....لا تحرموا الإنسان من خياله ، لا تدمّروا خرافاته ، لا تخبروه الحقيقة .... لأنه لن يتمكن من العيش من خلال الحقيقة ! ....
تتجلى ملء خيالها عن شوارد حقائقها ، تلكم هي الرواية الفلسفية
أليست الرواية خيال ؟ أليست الفلسفة بحث عن الحقيقة الشاردة ؟
فالأدب الذي لا يتفلسف، والفلسفة التي لا تتأدّب يحملان مقومات الفناء العاجل . إنّ المتأمّل هذا القول لنتشة أديب الفلاسفة الغربيين بامتياز ، يدرك كيف يمكن للرواية أن تؤدّي دورا بارزا في نقل الفكر الفلسفي من إطاره الجامد إلى متناول الناس، ضمن سياقه الصحيح، و كيف تسهم الرواية الفلسفية ــــ من خلال أشكلة أحداثها - في نشر الوعي النقدي التنويري ، وإمكانية العلاج بها، على صعيدي الفرد والمجتمع والعلاقات، لتنوب الرواية عن الفلسفة في عرض مشكلات الحياة ، و لا شكّ في أنّ الرواية الفلسفيّة تشكّل حلقة وصل بين الفيلسوف المعتزل في برجه والعوام، بمعنى أنّ الفيلسوف الروائي هو ذلك الماهر في تفكيك أنساق الفلسفة وتذويبها في قالب روائي، مستنطقا أفكاره الفلسفية على ألسن شخصيات الرواية ، وجعلها إكسيرا تتداوى بها . وقد أثبت واقع الأدب ، أن الكثير من النصوص الأدبية المتمثلة في الرواية مُشاكسة بعض الشيء، مُستعصية، و مغلقة يصعب فهمها في بعض الأحيان ، ما لم يبذل القارئ جُهدا مُضاعفا يُتيح له الولوج إلى متاهة النص الإبداعي بهدف استكشافه، وفكِّ طلاسمه ورموزه، والتأمل في معانيه العميقة التي تمنح المتلقي شيئا من المتعة والفائدة، وبعض الإدهاش ، و لا شكّ في أنّ الرواية الفلسفية غالبا ما يتلقفها قارئ حاذق بهوية بلومية و ذائقة أدبية يتمتع بذات قابلة على إعادة تشكيل وعيها. و فكّ شيفراتها ، في الوقت الذي يقبل الكثيرين من شتى مشاربهم وتخصصاتهم على قراءة الأدب وسرعان ما يملّ القارئ ويضمحلّ المقروء ويتراجع المؤلف ، أمّا الفلسفة فلا تُقرأ إلّا من قبل نخبة قليلة إذا ما قورنت بقرّاء الأدب ، و هذا ما جعل الرواية الفلسفية تتمتّع بإمكانات انتشارها كعمل أدبي يلّبي ذائقة كثيرين، باختلاف موضوعاتها وأساليبها، وبلغتها السردية والإخباريّة التفسيريّة القادرة على مساندة النسق الفلسفي في التبسيط والتحليل والاستنتاج، في إطار جذّاب، يشدّ القارئ إلى تبنّي فلسفة ما دون التصريح الواضح بنظرياتها الفكرية الجافة الجادّة المجحفة في حق الوجدان والخيال . ليعزّز موقف نتشه الفيلسوف العربي اللبناني "كمال الحاج " ضمن موسوعته الفلسفية، و يؤكد أنّ تلاحم الأدب والفلسفة يجعل من الكتابة في شتى المجالات أدبا خالدا :" أدب لا يتفلسف، وفلسفة لا تتأدّب يبقيان بدون بقاء، لأنّ كلًّا منهما واجب وجودٍ للآخر. وهذا يعني أنّ فلسفة الأدب هي ذاتها أدب الفلسفة. أقصد بالفلسفة الروح الفلسفية، وهذا بنيان. الروح الفلسفيّة هي نزوع إلى تلميح الغيب في كلّ منظور، وإلى تكشّف مادة اللانهاية في نهاية المادّة. الروح الفلسفية تبني حكاية النفس من جديد، من دون أن تشكو مللًا......الأدب الخالد هو أدب المعضِل… الأديب الخالد هو الذي تحرقه الـ لماذا النقّاقة" ج10ص60.
ولكي نوسّع من دائرة التأثير الفلسفي على نشاط الكتابة ، فإنّنا لا نتوقف عند الرواية بل نتجاوز المقولة :" الانسان حيوان حكّاء " إلى ما يميّز الانسان عن باقي المخلوقات كصفة عارضة كونه "فنّان " بالعقل والذائقة ، و إن اشترك مع الحيوان في الصفة والتي لا تعدو أن تكون غريزة لديه . لنعلن إذن أنّ الرواية فن ، وانّ الشعر فنّ أيضا و كلاهما يتسامى بتقمّص الفكر الفلسفي في زيّ أدبي ساحر .
الخيال روح الرواية الفلسفية و القيم غايتها الأسمى .
بين الاستشراق والاستغراب بعدان أساسيان يتجليان في علاقة التنافر و التّناحر وعقدة الأسبقية ، وينبثق عنهما بعد ثالث هو التناغم وحتمية التأثير والتأثّر ، و قد أثبت التاريخ و أركيولوجيا الذّاكرة أنّ الحضارات تتلاقح و تستعير من بعضها البعض رغم الصراع الديني. ولعل ظاهرة التنافر لا تنحلّ إلا من خلال التسلّح بالنزعة الإنسانية المفتوحة . ولا شك أنّ الرواية عموما والفلسفية خصوصا ، من أهمّ الصنائع والفنون الإنسانية التي أثّرت في العلاقة بين الشرق والغرب بالإيجاب ، فالمجتمعات منذ ظهورها تبحث عن أسباب ازدهارها الكامنة في الفلسفات التي تنتهجها لتغيير مجرى الحياة نحو الأفضل ، ولا تجد تلك الفلسفات أفضل من ثوب الرواية للظهور به للعامة والخاصة ، ما يجعل القرّاء يقبلون على الرواية الفلسفية لأغراض براغماتية فضلا عن أدائها الفنّي الإمتاعي . تعود الإرهاصات الأولى للرّواية الفلسفية التي تحمل عناصر النضج السردي إلى المبدع الأمازيغي من أصول رومانية " لوكيوس أبوليوس " أو أفولاي باللغة المحلية الأمازيغية من خلال روايته "المسخ " Metamorphoses أو " الحمار الذهبي " حسب الترجمات اللاّحقة ، يظهر خيال الراوي بارزا في روايته السيرية الخيالية التي تعتمد على الأسطورة والخرافة في طابع كوميدي ساخر ، أما غايتها فقد تجلّت في سعي الكاتب إلى انتقاد العقول الظلامية في ذلك العصر، وتسفيه سلوك الأباطرة في القضاء الروماني والسحرة..
بين حفريات ذاكرة الموروث الأدبي لا يمكن أن نمرّ إلى الرواية الفلسفية الغربية دون أن نعرّج على المساهمات العربية السبّاقة والتي كانت أساسا لميلاد فلسفات مروية لاحقة ، فقد تجسّدت في رواية "حي بن يقظان " التي بدأت كقصّة على يد فيلسوف الأطباء الشيخ "ابن سينا" وحوّلها الفيلسوف الأندلسي " ابن طفيل " إلى رواية خلال القرن الثاني عشر الميلاديّ ، لتتحوّر عبر مفاهيم صوفية أعاد صياغتها شيخ الإشراق السهروردى تحت مسمّى "الغربة الغريبة" والتي كرس من خلالها الحدس والذوق لبلوغ الحكمة المشرقية . تعدّ رواية حي بن يقظان من أهم القصص و أكثرها إثارة وشهرة في التراث الفكري العربي الإسلامي، وأحد أكثر الكتب تأثيرا على الأدب العربي و الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لذلك اعتبرها النقاد جسرا لتمرير الحضارة من الشرق إلى الغرب ، و إسهامها بشكل ملفت في قيام الثورة العلمية والتنوير الأوروبي ، فتستلهم من غاية الرواية قناعة ان الانسان يتعلّم بالتجريب وتظهر تلك الأفكار في كتب "هوبز" و " جان لوك " رواد المدرسة التجريبية ، ويستمر سحر الرواية والأفكار المعبر عنها في التأثير حتىّ يطال السينما الغربية فتنسج أفلاما ناجحة وذات شهرة امتدت لعصرنا و استمدت روحها من رواية " حي بن يقظان" على شاكلة " موكلي " و " كروزو" و " طارزان " ...و تزامنا مع ازدهار الفكر الفلسفي في عصر التنوير فى أوروبا، لجأ الكثير من الفلاسفة الى الرواية باعتبارها الشكل المقروء الأكثر انتشارا لكى ينشروا أفكارهم الفلسفية لتسفر عن مجموعة روايات غاية في الامتاع والاقناع ... هكذا يبدع نتشة في استجلاء المثل العليا في رواية "هكذا تكلّم زرادشت" ، وبين التفاؤل والشك تتغلغل فلسفة الإرادة و الأخلاق لـ " دوستويفسكي " في روايته "الإخوة كارامازوف " ، ليبلغ الخيال أوجه و تجري العبثية مجرى الواقع فتتجلى في روايتى " المسخ " لكافكا " و "الغريب " لالبير كامو ، أما الخفة و السلاسة فيستحوذ عليها ميلان كونديرا وهو يستعرض أفكار خفة الوجود وانعكاسات أفعالنا وقراراتنا على الوزن الذي نحدثه في الوجود من خلال روايته " كائن لا تحتمل خفّته " . وعلى الصعيد العربي و من أجرأ ما طرح في عالم الرواية " حدّث أبو هريرة قال " للروائي التونسي الفذ محمود المسعدي ، عالج فيها بكل جرأة قضية الجسد في المجتمع العربي مقتبسا من فلسفة نتشة ليتلكأ وينحاز بعض الشييء ويميل لآراء ابن حزم مما أورده في طوق الحمامة . و مما يثير الثناء والمتعة رواية للروائي الليبي إبراهيم الكوني بعنوان " روح البعد المفقود'' و هي سيرة رؤيوية ذات نزوع وتوجه فلسفي بملامح صحراوية ، تتناول رؤيته الخاصة للأمور والظواهر. وتعالج جملة من التأملات الفلسفية كالجمال والهوية والعنف والاغتراب والحرية والموت.، فتنبثق من خلال هذه الحيثيات و التي تظهر جلية أيضا في روايته "الناموس " ، لينضج الإمتاع السردي وتتسامى النظرة الفلسفية ببعدها ما بعد الكولنيالي على يد الروائي السوداني القدير الطيب صالح في روايته الشهيرة " موسم الهجرة إلى الشمال " التي تظهر بملمح إيروتيكي يعالج في اعماقه الصراع بين الغرب والشرق ضمن المثلث الجدلي المشبوه المشدوه في المجتمعات العربية (السياسة ، الدين ، الجنس ) ، ولا يمكن ان نذكر الرواية الفلسفيةالعربية دون أن نشيد بإنجازات و إضافات الروائي الجزائري " واسيني لعرج ، فرواياته وكتاباته بشكل عام منبع تراثي مهم لما لها من طابع تاريخي زاخر تتخلّلها رؤى ورموز قيمية تغني التجارب الإنسانية ، خاصة التجربة الصوفية المتعدّدة الدلالة ، المستوحاة من فلسفة العرفان عند شيخ العارفين محي الدين ابن عربي ، وفلسفة الحب المستوحاة من انشطارات فلسفة الرفض لدى نتشة و فلسفة التأصيل والتعليل لدى ابن حزم ليخرج لنا رواية " سيرة المنتهى " في منتهى الروعة و النضوج السردي الصوفي الفلسفي الممتع .ونعرج ضمن هذا الاستعراض على نماذج من الرواية الفلسفية الآسيوية على غرار " قواعد العشق الأربعون " للتركية إليف شافاق ، " هيفين " للروائية اليابانية " ميكو كواكامي التي تعالج من خلال الرواية ظاهرة العنف والتنمّر وخلق فلسفة تبرز من خلالها ملكية الجسد وحدوده ضمن توليفة قيمية مستمدة من فكرة الحرية والمسؤولية والعقاب .
ضمن هذا النص نكون قد ذكرنا أهم الفلاسفة الروائيين والروائيين الفلاسفة الذين خلدّوا أسماءهم من خلال رواياتهم التي حقّقت نجاحات فرضت نفسها على الساحة الأدبية الفكرية ، بما أوردت من تساؤلات جريئة، أو لأنها حلّقت بالقراء في فضاء مليء بالغرائب و المعضلات والتناقضات التي ظلّ الإنسان هو محورها الأساس و السائر منها و إليها ، فالإنسان الذي شغل الورى وعمّر الأرض وملأ الدنى كان وما زال يشكّل اللغز الأعظم للإنسان نفسه . في تعاسته تساؤلات وفي سعادته سجال ، إذ أن لكل البشر حياة قد تتشابه من حيث الجوهر لكنّها لا محالة تختلف في ماهيتها و مظهرها .
....................................................................
ليلى تبّاني من الجزائر .
تتجلى ملء خيالها عن شوارد حقائقها ، تلكم هي الرواية الفلسفية
أليست الرواية خيال ؟ أليست الفلسفة بحث عن الحقيقة الشاردة ؟
فالأدب الذي لا يتفلسف، والفلسفة التي لا تتأدّب يحملان مقومات الفناء العاجل . إنّ المتأمّل هذا القول لنتشة أديب الفلاسفة الغربيين بامتياز ، يدرك كيف يمكن للرواية أن تؤدّي دورا بارزا في نقل الفكر الفلسفي من إطاره الجامد إلى متناول الناس، ضمن سياقه الصحيح، و كيف تسهم الرواية الفلسفية ــــ من خلال أشكلة أحداثها - في نشر الوعي النقدي التنويري ، وإمكانية العلاج بها، على صعيدي الفرد والمجتمع والعلاقات، لتنوب الرواية عن الفلسفة في عرض مشكلات الحياة ، و لا شكّ في أنّ الرواية الفلسفيّة تشكّل حلقة وصل بين الفيلسوف المعتزل في برجه والعوام، بمعنى أنّ الفيلسوف الروائي هو ذلك الماهر في تفكيك أنساق الفلسفة وتذويبها في قالب روائي، مستنطقا أفكاره الفلسفية على ألسن شخصيات الرواية ، وجعلها إكسيرا تتداوى بها . وقد أثبت واقع الأدب ، أن الكثير من النصوص الأدبية المتمثلة في الرواية مُشاكسة بعض الشيء، مُستعصية، و مغلقة يصعب فهمها في بعض الأحيان ، ما لم يبذل القارئ جُهدا مُضاعفا يُتيح له الولوج إلى متاهة النص الإبداعي بهدف استكشافه، وفكِّ طلاسمه ورموزه، والتأمل في معانيه العميقة التي تمنح المتلقي شيئا من المتعة والفائدة، وبعض الإدهاش ، و لا شكّ في أنّ الرواية الفلسفية غالبا ما يتلقفها قارئ حاذق بهوية بلومية و ذائقة أدبية يتمتع بذات قابلة على إعادة تشكيل وعيها. و فكّ شيفراتها ، في الوقت الذي يقبل الكثيرين من شتى مشاربهم وتخصصاتهم على قراءة الأدب وسرعان ما يملّ القارئ ويضمحلّ المقروء ويتراجع المؤلف ، أمّا الفلسفة فلا تُقرأ إلّا من قبل نخبة قليلة إذا ما قورنت بقرّاء الأدب ، و هذا ما جعل الرواية الفلسفية تتمتّع بإمكانات انتشارها كعمل أدبي يلّبي ذائقة كثيرين، باختلاف موضوعاتها وأساليبها، وبلغتها السردية والإخباريّة التفسيريّة القادرة على مساندة النسق الفلسفي في التبسيط والتحليل والاستنتاج، في إطار جذّاب، يشدّ القارئ إلى تبنّي فلسفة ما دون التصريح الواضح بنظرياتها الفكرية الجافة الجادّة المجحفة في حق الوجدان والخيال . ليعزّز موقف نتشه الفيلسوف العربي اللبناني "كمال الحاج " ضمن موسوعته الفلسفية، و يؤكد أنّ تلاحم الأدب والفلسفة يجعل من الكتابة في شتى المجالات أدبا خالدا :" أدب لا يتفلسف، وفلسفة لا تتأدّب يبقيان بدون بقاء، لأنّ كلًّا منهما واجب وجودٍ للآخر. وهذا يعني أنّ فلسفة الأدب هي ذاتها أدب الفلسفة. أقصد بالفلسفة الروح الفلسفية، وهذا بنيان. الروح الفلسفيّة هي نزوع إلى تلميح الغيب في كلّ منظور، وإلى تكشّف مادة اللانهاية في نهاية المادّة. الروح الفلسفية تبني حكاية النفس من جديد، من دون أن تشكو مللًا......الأدب الخالد هو أدب المعضِل… الأديب الخالد هو الذي تحرقه الـ لماذا النقّاقة" ج10ص60.
ولكي نوسّع من دائرة التأثير الفلسفي على نشاط الكتابة ، فإنّنا لا نتوقف عند الرواية بل نتجاوز المقولة :" الانسان حيوان حكّاء " إلى ما يميّز الانسان عن باقي المخلوقات كصفة عارضة كونه "فنّان " بالعقل والذائقة ، و إن اشترك مع الحيوان في الصفة والتي لا تعدو أن تكون غريزة لديه . لنعلن إذن أنّ الرواية فن ، وانّ الشعر فنّ أيضا و كلاهما يتسامى بتقمّص الفكر الفلسفي في زيّ أدبي ساحر .
الخيال روح الرواية الفلسفية و القيم غايتها الأسمى .
بين الاستشراق والاستغراب بعدان أساسيان يتجليان في علاقة التنافر و التّناحر وعقدة الأسبقية ، وينبثق عنهما بعد ثالث هو التناغم وحتمية التأثير والتأثّر ، و قد أثبت التاريخ و أركيولوجيا الذّاكرة أنّ الحضارات تتلاقح و تستعير من بعضها البعض رغم الصراع الديني. ولعل ظاهرة التنافر لا تنحلّ إلا من خلال التسلّح بالنزعة الإنسانية المفتوحة . ولا شك أنّ الرواية عموما والفلسفية خصوصا ، من أهمّ الصنائع والفنون الإنسانية التي أثّرت في العلاقة بين الشرق والغرب بالإيجاب ، فالمجتمعات منذ ظهورها تبحث عن أسباب ازدهارها الكامنة في الفلسفات التي تنتهجها لتغيير مجرى الحياة نحو الأفضل ، ولا تجد تلك الفلسفات أفضل من ثوب الرواية للظهور به للعامة والخاصة ، ما يجعل القرّاء يقبلون على الرواية الفلسفية لأغراض براغماتية فضلا عن أدائها الفنّي الإمتاعي . تعود الإرهاصات الأولى للرّواية الفلسفية التي تحمل عناصر النضج السردي إلى المبدع الأمازيغي من أصول رومانية " لوكيوس أبوليوس " أو أفولاي باللغة المحلية الأمازيغية من خلال روايته "المسخ " Metamorphoses أو " الحمار الذهبي " حسب الترجمات اللاّحقة ، يظهر خيال الراوي بارزا في روايته السيرية الخيالية التي تعتمد على الأسطورة والخرافة في طابع كوميدي ساخر ، أما غايتها فقد تجلّت في سعي الكاتب إلى انتقاد العقول الظلامية في ذلك العصر، وتسفيه سلوك الأباطرة في القضاء الروماني والسحرة..
بين حفريات ذاكرة الموروث الأدبي لا يمكن أن نمرّ إلى الرواية الفلسفية الغربية دون أن نعرّج على المساهمات العربية السبّاقة والتي كانت أساسا لميلاد فلسفات مروية لاحقة ، فقد تجسّدت في رواية "حي بن يقظان " التي بدأت كقصّة على يد فيلسوف الأطباء الشيخ "ابن سينا" وحوّلها الفيلسوف الأندلسي " ابن طفيل " إلى رواية خلال القرن الثاني عشر الميلاديّ ، لتتحوّر عبر مفاهيم صوفية أعاد صياغتها شيخ الإشراق السهروردى تحت مسمّى "الغربة الغريبة" والتي كرس من خلالها الحدس والذوق لبلوغ الحكمة المشرقية . تعدّ رواية حي بن يقظان من أهم القصص و أكثرها إثارة وشهرة في التراث الفكري العربي الإسلامي، وأحد أكثر الكتب تأثيرا على الأدب العربي و الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لذلك اعتبرها النقاد جسرا لتمرير الحضارة من الشرق إلى الغرب ، و إسهامها بشكل ملفت في قيام الثورة العلمية والتنوير الأوروبي ، فتستلهم من غاية الرواية قناعة ان الانسان يتعلّم بالتجريب وتظهر تلك الأفكار في كتب "هوبز" و " جان لوك " رواد المدرسة التجريبية ، ويستمر سحر الرواية والأفكار المعبر عنها في التأثير حتىّ يطال السينما الغربية فتنسج أفلاما ناجحة وذات شهرة امتدت لعصرنا و استمدت روحها من رواية " حي بن يقظان" على شاكلة " موكلي " و " كروزو" و " طارزان " ...و تزامنا مع ازدهار الفكر الفلسفي في عصر التنوير فى أوروبا، لجأ الكثير من الفلاسفة الى الرواية باعتبارها الشكل المقروء الأكثر انتشارا لكى ينشروا أفكارهم الفلسفية لتسفر عن مجموعة روايات غاية في الامتاع والاقناع ... هكذا يبدع نتشة في استجلاء المثل العليا في رواية "هكذا تكلّم زرادشت" ، وبين التفاؤل والشك تتغلغل فلسفة الإرادة و الأخلاق لـ " دوستويفسكي " في روايته "الإخوة كارامازوف " ، ليبلغ الخيال أوجه و تجري العبثية مجرى الواقع فتتجلى في روايتى " المسخ " لكافكا " و "الغريب " لالبير كامو ، أما الخفة و السلاسة فيستحوذ عليها ميلان كونديرا وهو يستعرض أفكار خفة الوجود وانعكاسات أفعالنا وقراراتنا على الوزن الذي نحدثه في الوجود من خلال روايته " كائن لا تحتمل خفّته " . وعلى الصعيد العربي و من أجرأ ما طرح في عالم الرواية " حدّث أبو هريرة قال " للروائي التونسي الفذ محمود المسعدي ، عالج فيها بكل جرأة قضية الجسد في المجتمع العربي مقتبسا من فلسفة نتشة ليتلكأ وينحاز بعض الشييء ويميل لآراء ابن حزم مما أورده في طوق الحمامة . و مما يثير الثناء والمتعة رواية للروائي الليبي إبراهيم الكوني بعنوان " روح البعد المفقود'' و هي سيرة رؤيوية ذات نزوع وتوجه فلسفي بملامح صحراوية ، تتناول رؤيته الخاصة للأمور والظواهر. وتعالج جملة من التأملات الفلسفية كالجمال والهوية والعنف والاغتراب والحرية والموت.، فتنبثق من خلال هذه الحيثيات و التي تظهر جلية أيضا في روايته "الناموس " ، لينضج الإمتاع السردي وتتسامى النظرة الفلسفية ببعدها ما بعد الكولنيالي على يد الروائي السوداني القدير الطيب صالح في روايته الشهيرة " موسم الهجرة إلى الشمال " التي تظهر بملمح إيروتيكي يعالج في اعماقه الصراع بين الغرب والشرق ضمن المثلث الجدلي المشبوه المشدوه في المجتمعات العربية (السياسة ، الدين ، الجنس ) ، ولا يمكن ان نذكر الرواية الفلسفيةالعربية دون أن نشيد بإنجازات و إضافات الروائي الجزائري " واسيني لعرج ، فرواياته وكتاباته بشكل عام منبع تراثي مهم لما لها من طابع تاريخي زاخر تتخلّلها رؤى ورموز قيمية تغني التجارب الإنسانية ، خاصة التجربة الصوفية المتعدّدة الدلالة ، المستوحاة من فلسفة العرفان عند شيخ العارفين محي الدين ابن عربي ، وفلسفة الحب المستوحاة من انشطارات فلسفة الرفض لدى نتشة و فلسفة التأصيل والتعليل لدى ابن حزم ليخرج لنا رواية " سيرة المنتهى " في منتهى الروعة و النضوج السردي الصوفي الفلسفي الممتع .ونعرج ضمن هذا الاستعراض على نماذج من الرواية الفلسفية الآسيوية على غرار " قواعد العشق الأربعون " للتركية إليف شافاق ، " هيفين " للروائية اليابانية " ميكو كواكامي التي تعالج من خلال الرواية ظاهرة العنف والتنمّر وخلق فلسفة تبرز من خلالها ملكية الجسد وحدوده ضمن توليفة قيمية مستمدة من فكرة الحرية والمسؤولية والعقاب .
ضمن هذا النص نكون قد ذكرنا أهم الفلاسفة الروائيين والروائيين الفلاسفة الذين خلدّوا أسماءهم من خلال رواياتهم التي حقّقت نجاحات فرضت نفسها على الساحة الأدبية الفكرية ، بما أوردت من تساؤلات جريئة، أو لأنها حلّقت بالقراء في فضاء مليء بالغرائب و المعضلات والتناقضات التي ظلّ الإنسان هو محورها الأساس و السائر منها و إليها ، فالإنسان الذي شغل الورى وعمّر الأرض وملأ الدنى كان وما زال يشكّل اللغز الأعظم للإنسان نفسه . في تعاسته تساؤلات وفي سعادته سجال ، إذ أن لكل البشر حياة قد تتشابه من حيث الجوهر لكنّها لا محالة تختلف في ماهيتها و مظهرها .
....................................................................
ليلى تبّاني من الجزائر .