةٍ سياحيَّةٍ: أسبابٌ كثيرٌة تجعل تونس من أهمِّ الوُجهات السِّياحيَّة بسبب سحروأهميَّة موقعها الجغرافيِّ الذي ساهم في جعلها منارةً للثقافات، وهي من أهمِّ مواقع التُّراث العالميِّ لليونسكو.
إذن محار ديوان شاعرتنا النَّثري، كان معذورًا حين غنَّى، وكيف لا يغني ما غنَّاَه وسيَّدته الجميلة خَلقاً وخُلقاً تسكن وسط بيئةٍ فائقة الحسن،عارمة السِّحر، غزيرة الأصداف، والمحار، وتونس المدينة السَّاحرة جمعتْ الجمال من كلِّ أطرافه حتى شخصنت المحار، وجعلته يغنِّي طربًا بها، ولها.

تُعتبر القصيدة النثريَّة من الأجناس الأدبيَّة المستحدثة التي يجري فيها الشِّعرُ كما حالُهُ في النَّثر ضمنَ إيقاعٍ ٍداخليً لا يقلُّ جمالًا عن جرس القصيدة الموزنة، وقد اهتدى ابن حيَّانَ التَّوحيديِّ إلى حقيقة النثر، وحلَّل مقوِّماته الجوهريَّة تحليلًا دقيقًا مبيِّنًا أهميَّة كلٍّ من عناصر العقل والموسيقا والخيال في قصيدة النَّثر بقوله: إنَّ الشِّعرلا يختصُّ وحده بالموسيقا والخيال؛ بل هما قدرٌ مشتركٌ في الشِّعروالنَّثر، فالفرق بين النَّوعين من الكلام نسبيٌّ، أما الجوهر فواحدٌ، وبهذا فالنثرُ حقلٌ للتَّعبير عن القوة والعاطفة، والنَّثر ذو فائدةٍ بحكم جوهره، إذ يسخِّرالكاتب كلامه فيه لأغراضه : كان السيد (بردان) يصطنع النَّثر لالتماس حقِّه، بينما هتلر حين اصطنع النَّثر فبغاية الإعلان عن الحروب على بولونيا، أمَّا أرسطو فيرى أنَّ المجازَ هو خاصيَّةُ تحقِّق شعريَّة الكلام، والكُتَّاب أحوجُ من الشُّعراء إليه؛ لأنَّ مواردَهم الأخرى في الأسلوب أنسبُ من الموارد الشعريَّة، ويُعتبرُ أرقى أنواع المجاز الاستعارة التي تُعتبر شرطًا أساسيًا لشعريَّة العبارة وبلاغتها، وقد استطاعت الشاعرة (لين هاجرالأشعل) من خلال قصيدتها النَّثريَّة أن تجمعَ بين الماضي والحاضر،والأصالة والحداثة، والحبَّ والحربَ، والرَّجل والمرأة ضمن مُدَّخرٍ لُغويٍّ وسياقٍ عاطفيٍّ ،مرةً عبر حواراتٍ خفيَّةٍ وصريحةٍ، وغير مرةٍ من خلال منولوجاتٍ نفسيَّةٍ وأسئلةٍ وأجوبةٍ مكثفَّةٍ وصريحةٍ تارةً، وتضمينيَّة وإيحائيَّة تارةً أخرى ،ونجد ذلك في قصائد الشَّاعر محمود درويش الذي يقول:
كلَّما تخففَّت من جماليَّة الشعرممَّا زاد منها عن الحاجة، وعن فضل القول، ازدادتْ جماليتُه، وقد فعلت الشَّاعرة لين ذلك ووضعتْ قصائدها ذات المواضيع المتعدِّدة في سياق نظامٍ معينٍ ومدروسٍ عنُيَ ببناء الجُمل، ورسْم الصور العديدة المُدَّخرة في ذاتها الشاعرة وذاكرة وجدانها عبرالاستعارات الشعريَّة الصَّريحة منها والمكنيَّة، والتي استطعنا عبرها التعرُّف على نبرة صوتها وتجربتها الحياتيَّة التي نقلتها لنا متجرِّدةٍ من قيود المذكَّرات الشخصيَّة، والمدوَّنات الأدبيَّة القديمة ،بعيدًا عن تلك الطَّرائق الأدبيَّة ذات المراسم المهترئة
تقول في قصيدتها
(صدفٌ مجوف)
صرتُ صدفةً مجوَّفةً
مثل أمَّتي تمامًا
حفظتُ صرخاتِ العجز
من حزني مررتُ بقربه
كان يجلس متكئًا على مركبٍ مهجورٍ
يناشد الفعل بالأدعية
يرفعُ مجدافًا إلى السَّماء
كي لا يخدشَ الرَّمل
كان يسميه شرف المحاولة
ينام طويلاً، يحلم أحلامًا ورديَّةً
والعالم كابوسٌ رهيبٌ
ما تبقى من أحلام المخذول
سوى صدفٍ مجوِّفٍ
فرَّ منه المحار
كان يمضغ الخطابة
ويحفظ جملاً كل أفعاله تسبقها كان أو سوف
والحاضر غائبٌ يا غائبٌ
الحاضر حنظلٌ في فمي
حين تصغي
إلى صدفٍ قديمٍ مثلي
نخره الفراغ
وقد كان قلبه لؤلؤًا يشعُّ بالضوء

الصورة الذهنيَّة في قصيدة شاعرتنا من أهمِّ عناصرالإبداع لديها في بناء القصيدة: "صرتُ صدفةً مجوفةً مثل أمتي"
الصورة الفنيَّة في هذا النَّص قامت على التَّشبيه كأداةٍ بلاغيَّةٍ للتَّصويرعندما شبَّهت أمَّتنا العربيَّةَ المتخاذلة عن نُصرة قضايا شعوبها بالصَّدفة المجوَّفة الهشَّة من الدَّاخل؛ فالتَّجويف كفعلٍ طبيعيَّ عادةً ما يحدث نتيجة فراغ الجسم من الدَّاخل ممَّا يدعمه ويقويه، ويقيه شرَّ المَلمَّات، ونوائب الأيَّام
"من حزني مررتُ بقربه، كان يجلس متكئًا على مركبٍ مهجورٍ، يناشد الفعل بالأدعية"
لقد بدتْ الأمَّة العربيَّة بعجزها الجسمانيِّ وهشاشة مواقفها إزاء قضايا شعوبها وانحطاطها الأخلاقيِّ والقوميِّ عاجزةً عن مساندة أبنائها...أبنائها الذين عافوها وسئموا من تخاذلها وضعفها، وهذا يبدو جليًا اليوم في موقف الحُكَّاَم العرب المتخاذِلين عن نُصرة القضيَّة الفلسطنيَّة والدِّفاع عن غزَّةَ وأهلها سيَّما الأطفال منهم الذين يتعرَّضون لإبادةٍ جماعيَّةٍ لم يسبق لها مثيلٌ حتى في التَّاريخ البربريِّ الهمجيِّ عبر قصف غزَّة بمن فيها برًا،وجوًا،وبحرًا مكتفين نحن الشعوبُ العاجزةُ بالدُّعاء لهم بالصَّبر والثَّبات، وكأنَّ القضيَّة الفلسطنيَّة لم تكن يومًا قضيَّةَ الأممِّ وذمَّة الذِّممِّ.
وتتابع شاعرتنا صاحبة الهمِّ العربيِّ المشترك
"ما تبقَّى من أحلام المخذول
سوى صدفٍ مجوفٍ
فرَّمنه المحار
كان يمضغُ الخطابةَ
ويحفظ جملاً كلُّ أفعاله
تسبقها كان أو سوف
والحاضر غائبٌ يا غائب"

جماليَّة التَّشبيه هنا تجلَّت بهروب المحار من الصَّدف، ويبدو أنَّ شاعرتنا قصدتْ بالصَّدف المجوِّف الحكَّام العرب المتخاذلين عن نصرة قضايا الشعوب المقهورة، واكتفوا بالخطب الرَّنانة عن أمجاد العرب التَّليدة بعد أنْ كُفّتْ أبصارهم عن كلِّ ما جرى في سوح الوطن العربي مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا، ويجري الآن في فلسطين السليبة من قتلٍ وبطشٍ وتنكيل بأهل غزة الذين يتعرَّضون هذه الأيام لمجازر فاشستية عن طريق قوى راديكاليَّة مهيمنة ومذابحَ وحشيَّةٍ تجري على مرأى ومسمع المجتمع العربيِّ والدُّولي من محيطه إلى خليجه دون أيِّ اعتبارٍ للقانون الدولي ومحرَّماته ودون مرعاةٍ لحقوق الإنسان ولا لأسس منظَّماته، ويتجلَّى ذلك بقولها:
"والحاضر غائبٌ يا غائب"
لقد أبى الحُكَّام العرب إلا أن يغيِّبوا أنفسهم عن إجرامية المشهد، وترك شعوبهم العربية عُرضةً للقدح والذَّم والشَّتم بسبب تخاذل الأوَّلين عن نصرة دين الحقِّ، والدِّين موقفٌ

"الحاضر حنظلٌ في فمي يُصغي إلى صدفٍ قديمٍ مثلي نخرَهُ الفراغُ وقد كان قلبه لؤلؤًا يشعُّ بالنُّور"
في الوقت الذي لا نملك فيه نحن الشعوب المستضعفة إلا تجرَّع كأس الخذلان مرًا بطعم الحنظل نشكو من ضعفٍ وعجزٍ وهوانٍ بعد أن كنا أصحاب عزةٍ ومجدٍ وفتوحاتٍ، وتاريخنا العربي يشهد بذلك، لكننا عاجزون الآن حتى عن تسجيل موقفنا الرافض وبشدِّة لما يجري من مذابح ومجازر في قطاع غزة
تقول في نفس السياق في نص (ثغرٌ مبتسمٌ ومشموم فلٍّ):
"إنِّي التونسيَّة
التي احترفتُ رميهم
بسهام ريشتي
إنِّي القَرطاجيَّة
أضلعي اكتوتْ بماء الغرباء
لم ينُج من بطشهم أحدٌ يعصرون أجسادّنا
ويصبون ماءنا نَخْبًا
في كؤوسهم
ودمنا يا نزار
يغلي في أكوابهم
يغلي في بطونهم
هم يرقصون سكرى
والدَّم يبقبق في أجسادهم
بفمٍ ملجمٍ"

نجد أنَّ التَّشبيه عند شاعرتنا في هذا النص تحوَّل إلى استعارةٍ مكنيّةٍ معتمِدةً على المجاز المرسل في تشخيص المجرَّدات، وتأليف ما يختلف، إذ شبَّهت دماءنا العربية المُراقة والمُباحة بالنَّار التي تغلي في بطون الجُناة، فتأتينا عبر هذه الصورة بالحياة والموت مجموعَين كما الماءُ والنَّار مجتمعان، فكلما كان التَّباعد بين الَشَّيئين أشدَّ، كانت الصورة إلى النِّفوس أجملَ وأعجبَ.

تكاد لا تخلو قصائد شاعرتنا من تجارب النَّاس وحكاياتهم العامَّة، وقد سلَّطتِ عليها الضَّوء من خلال نظرتها الخاصَّة؛ فنزلت بقصائدها من أبراج الشُّعراء العاجيَّة، وخلعت عنها قمصانهم البيضاء ذات الأكمام المكويَّة والمزرورة بأناقةٍ، وتجرَّدت من الياقات العالية المنشَّاة ودخلتِ البيوت بفؤادها الذي يشبه أفئدة الطير لشدة رقته، فتضحك وتبكي معهم. تقول في قصيدة (هروب) وقد أهدتْها إلى أبيها رحمه الله:
"حين ذُعرتْ في الرُّكن
حمامتكَ النائمة
وصرختْ أمُّنا الهائمة: أحمد كنتُ يا قلبي
أجمع رذاذ أنفاسكَ الأخيرةَ
في قارورة عطري
لأرشَّ بها قصائدي
عندما يهرب وجهك
من الدِّيوان"

أتساءل هنا بدوري كقارئةٍ: هل تُجمع الأنفاسُ في قارورةعطرٍ، وهل نستعيضُ بالأنفاس عن العطر ذاتهِ عندما تكون لأبٍ يُحتَضَرُ، تتاسبق أنفاسه الأخيرة بين شهقة الحياة، وزفرة الموت؟!
ثمَّ: هل تهرب الوجوه من أفنية البيت وديوانه؟! من للدِّيوان أنْ يجلسَ فيه ويشغله بعد ذلك -وعن جدارةٍ- إذًا
يسمح التَّشخيص في هذا النَّص بنقل الحركات والأفعال وأوصاف المشبَّه إلى المشبَّه به، وهوالإنسان عندما شبَّهت نفسها بالحمامة النَّائمة، وقصائدها بجسمٍ بشريٍّ ترشُّ عليه رشات عطرٍ جمعتها للتَّومن أنفاس أبيها الأخيرة قُبيل أنْ يلفظَها، وقُبيل أنْ يهربَ وجهُ أبيها من الدِّيوان، ومعنى الدِّيوان هنا الصَّدر الأعظم لسيِّد البيت وصاحب السُّلطة والحظوة فيه.

لم تنسَ شاعرتنا الجميلة أنْ تتغنَّى بالحبَّ والعشق في قصائدها رغم ثقتها الكبيرة أنْ لا حبَّ حقيقي في هذا الحياة، وأنَّ ما يسمونه عشقًا هو محضُ أوهامٍ وأضاليلَ تقول في قصيدتها( إبحارٌ في أوهامٍ):
"بعد غيابٍ طويلٍ
حملتنا خطى حبيبي
إلى شاطئ روسبينا
استلقينا على رملٍ رتيبٍ صامتَين متجانبيَن
وتحت وقع الاعتراف
لمعتْ عيناي مغفرةً
بسمتُه مزَّقت ثوب اللَّوم
عاريَين يكسونا الَّرمل
نُصغي إلى وشوشات
صدفةٍ تائهةٍ
نتراشق بحبات الرمل
نشكله دائرةً وهلالاً
أنتفض من رملي
وأرتمي في حضن الموج
أرقص لحبيبي
فوق ركح الماء في دلالٍ يفاكهني..يُضحكني.. يُبهجني مالت الشمس
وعلى بساطٍ من سكونٍ
استترنا خلف رداء المغيب فتآلف حضنان
نجمان في السَّماء
ونجمان يبرُقان
في عُباب الماء"

نلاحظ أنَّ الشاعرة استثمرت بيئتها البحريِّة في تشخيص الحبِّ عندما حرَّكت الرَّمل الصَّامت الرَّتيب، وجعلته صلصالاً بين يدي الحبيب ويديها مستنطقةً إيِّاه بعد أن بثَّتْ فيه روح الحياة؛ فجعلته أكثرإثارةً؛ فنقلتْ إليه شكل الهلال تارةً، وشكل البدر بتمامه تارةً أخرى، وأنسنتِ الموج بعدما ارتمت في حضنه كحبيبٍ تمارس معه طقوس الحبِّ، فقفزتْ بإدراكنا من المجرَّد إلى الحسيِّ ونقلتْ الصور من السِّاكنة إلى المتحرِّكة؛ فازداد إحساسنا بالشَّيء عبر جعله حيًّا وحسيًّا، وولَّدت معانٍ جديدةً للحبِّ والعشق رغم وهميَّته. ورغم تشيُّؤ المجرَّدات عند شاعرتنا، وقوة المجاز في تصويرها، سعتْ كذلك لخلق رؤىً جديدةٍ لمواضيعها؛ فرسمتْ بريشتها صورًا مميَّزةً وجميلةً متناوبةً بين الكناية، والاستعارة، والتشبيه، والمجازات اللغويَّة، والفكريَّة بمتوالياتٍ شعريَّةٍ متطابقة ومتناقضة في آنٍ معًا فوق مسرحٍ بشريٍّ كبيرٍلأبطال نصوصها الذين قاموا بأدوارهم على أحسن صورةٍ، وأتم ِّوجهٍ، يَقتلون فيه ويُقتلون، يضحكون ويبكون، يتحَّابون ويتشاجرون، وبعضهم يقترفون الحبَّ على استحياءٍ، يشربون خمر حروفها ويسكرون، يمارسون طقوس عباداتهم؛ فيؤمنون ويكفرون، ينتصرون على أنفسهم، وتهزمهم فإذا بهم منهزمون من حيث حسبوا أنَّهم كانوا منتصرِين.

من الجدير بالذِّكر أنَّ موضوع الضَّوء كان مثار معظم نصوص شاعرتنا، والفكرة المهيمنة على أغلب نصوصها كمن يبحث عن خلاصٍ من عتمة السُّجون وظلامها، ويتطلَّع إلى الحريَّة والنُّور للخروج من شرنقة الجسد إلى سماء القلب، ومن نور العين إلى ضياء البصيرة، فعلاقة الضَّوء والظلِّ في نصوص شاعرتنا علاقةٌ تكامليَّةٌ، لا يمكن فصلهماعن بعضهما أبدًا، إذ من اللامنطقيِّ أن يكون هناك ظلٌ دون ضوءٍ؛ فلولا الضوء ما تشكَّل الظلُّ.
تمتلك ثنائيَّة الضَّوء والظِّلِّ قدرةً إيحائيةً أبلغُ بكثيرٍ من قدرة باقي الألوان الصارخة، إذ لا يمكن أن يكون هناك لونٌ دون إسقاط الضَّوء عليه، وفي حديث الوحيِّ: يسمع الصَّوت ويرى الضَّوء، وللضَّوء أهميةٌ تعبريَّةٌ من الناحية الفنيَّة، من شأنه أن يرتقيَ بمستوى التَّصوير البصريِّ؛ لجعله من فنون الدَّرجة الأولى لما له من فضلٍ في توصيل الفكرة الحسيَّة والشعوريَّة.
لقد امتلكت الشَّاعرة ( لين هاجرالأشعل) إحساسًا مرهفًا يسعى للظهور؛ فيصرخ فيها الوطنُ والحزنُ والحبُّ والفرحُ لتكتبَ كلَّ ذلك بضوئها الدَّاخلي وقد ازدحمت روحها بالمشاعرالإنسانيَّة الباطنة حتى أضاءَتها بحواسها الدَّاخليَّة،ومن ضمن هذه القصائد قصيدة( لماذا) تقول فيها:

"يوم عشقتُكَ
استحتِ الأوجاعُ
في حضرة النُّور
وسجَّلتُ دقاتُ قلبي
أغنية روحي العائدة
مذ عشقتكّ
تلملم قصيدتي عظامها
خيفة الاحتراق
بلهيب الضوء"

تقول عن الضوء والعتمة كذلك في نصها (تونس):
"أنا ابنة الضوء
أشرف على الضفتَين
أمدُّ يدي إلى البحر
كي ينهلَ من عمق روحي
سَّميتُه الأبيضَ
حين أهديتُه روحي
وسماَّني تونسَ
حين رافقتُ وحدتَه
في اللَّيل الطَّويل"

نلاحظ أنَّ ديوان الشاعرة لين بدأ بقصيدتَين عن القيد والسَّجن في وطنٍ مهزومٍ مكبَّلٍ، تتحكمَّ فيها القوى العظمى، يسعى أبناؤه لنيل حريَّاتهم كما في قصيدة (ثغرٌ مبتسمٌ للضوء) وقصيدة (ما تبقَّى من أحلام المخذول )
وانتهى في القصيدتين الأخيرتين بالحرية وكسر القيود من خلال نصّ (القوقعة)
ونص (أنا امرأةٌ حرةٌ )
مرورًا بقيودنا المجتمعيَّة والعاطفيَّة أثناء بحثها الحثيث عن الضَّوء المنبثق من عتمة ليل.
تقول في قصيدتها
ثغرٌ مبتسمٌ للضوء:
"جسدي وطنٌ كبيرٌ
دمعه من
مجردةَ والفراتَ والنيلَ
حلَّفتُكِ يا شامُ
بخفقان الأجنجة
في السِّماء الواسعة
بدموع الأمِّهات الثكالى
وهنَّ يشيِّعنَ جثامين أبنائهنَّ إلى التراب
أن تلدي طفلةً لها عينان من فرحٍ
وثغرٌ مبتسمٌ للضوء:

فالشَّاعرة وصديقها المحار"بطل الديوان" أنشدا كلَّ أناشيد الحريَّة، ثم غنَّيا لبعضِهما بعد أن فرَّا من قمقمهما نحو الفضاء الفسيح أملاً منهما أن يتحرَّرا ووطنهما العربيُّ الكبيرُ من الظلم والضعف والتَّخاذل والتبعيَّة، وسعيًا منهما لكسر القيود المجتمعيَّة التي تعلو فوقها بالحبِّ؛ لتباهي بحريَّتها قائلةً في نصِّها (أنا امرأةٌ حرةٌ):

"أنا امرأةٌ حرَّةٌ
دُستُ ظنونَهم الباليةَ
أنا أحلامُ الحقيقةِ
وأجنحةُ العقلِ
والقلبُ المضيءُ
في سماء الجسد"

لين هاجر الأشعل: كاتبةٌ تونسيَّةٌ حاصلةٌ على شهادةٍ جامعيَّةٍ عليا في تاريخ الفنون، وشهادةٍ جامعيَّةٍ عليا في النَّظريات النَّحويَّة وشهادة الأستاذيَّة في الآداب الفرنسيَّة، من مساميرها الأدبيَّة إضافةً إلى ديوانها الشِّعري (حين غنَّى المحار) الصَّادر عن دار البياتي بتونس مجموعتان قصصيتان: الأولى ( ضحكاتٌ وامضةٌ) صادرةٌ أيضًاعن دارالبياتي للنَّشر بتونس والثَّانية(مراوغةُ حلمٍ) عن دار أمنية للنشر في القيروان، محررة مقالاتٍ أدبيَّةٍ وثقافيَّةٍ بمجلة فنون التونسيَّة، ومجلة معرفة وعطاء اللبنانيَّة، سفيرة الإنسانيَّة والثقافة العربيَّة في تونس لدى منتدى ثورة قلم لبناء إنسانٍ أفضل مونريال صدرت لها ترجماتٌ أدبيَّةٌ في مجلاتٍ عربيَّةٍ، ونصوصٌ قصصيَّةٌ وشعريَّةٌ في العديد من الكتب الورقيِّة والمواقع الأدبيَّة الالكترونيَة

تقول في قصيدتها (هويّة)
أنا لين
أنا الجمعُ
نُخيلاتٌ يَتُقْنَ إلى السَّماء
وخمرتي من نسغ الشِّعر
قصائدي من تمرٍ
وقلبي لفظه الرَّمل نواةً
في أرض العاشقين
هناك في الجنَّة
تعددَّت أسمائي.

إيمان فجر السيد/ سوريا




1.jpg



2.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى