المستشار بهاء المري - الذنْبُ والجُنون..

لم أنشغلُ بأحوال المجانين من قبل، سوى بما يتعلق بمسئولية أحدهم الجنائية عن جُرم ارتكبه وهو تحت تأثير الجنون، أو ما شابه ذلك من آفاتٍ عقليةٍ أخرى تَعدِم الإدراكَ والتمييز لديهم لحظة إتيان هذا الجُرم.
ولكنَّ قضية هذا الشاب نَحَتْ بيَ مَنحىً آخر بشأن هؤلاء، لأتساءل: ما طبيعة العالَم الذي يعيشون فيه؟ هل هو عالم من الأحلام، أم دنيا أخرى من صُنع الخيال والأوهام؟ أم أنهم يرَوْنَ ما هُم فيه واقعًا، وأنَّ الناس هم الشَّواذ عن الناموس، وهل لو عادت إليهم عقولهم وتبينوا سبب ما ذهب بها، وأدركوا سر جنونهم سيطلبون الموت؟ أم سيَلتمِسُون الجنون مرة أخرى ليعيشوا في هذا الخيال، وهل بعد أن تحرروا من شرائع المجتمع وسُنَنه وقوانينه، لم يعد شيء في نظرهم مُستحيلًا حتى لو كان الحديث مع الله كما يتحدث الناس إلى بعضهم.
اعترفَ اعترافًا تفصيليًا دقيقًا ينمُّ عن مُدركٍ واعٍ لكلِّ ما فَعل، ويَبِينُ منه كيف تَفَكَّرَ في قتل المجني عليه قبلها بنحو عدة شهور، وكيف رسم بدقة خُطة اختيار الوقت الأمثل للتنفيذ بعد دراسة واعية لجميع تحركاته، وكيف فطَنَ لشراء آلة القتل من بلدة أخرى حتى لا يشك بائعو السكاكين في بلدته في أمر شرائها.
انتظرَهُ فجر ذلك اليوم من شهر يناير حتى يعود، ولم يُثنه عن عزيمته هُطول الأمطار بغزارة ولا قسوة الرياح وشدة البرودة، اختبأ خلف شجرة غليظة الجذع متشابكة الفروع كثيفة الأوراق، أبصره يُدير المفتاح في باب منزله، يفاجئه من الخلف، يُطوِّقَ رقبته بذراعه الأيسر، يَكُمُّ فاه بِكَف ذات اليد، يضربهُ يذبحه بالسكين الكبير الحاد ذبح الخراف، يفقد القتيل اتزانه ويهوى جاثيًا على ركبتيه، يَمرُّ بالسكين يمينا ويسارا على جانبي رقبته، ينهار الجسد، يُعاجله بعدة طعنات نافذات في الصدر والبطن، تساعده قوته الجسدية على إزهاق روحه في لحظات تحت جُنْح الظلام.
معلومات رجال البحث تُميط اللِّثامَ عن خُلْفٍ كان بينهما، يسألونه فيعترف.
يقول الناس إنه مجنون، لم يُصدِّق المحقق قالتهم، كان يسترسل في حديثه استرسالاً طبيعيًا ومنطقيًا، عباراته مترابطة، يشعر بالمكان والزمان، لا يهذي بكلماتٍ غير مفهومة، ولكنه استمع إلى شهادتهم وأثبتها في أوراقه.
يعيش مع أمِّه الأرملة وأخته الوحيدة، قوى البنية يعمل في المعمار لبعض الوقت، وتعمل أمه في أي منزل إذا تَعطل هو عن العمل، وتساعدهما أخته في أعمال الحقل أحيانا، حَسَن العلاقات بجيرانه وأهل بلدته.
وفجأةً ينقطع عن عمله، يَعاف الناس، يَهجر العمل، لا يُغادر المنزل، ساءت حالته ويرفض التحدث مع أحد، وإذا حدثته أمه أو أخته هاج هيجانا مُدمِّرا.
لزم بعدها سطوح المنزل ليل نهار ورفض أن يغادره، وعَجز أهله وجيرانه عن إقناعه بالعودة إلى حجرته، ولما حلَّ الشتاء تكافَل أهل القرية وبنوا له غرفة فوق السطوح تحميه من برد الشتاء، واختاروا طفلًا من الجيران ينقل إليه الطعام على السطوح، نظرا لعدائه المفاجئ لأمّه وأخته، أمَّا قتْل جاره فكان مفاجأة لهم جميعا.
يُودَع لمدة خمسة وأربعين يوًما مستشفى الأمراض العقلية، يقطع تقرير المستشفى بجنونه السابق على القتل.
قُضِىَ الأمر بالتقرير وصار بريئًا في نظر القانون، ولكنَّ فُضولاً كان قد تملَّكني منذ بدء محاكمته للوقوف على سِرِّه ولم يغادرني حتى بعد ورود التقرير، كيف يعترف وهو مجنون اعترافًا تفصيليًا دقيقًا هكذا؟ وما سبب جنونه وهذه شهادة الجيران؟ وما علاقة ذلك بالجار الذي قتله بجنونه؟
دعَوتُه ودفاعه بغرفة المداولة وسألتُه، عاد ليعترف بجُرمه الذي صار منه قانونًا بَراء، لم أشأ أن أقاطعه، يتلفَّتَ عن يمينه وعن شماله، يُشير لمحاميه فيقترب منه، يهمس في أذنه بشيء، قال محاميه إنه لا يُريد أن يُسمِع الحاضرين، أبقيتُ على محاميه فقط واستأذنتُ الباقين في الخروج، ودار بيننا حديث:
- هل تعرف القتيل؟
- كان جارى.
- لماذا قتلته؟
- سمِعَني وأنا أتكلم مع الله وقال للناس، وكانوا يضحكون علىَّ.
- وهل كلمكَ الله؟
- طبعًا، كنتُ أطلع على السطح ليَسمعني، كلَّمته وردَّ علىَّ الكلام.
- وفيم تحدثت مع الله؟
يَصمت بُرهة ويَخفض بصره قليلاً إلى الأرض ويستكمل قائلاً:
- قلتُ لهُ سامحني لمُعاشرتي أمِّي وأختي كالأزواج، حكَيتُ له كل ما حدث، قلتُ له إنَّ ذلك كان غصبًا عنِّى، أيام كثيرة لم يَرُد علىَّ الله، فبقيتُ على السطح حتى ردَّ عَلىَّ، قال لي: أنا سامحتك.
يُمسِكُ عن الكلام فجأة، تتَّسع عيناه، يرتعد جِسمه، يُطْبِقُ كلتا يديه على هيئة قَبضة، يهزُّهما بشدَّة وهو ينتفض، تعلو طبقات صوته، يقول: "جارى كان يتنصَّت علىَّ في كل ليلة، قال للناس كل ما قُلته لربنا، لماذا يقول للناس ما قلته لربنا"؟ ثم أغمض عينيه وولَّى وجهه شَطر الحائط وراح في نوبةٍ بكاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى